واقعية جاذبية سرى السحرية سبقت اللاتينيين

وداعا جاذبية سري

أخذتني الدهشة فى واحد من المواقف القليلة التى حفرت فى الذاكرة، وظلت عالقة أتذكرها صوت وصورة، ورائحة، مهما مر عليها من أيام، ففى صباح زمالكاوى (نسبة إلى حى الزمالك) سمح اقترابى، لأول مرة مع بداية الثمينات من الفنانة جاذبية سرى فى أحد محلات بيع الألوان والأدوات الفنية، سماع حديثها مع البائع، اما مصدر الدهشة فكان الحوار المتبادل بين البائع والفنانة والذي قالت فيه جاذبية سرى أنها على استعداد ان تفتح أنبوب الألوان لتتذوقه، إذا اقتضى الأمر اختبار جودة الألوان، فهل يصل العشق للفن والشغف بالألوان والتطلع إلى الجودة إلى هذا الحد؟ أم ان الإبداع لا يتوفر لأحد إلا على نحو استثنائى، والاستثناء يتطلب اشتراطات وقدرات خاصة، وهو ما يمكن أن يفسر أبعاد مسيرة جاذبية سرى الحافلة بكل معانى التحدى والإصرار، على التفرد والتميز. فقد تعددت المحطات التى توقفت عندها والمراحل التى ارتادتها والمواقف الثورية التى تبنتها، مما اضفى على أيامها ثراء وغنى وعمق وتنوع، لكن ما هى الدوافع التى تجعل من لوحات جاذبية تعبر منحازة عن الطبقات الشعبية المهمشة المنسية المستبعدة؟ وهى التى تنتمى إلى طبقة غنية لا تعانى معاناة الفقراء التى رسمتهم صادقة بود ويبدو للعيان انها ترتبط معهم بوشائج حب، هذا التساؤل ظل محورا ملحا لبحثى عن منطلقات عطاء الفنانة وأيضا أفراد جيلها.لوحة تشكيلية لجاذبية سري
فى منتصف عقد العشرينات الذى شهد نهضة الطبقة المتوسطة، وكفاح سعد زغلول وإبداع محمود مختار، وتمرد حافظ إبراهيم، وموسيقى سيد درويش، ولدت جاذبية حسن سرى فى شهر العظماء اكتوبر، للأب يعمل فى سلك القضاء بعد حصوله على الدكتوراة فى القانون من فرنسا، الا أنه تركها وغادر الحياة وهى فى الرابعة من عمرها، فاضطرت إلى الانتقال للإقامة مع جدتها لأمها، بشارع نور الظلام بالحى العريق الحلمية الجديدة، وبمسحة من الأسى لم تستطع جاذبية إخفاءها تقول: كانت جدتى لأمى دقة قديمة، واعتمدنا ماديا على جدي لأبى وقد كان دكتاتورا، فشعرت بفجيعة فقدان أبي، إلا أن أعمامي حاولوا جاهدين ملء هذا الفراغ، فقد أطلعني عمي مصطفى فى وقت مبكر على كتاب وصف مصر، بل كان يشرح لي جوانب تميز الفنان الحرفي المصري ودقته.
أما عمها سامي فقد كان صديقا للفنان محمد صبرى الذى تولى توجيه الصبية جاذبية، فى الرسم على نحو اكاديمى، بالإضافة إلى ترتيبه لرحلات تجمع أطفال بعض الأسر إلى الملاهي والحدائق والمسارح وهو ما أثار وعي الأطفال باتجاه عوالم جديدة ومثيرة.
من رحم مجتمع القاهرة الليبرالى فى الأربيعينات تخرجت جاذبية عام 1948 فى المعهد العالى للبنات قسم الفنون الجميلة والذى كان يشغل موقعا متميزا فى حي بولاق أبو العلا العريق، وفى العام التالى حصلت على دبلوم التربية الفنية، لكنها لم تكتف بذلك بل استكملت دراستها العليا فى باريس مع مطلع الخمسينات، ثم فى روما وبعد ذلك بكلية سليد جامعة لندن.
لكن قبل السفر إلى اوروبا وفى وقت استيقظ فيه العالم كله على نداء السلام بعد غفلة وويلات الحرب العالمية الثانية، وفى مناخ يتنامى فيه تيار عالمى يدعو إلى بناء قواعد ومنطلقات جديدة للقيم، وقفت جاذبية فى صف التف حول المثال جمال السجينى عندما دعا الى جماعة صوت الفنان، ذلك الاسم الذى استعاره الفنان والناقد صدقى الجباخنجى عنوانا لمجلته، وأعطى للجماعة التى لم تستمر طويلا زخما اعلاميا كبيرا، وكانت جاذبية قد شاركت فى المعرض الاول والأخير للجماعة الذى ضم أكثر من 75 فنانا من شباب المجددين الداعيين إلى التحرر من القيود الاكاديمية فى الفن فقط.
وعلى الرغم من عدم استمرار جماعة صوت الفنان إلا أن جاذبية وزملائها سعوا إلى تكوين كيان أكثر وضوحا من الناحية الفكرية هو جماعة الفن المصرى الحديث التى اقامت أول معارضها عام 1946 ومن أبرز أعضائها، حامد عويس، نبيه عثمان، جمال السجينى، وليم اسحق، عز الدين حمودة، يوسف سيده، زينب عبد الحميد، صلاح يسرى.Egyptian artist Gazbia Sirri
انطلقت الجماعة من قاعدة سياسية أيدلوجية يسارية حيث جاء فى كتاب 80 سنة فن لكل من رشدى اسكندر، كمال الملاخ، صبحى الشارونى التالى: “اذا كانت جماعة الفن والحرية ترتبطت بجماعة الخبز والحرية السياسة، فجماعة الفن المصرى الحديث كانت ترتبط بمنظمة الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى السياسية”، والمعروف ان المنظمة عرفت فى الشارع السياسى باسم حدتو، ولهذا كان موقفهم الفكرى يميل للطبقات العاملة من المجتمع ويتبنى نضالها كفاحها من أجل حياة أفضل . للدرجة التى دفعت البعض إلى تلوين لوحاتهم باللون الاحمر حتى تتفق مع الشعار الذي اتخذته الاشتراكية العالمية.
اتخذ النشاط الفكرى والإبداعي داخل الجماعة مسارين الأول استهدف الوصول إلى ملامح شخصية مصرية مستقلة، وطابع قومى يميز الفن المصرى، لكن من خلال الاساليب الغربية الحديثة، ويمثل هذا الاتجاه عز الدين حمودة، يوسف سيده، زينب عبد الحميد، صلاح يسرى، أما المسار الثانى والذى اتسقت معه افكار وتوجهات جاذبية سرى فقد كان فنانى هذا الاتجاه يبشرون فى أعمالهم بالواقعية المصرية الحديثة فى الفن، وحرص أفراده على البحث التقني والجمالي فى إطار الالتزام بقضايا البناء الاجتماعى الوطنى، باعتبار الفن التشكيلى مكون أساسى فى الثقافة المصرية الشعبية، كموروث حضارى، للدرجة التى تصل إلى ان يعلنوا عن طموحهم وهو التثقيف بالفن، كما اتخذ هذا التيار من داخل الجماعة موقفا رافضا من تقليد أساليب المدارس الفنية الحديثة التى تتجه إلى تحطيم الجسد الإنسانى كما فى الدادية السريالية والوحشية.
لذلك يعد معنى الالتزام أحد مفاتيح شخصية جاذبية الإبداعية ، فدائما ما كنت أبحث عن الدوافع التى شحنت بها لوحاتها مع مطلع الخمسينات من القرن العشرين بهذا القدر من الفكر والفلسفة والطاقة المعبرة عن شرائح مجتمعية مهمشة، وغائبة عن أنظار المخططين والسياسيين، فعلى نحو درامى غير مسبوق جسدت جاذبية لأول مرة شخصيات من لحم ودم تنبض وتتنفس ففى لوحة الفتيات والدمية جمعت بين رشاقة الرسم وواقعية التصوير عندما استطاعت ان تنسج من خطوط رسم الشخوص وحدة واحدة، وكأنهم كيان انسانى واحد بما فى ذلك الدمية التى تحضنها الفتاة فى مقدمة اللوحة، كما احاطت اشكالها بوحدات زخرفية تراثية.
 إما فى لوحة أم رتيبة والتى نفذتها بعد ثورة يوليو بشهور قليلة اتجهت برمزيتها الى ان تجمع بين جيلين الام التى تتطلع بنظرة ثاقبة واثقة الى الامام فى الوقت الذى تقف فى ظهر ابنتها وتمسك بيدها وكانها تعدها الى المستقبل القريب،
وفى لوحة الفتاة والزهرة صورت فتاة تجلس بجوار النافذة و تقبل زهرة بينما امسكت زهرية باليد اليسرى، لكن الزهرية استندت على جريدة الجمهورية تلك الجريدة التى ظهرت مع ثورة يوليو وتعبر عنها، وكأنها نبتت منها زهرية ورد تكشف عن انتماء الفنانة الى التغيرات السياسية والاجتماعية التى احدثتها ثورة يوليو.
انطلقت جاذبية من منطقة الوعى فى الحياة الثقافية المصرية التى تشكلت فى الاربعينات ليبراليا، وتبدلت مع التحول الذى احدثه الضباط الثوار فى المجتمع الى الشرعية الثورية، وهو الوعى الذى انسحب لديها على ضرورة تبنى روافد تنبع من الجذور التراثية التى ترتبط بالنسيج الثقافى للأمة، فى الوقت الذى التقت فيه مع منطلقات التغيير الاجتماعى الجديد والذى قاده المثقفين، وجسد رغبتهم فى التطوير والتحديث والتقدم، فقد توصلت من خلال انتخاب شخوص لوحاتها من الطبقات العاملة والفقيرة، الى اضفاء قدر كبير من الانسانية على انشطتهم الحياتية على نحو مستحق.لوحة المراجيح جاذبية سري
قبل ان يعرف العالم شيوع مصطلح الواقعية السحرية، صورت جاذبية مع منتصف خمسينيات القرن العشرين مجموعة الألعاب الشعبية التى يلعبها الاطفال فى الحوارى و الازقة فى لوحات الحجلة، والمراجيح، الاستغماية على نحو يضفى سحرا خاصا على تلك الألعاب والأطفال ففى لوحة المراجيح مثلا تجاوزت التسجيل الحرفى للمشهد الشهير الذى ألفناه فى الساحات والأعياد، لصالح رؤية خيالية يلتقى فيها الاطفال اثناء المرجحة فى الهواء، لقاء فى السماء، فى الفضاء، وان جاء موقع هذا اللقاء الفضائى فى منتصف اللوحة، فيما لجأت فى تصويرها للخلفية الى التسطيح وإلغاء البعد الثالث المنظورى، للتحول الخلفية الى مساحات لونية تناغمت فيها الخطوط، فى الوقت التى تمايل فيه النخيل مشاركا عناصر اللوحة اللعب والمرح البرئ، اما فى لوحة لعبة الحجلة فقد حولت لعبة شعبية الى مسألة حسابية هندسية واحتفظت للأطفال بدور البطولة المطلقة لأن الالوان جاءت محايدة وهادئة. وفى لوحة الاستغماية جسدت حركة الاطفال على نحو ايقاع آلة السمسمية الموسيقية الشعبية، لكن فى جو حالم، يضفى على المشهد دراما وحيوية، نظرا لتتابع مواقف الاطفال.
وعلى الرغم من النزعة الرمزية التى غلفت لوحات جاذبية مع مطلع الستينات الا ان البيوت التى ملئت بها لوحاتها تمثلت فى تداخلاتها شكل الأرابيسك ذلك النسيج الخشبى الذى يحفظ للبيوت أسرارها وخصوصية السكان ويسمح لمن بالداخل من رؤية الخارج، فقد تحولت البيوت على يديها الى ناس تحتضن الطبيعة.
فقد لفت نظرى عبارة كتبتها جاذبية سرى فى اوراق السيرة الذاتية الخاصة بإنشاء موقع للفنانين التشكيلين المصريين على شبكة المعلومات العالمية الانترنت والذى ساهمت فى تأسيس جانب كبير من وضع مادته العلمية، حين كتبت جاذبية فى حقل الاماكن التى عاش فيها الفنان، اماكن تكشف عن دلالات ومعانى، فقد كتبت، القاهرة و الفيوم، كافة أنحاء الجمهورية من الوادى، النيل، الجبال، باريس، روما، كاليفورنيا، برلين الغربية، بيروت، معظم عواصم أوروبا. توقفت عند الجبال من بين كل المسافات التى قطعتها،  فقد توفر لجاذبية سرى العرض فى أغلب عواصم العالم لكنها لم تنس صعوبة تضاريس الجبال التى سعت اليها، لكنها تبتهج فقط اثناء عرض لوحاتها فى القاهرة. رغم تفاعلها مع القضايا العالمية ففى عام 1965 جسدت معاناة الزنوج فى لوحة بعنوان إنسان أسود من أمريكا، عبرت فيها بحساسية بالغة عن انتظار الرجل الاسود للعدالة.
ومع السبعينات اتجهت جاذبية الى الصحراء وكأنها كانت تستشرف حلا للخروج من الوادى الضيق والذى نعانى من اثار ازدحامه الآن وتكدس السكان حول النيل وكانهم يخشون ان يتركهم ويرحل، خرجت الى الفضاء الواسع والاتساع والأفق الممتد والألوان الصريحة، بعد ان تشبعت من التفاصيل، ثم فى مرحلة تالية زاوجت بين رحابة الصحراء والبيوت رمزها الأثير.
كان للمساحات اللونية الواسعة التى عالجت بها جاذبية موضوعات الصحراء تأثير كبير فى البعد عن التفاصيل، فقد اجتازت ممرا طويلا الى ان وصلت الى الاختزال ليصبح اللون هو النغمة والشفرة والوسيلة للقاء شخوصها التى عبرت عنهم فى الخمسينات بحب وصدق شديدين. وأطلقت لهم وليدها حرية الانطلاق على المسطح الأبيض.