الإبادة الجماعية في ليبيا

كتاب الدكتور على عبد اللطيف احميدة  "  الابادة الجماعية   في ليبيا:  الشر تاريخ استعمارى مخفي "  عن معسكرات الاعتقال الجماعي  ابان  مرحلة الاستعمار الإيطالي ، يعد بحثا رصينا وموضوعيا  واول كتاب باللغة الانجليزية عن هذه الجريمة  التي وقعت في الربع الأول من القرن العشرين دون ان تنال أي اهتمام  من مؤسسات الغرب البحثية والاعلامية ولا من بحاثه ومثقفيه وذلك لعدة اسباب  منها :

1-           مصالح الغرب واستراتيجيته تقتضي  الصمت والانكار لمثل هذه الجرائم

2-           طغيان  الاهتمام بجريمة الهولوكوست التي وقعت في اوربا

3-           معظم البحاث  الذين اهتموا بجريمة الابادة الجماعية هم من البحاث والمثقفين اليهود من امثال جورجيو  اغامبين و بريمو ليفي  ورفائيل ليمكين مخترع مصطلح الابادة الجماعية واحنة ارندت  التي خلصت في بحثها الى انه" لا توجد مسألة يهودية في ايطالية الفاشية" فمحور اهتمام هؤلاء البحاث  وغيرهم هو واقعة الهولوكوست ليجعلوا منها جريمة فريدة لا تدانيها في البشاعة  اية جريمة اخرى في التاريخ.

4-           تعدد الدراسات حول ما ارتكبته اوربا من جرائم  في مستعمراتها   يجعل- كما يقول المؤلف-  اوربا وثقافتها  جزءا من تاريخ  مقارن" بينما الاقتصار على جريمة الهولوكوست يجعلها استثناء في تاريخ اوربا الحضاري  وتوعكا تمثل في ظهور النازية كحالة مرضية نادرة نتجت عنها هذه الجريمة الفريدة  والاستثنائية في مسيرة  الحضارة الغربية.

لقد اختار الدكتور على عبد اللطيف احميدة استاذ ورئيس قسم علم السياسة  في جامعة نيو انغلاند بالولايات المتحدة ، موضوعا معظم مصادره المكتوبة يصعب الوصول اليها ان لم يكن مستحيلا  ، لأن فاعل الجريمة  يريد ان يخفي جريمته  ولا يسمح بتقديم أدلة تدينه  مكتوبة بخط يد المشاركين  في فعل الجريمة  وموثقة من مؤسساته التي كانت مشرفة على تنظيم وتنفيذ هذه الجريمة البشعة بأدق تفاصيلها، فقد اعتمد الفاعل  في محاولته اخفاء  جريمته على حجب  كل المصادر المكتوبة  اواعدامها  ، ومما زاده طمأنينة  هو انه الطرف الوحيد الذي يمتلك المصادر والوثائق المكتوبة عن هذه الجريمة ، بينما الضحية  هو مجتمع امي تندر بين افراده القراءة والكتابة ولهذا اتجه  الباحث الى الضحية  واعتمد على الشهادات الشفهية الحارة  بواسطة الروايات والاشعار  التي تصف بصدق وتلقائية معاناة وعذاب  الضحية  وتوثق افعال  الجاني الاجرامية  في ادق تفاصيلها.

ارجع الدكتور على عبد اللطيف  سبب  صمت التاريخ السياسي والادبي الإيطالي على هذه الجريمة التى راح ضحيتها في معسكر اعتقال واحد  ما يقارب عن ثمانين الف   نتيجة الجوع والمرض والاعدامات،  الى  الحرب الباردة  التي بدأت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية  فأدت الى التستر  على الفاشية الايطالية  وما ارتكبته من جرائم  وذلك لمواجهة الحزب الشيوعي الإيطالي الذى كان اقوى احزاب اليسار في أوربا  وبالتالي كان المرشح الاقوى لاستلام السلطة في ايطاليا على حساب بقايا الفاشية  وغيرها من القوى اليمينية المعادية لليسار  والمستعدة  للتحالف مع الإمبريالية المنتصرة في الحرب، ويمكن ان نضيف ايضا  ان المنتصرين في الحرب العالمية الثانية  ارتكبوا جرائم ضد الانسانية  ومجازر بشعة ضد شعوب مستعمراتهم  في افريقيا واسيا، بل وينتظرون  قيام تلك الشعوب  بعد الحرب العالمية الثانية  بثورات ضدهم  وهو ما حصل بالفعل في الجزائر وفيتنام  والكونغو  ولهذا لا يريدون فتح باب المساءلة التاريخية عن الجرائم  التي ارتكبوها ضد الشعوب التي استحلت اوربا  اراضيهم ودماءهم منذ منتصف القرن الثامن عشر، ولهذا فقد روج المعسكر الرأسمالي  مقولة ان الفاشية  الايطالية المعتدلة لا تشبه النازية الالمانية ولم يتم تقديم   أي من جنرالات الفاشية الذين ارتكبوا ابشع  الجرائم في ليبيا واثيوبيا الى محكمة  نورمبيرج، فقد مات السفاح غرسياني  والمارشال بادوليو والجنرال دى بونو، كل منهم  في فراشه محاطا بذويه وتم تجسيد كل الشر في شخصية موسوليني فقط  وتركوه يواجه مصيره امام كتائب الانصار  ليعلقوا جثته  مقلوبة  في احدى محطات الوقود.

لقد قدم الغرب الفاشية على انها نظام غير ديمقراطي  اساء للشعب الإيطالي ولكن لم يرق ما ارتكبه الفاشيون في ليبيا واثيوبيا الى جرائم تستحق  المساءلة  بل هي فقط بعض التجاوزات التي تقع في اطار الصراع بين الجيوش الحاملة للواء المدنية  والتحضر  وبين المقاومة التي  لم تتسم بالعقلانية، فورطت ابناء شعبها في صراع لم تكن قادرة على حسمه واضطرت هذه الجيوش الى مطاردة  هؤلاء  الخارجون عن القانون والفلاقة والارهابيين  فوقعت  اثناء ذلك خسائر جانبية غير مقصودة كان ضحاياها بعض المدنيين  الذين تقع مسؤولية  ما حدث لهم  على عاتق  قيادات هذه الجماعات التي اختارت العنف  والوحشية  بدلا من التعامل بعقلانية  ومنطق مع رسالة الغرب الحضارية التي  جاء بها الى هذه الشعوب لإخراجها من تخلفها وسباتها الحضاري.

ظل تحميل الغرب للمقاومة المسؤولية عما  يرتكبه من  مجازر  حجة في سرديته التاريخية للتنصل من الجرائم  التي ارتكبها ضد هذه الشعوب  وسلاحا  لبث الفتنة وللتفريق  بين المقاومة  ومجتمعها الحاضن لها وهى ذات الحجة  والسلاح اللتين  تستخدمهما اسرائيل  والغرب والانظمة العربية ايضا لتحميل المقاومة الفلسطينية  المسؤولية  عما ترتكبه اسرائيل من مجازر  بشعة ضد الفلسطينيين لأن المقاومة – حسب قولهم-  تستفز اسرائيل  وتقاتل الجيش الإسرائيلي  المدجج باعتي ثمار تكنولوجيا السلاح الغربية  في وسط  ثلاثة مليون  فلسطيني  يكتظون داخل ثلاثمائة كيلو متر ولهذا فهم المسؤولون عما يقع من خسائر لشعبهم جراء العمليات الاسرائيلية.

اذن الصمت والانكار الإيطالي  لما ارتكبه الفاشيون  من جرائم  في ليبيا واثيوبيا  ليس استثناء من تاريخ  صمت وانكار الغرب  الاستعماري  لجرائمه التي  ارتكبها ضد شعوب القارات الاخرى.

 وضع الغرب قواعد القانون الدولي  ووضع شروطا لتحريك دعوى الابادة الجماعية  وادلة لأثبات وقوعها يصعب توافرها، وليس ادل على ذلك من انه لم يجر اثبات وقوع هذه الجريمة حسب هذه الشروط والادلة سوى مرتين  في القارة الأفريقية  وبين اطراف افريقية ولم يكن بينها طرف غربي رغم ما ارتكبه هذا الاخير من جرائم في الجزائر والعراق  وفيتنام والكونغو وناميبيا .

لهذا فأن البحث عن معاقبة أي طرف غربي   على جرائمه من الناحية القانونية  او جره الى محاكم  هو الذى وضع شروط  تحريك الدعاوى امامها وحدد ادلة اثبات  يستحيل توافرها جميعا  في حقه حتى ولوكانت الجريمة تجرى عيانيا امام انظار العالم  ، ولذا فمن الاجدى  معاقبة الغرب سياسيا واقتصاديا واخلاقيا  حتي يعترف  ويتخلى عن سردية الانكار التاريخية.

هذا الكتاب  الذى ترجمه عن الانجليزية  الدكتور زاهي المغيربي  استاذ العلوم السياسية في جامعة بنغازى، يكشف المستور الاستعماري الغربي  ويعد مساهمة فعالة في  مواجهة الانكار والصمت وتشهيرا  باخلاقيات  الغرب الاستعماري وتذكيرا  وتحذيرا   للأجيال الليبية القادمة بأن ما حدث في الماضي  من جرائم قابل للتكرار  اذا ما ظل وعي هذه الاجيال غير مدرك لحقيقة ما جرى  في تلك الحقبة السوداء  وطالما ظل الغرب على صمته  وانكاره  لما ارتكبه  من جرائم وبشاعات.