مقتطف من رواية بنفس العنوان مكتوبة بالانجليزية

كل يوم آخر يوم

عندما تقرأ هذا العنوان القانط قد تضجر وتقول،

"لماذا كل هذا التشاؤم؟"

ثم تقلب الصفحات بحثا عما يملئ فراغ ساعتك. أرجوك تريض قليلا ولا تتسرع وتحكم عليّ قبل ان تقرأ كامل إعترافي. سأقف في قفص الأتهام وأنصبك قاضيا ومحلفا. سأقر بكل خطاياي وأضع معصيتي بين يديك. وإذا لم يشبع أعترافي فضولك لك الحق، كل الحق، أن تغضب وحتى ان تسبُني. سأقبل حكمك عادل كنت ام جائر. وحتى تدرك عمق عذابي وسبب عقابي الصارم بحق نفسي، سأبدأ من البداية. أعدك بأنني سأوجز بالحديث وأملي أن تنظر اليّ بعين الشفقة.

قد تسخر من رجائي هذا وتقول، فربما أنك قد سمعت بموت صيته وحيدة منسية في خيمة العزلة،

"كيف أشفق عليه وقد تركها وحدها بين عذّالها لتموت، كما عاشت، منبوذة من الكل."

ذاك أثمي وليس بأفدح ذنوبي بحقها. ان روحي لازالت بحبها تشدو. كل ليالي أدمع وشجن أمضي نُهرّي غارق بالدجى فقد أسدلت عليها ستائر الأسى فتلاشى الرجاء وأفراح قلبي نشيد قلبي قد خبا.

من البدء سأقول لتقتنع بهول وثقل أوزاري،

"أذا تحداني الفرح سأهزمه فانا رجل يموت كل يوم الف مرة ناحبا عظمة حبه."

لتكن قصتي وافية، سأطلعك أولا بأصلي.

أنا لست أبنا لهذه القرية المستكنة على سفوح سنير خاشعة تتضرع للشيخ بعل المتربع على عرش صهيون الأبيض يومض لازرده لهب سماء آرام الأزرق. لقد ولدتني أمي في المدينة لأب قمّاش ملك حانوتا ورثه عن ابيه في خضم سوق الحمدية جار المسجد الأموي، تلك التحفة المعمارية.

ككل الأباء الأوسطية أحاط أبي وامي فرخهما بالحب وحلما لأبنائهما بالنجاح ورفعة الشأن. لقد بخل والديّ على نفسيهما وقبلا بالقليل ليوفرا لي ولأخواتي وأخواني ثمن المائكل والملبس وستر الحال.

كانت طفولتي في أيام السفربلك القاحطة. وقد كان زمنٌ حالكا بالفقر والوباء والعوز وجيوش الغزاة. عشت في بيت والديّ في منزل بعدة غرف والآن ليس لي سوى بقايا هذه الحجرة التي نسف الجزئ الأكبر منها غاز غريب أخر. لا املك سوى حصيرة القش هذه وتلك الكتب وصدى أصوات أطفال القرية ترتل الأحرف الأبجدية من غير أنسجام،

"الف لا شيء عليها. با واحدة تحتيها. تا اثنتان فوقيها. ثا ثلاثة فوقيها. جيم واحدة تحتيها .... الخ."

أن معضلة تخبطي الرهيب، أذرع دروب هذه القرية المنسية والتي أصبحت وطني وبيتي وفيها قضيت أيام عمري، ليس لأنني لا اعلم الحقيقة القاسية، بل لأنني أدركها بحذافيها.

 لقد رأيت النور بين حارات دمشق القديمة والشعراء يندبون كارثة ميسلون وآرام مكبلة اليدين أسيرة بطش جيوش فرنسا الساحقة. انصاعة سوريا لفحيح الحاسدين المنتقمين فأكلنا من الفاكهة المحرمة.

قال الأعرابي بسذاجة، "الشريف يربط من لسانه."

لكن الأستعمار غير شريف. طردنا من الجنة وتغضن وجه البسيطة بتعسف البشر وأطفأت الدهمة مصابيح الأزل. خرج لويثان من أعماق اليم الأبيض وصارت الشهادة ميراثنا.

ثم جاء الطوفان ورسى الفلك ودفق منه خلق جديد. اُستبدل نسل آدم بجيل ترابي جذوره في الأرض التي ولد لها. ظهر بصيص امل من خلف أفق الخطايا. بزغ زمن المجد فتململت دمشق تنفض أغلالها. قال الثائر العربي في كل دياره يرى جبروت اعدائه،

"العلم رفعهم. لنرجع الى العلم."

أشرق فجر ثلاثينيات القرن العشرين بكل روعته الذهبية المتفائلة وعانقت شمش السنة اللهب الأزرق وقال الشاب المثالي،

"حقيبتي هي قريتي."

لقد أمنت بهذا الهدف بكامله إيمان مطلق وتام. حدق ابي بي بتلك النظرة اليائسة فقد مر عليه عصر تفائل الشباب واندفع بحماس الثوار يطالب بمكانة قومه بين الأمم وهتف كرامة الأنسان.

قالت له أمي مواسية،

"يا رجال، أمسح وجهك بالرحمان وادعو له بالنجاح. يريد علي ان يكون معلما. لن تنقطع الأطفال من الدنيا."

ليضمن عودتي السريعة، أعطاني أبي من النقود ما يكفل قوتي لشهر. حملت بقجتي وما أعدته امي واخواتي من زوادة وركبت الباص الى الجولان. أتيت القرية بعتمة الليل على ظهر حمار ابتعته من سوق الدواب في القنيطرة. عدى عن السير كان ذلك وسيلة السفر الوحيدة في المرتفعات. أرجوك أعذرني أن لم أبوح لك بأسم قريتي فلا أريدك ان تأتي انت كذلك باحثا عني تعتقد انه بإمكانك اقناعي بالعودة الى دمشق بعد ان فشل الكثير من قبلك. كيف اغادر قريتي فترابها مقدس. الم تطأه قدما صيته طفلة وصبية؟

 

*

وصلت القرية وقد ادلج الليل سدله فطلبت من دليلي ان يأخذني الى بيت المختار. كنا قد تراسلنا عن طريق جمعية التعليم التي اوصت بي له. وفي الصباح التالي، ويوقظ الفلاحون الطيور في أعشاشها، كان خبر وصولي على كل لسان في الكفر. امتني ساداته يصحبون أبنائهم ليحيوا الأستاذ المبجل. فيمابعد أخبرني المختار أنه لم يظهر بينهم مدرس منذ عهد السلطان عبد الحميد وذلك قبل أكثر من اربعين عام. من كان من الفلاحين ذو طائلة وأراد ان يعلم ابنه فك الخط ينتظر حتى يكبر الغلام ويقتدر على مشقات السفر اليومية الى مدرسة القنيطرة.

لقد حبستنا الدروبية ومخلفاتها لذلك كنت جاهلا بما هو خلف أسوار حارتنا. خارحها كنت أشعر بالغربة.

كدت ارجع ادراجي لشدة فقر ما اتيت اليه. كنت اعتقد أن أهلي في دمشق كانوا ذو عوز لكن جوع القرية كان أبشع ورثاثة رثع طفالها ابلى. وكائن المختار، وهو رجل ذو نظرة ثاقبة، فهم ما دار في رأسي من أفكار سوداء فقال،

"لنا الغد يا أستاذ علي ... تعبدك ان تعلمنا الأسماء التي طمستها القرون العاتية. كن مشعلنا على هذه الحقول المبخرة بطيب الزعتر والميرمية. لا تبخل علينا بالعلم، ياولدي. لنعد لأزهار سوريا الوانها الجميلة."

ثم قادني في مسيرة بين دروب القرية المرصوفة بالحجارة شاهد على عتقها. ربما في إزمان سعد غابرة سار على ذات السبل موكب لعشتروت. خرج أهل القرية بكبارهم وصغارهم، بنساءهم واطفالهم، لرؤية الأستاذ الدمشقي. فظهور الشامي المدني بينهم ببدلته وطربوشه وأربته كان الحدث الأعظم في حياتهم الرتيبة.

تسابق الأباء ليشدوا على يدي وأحمرت وجوه الصبايا بكسوف يقفن خلف السلاسل الحجرية ليرمقن متنهدات الشاب المختال ذو الطربوش الأحمر بشربوشة سوداء. رفلت بأعجابهم وكنت كملك يتكرم على رعيته بالسير على طرقاتهم. برطل تبجيلهم غروري وأرضى كبريائي. وفي موعد الغداء ذبح المختار الدجاج والحمام وحمرته زوجته في الطابون فعبقت رائحة زيت الزيتون والبصل فكانت وليمة فاخرة تصدرت ديوانها فوق أريكتين من الصوف تحيطني من كل صوب نظرات التقدير والأحترام.

ولأسابيع بعد ذلك دارت دورية غدائي بين بيوت القرية. واتي يوم واستطيبت كراديش الذرة ورولت لأقراص الحيلة.

مباشرة إستأجرت حجرة بحوش وزريبة. أتخذت من منزلي مكان للتعليم في النهار وتفرغت للتدريس. أخذت على التعليم بسهولة وكأنني قد ولدت لأكون معلم مدرسة. أقبل أبناء القرية الذكور بحماس. تراوحت أعمارهم بين السابعة وسن البلوغ وكان عددهم في البداية لايقل عن الثلاثين. وبعدما ذاعت سمعة مدرستي بين الضيع المجاورة زاد عدد تلاميذي وأرتفعت أقساطهم.  ندر ان قل عدد تلاميذ الصف عن الأربعين. كانوا ينسخون على الواحهم الخشبية بالطباشير وملئ ترتيلهم الأحرف والآيات أيامي.

قد تعتقد بأنني قد اسهبت في الشرح بما هو ليس في الضرورة وأنا اطلب الحلم منك. لقد وجب عليّ أن أضعك بالصورة لتفهم لماذا أتضور بآثامي. مما لاشك قد خطر لك،

"لماذا لم يغادر؟"

لا أستطيع الرحيل عن هذه القرية التي أعماني أحتفائها لمعرفتي فكّ الخطّ عن هدفي الأساسي. أريد أن أعلم هؤلآء البأسين، يحصدون مواسم بعل المتتالية على سفوح الجولان، بأن الرحمة هي ركيزة الحياة. وقد تتسائل،

"أين رأى صيته لأول مرة؟"

الجواب مخزي ومعيب. أتيت كوخها الصغير القائم على حافة القرية بصحبة الزحف المتشفي وسأخبرك بذلك في حينه. أرجوك أسمح لي اولا ان اهذول أثمي وخطيئتي التي لا تغفر وكيف أعماني الغرور والكبرياء عن آلامها وأنا المعلم الوقور وواجبي أن أثقف تلاميذي وأبصرهم بعلاقات البشر.

كثيرا ما رأيت صيته على جانب الطريق. كانت تتربع على التراب وتمد يدها للمارة تتسول الخبز وكلهم كان يعلم من هي.

جلست صيته ذليلة مكسورة الجناح بثوبها الأسود البالي وخمارها الأحمر المعرق الرث الذي فشل أن يستر جدائلها السوداء الطويلة. كانت هزيلة وحزينة، بائسة منبوذة من جميع أهل قريتها. يا لتعاستي الأزلية، لقد أغمضت باصريّ اتغطرس بعظمة مكانتي عن ذلها فهي حثالة الكفر.

لم أري صيته اول ما وصلت الى القرية. وقد أمضيت شهرين ونيف قبل ظهورها الغير مرتقب. وكم كانت دهشتي عظيمة عندما علمت أنها احدى بناتهم وكانت أفقرهن واهزلهن.

طوى عودها تحت ثوبها البالي القذر. طبعا سمعت في ديوان الأماسي في مضافة المختار حول نقرة النار عن الأرملة التي تعيش وحدها في افقر كوخ وقد القيت عليها التحية بضع مرات. لم يذكر احد ان لها ابنة.

قاربت الأرملة الأربعين وهو قصارى السن في تلك الأيام المعدومة. كان معدل الأعمار في بلدان العرب لا يتعدى ذاك. بعمر الثلاثون كان للرجال وللنساء أحفاد.

خلى وجه الأرملة من النضارة فبدت كالعجوز. أخبرني المختار،

"مات زوجها بمرض خبيث."

المرض الخبيث يطلق على كل داء لاتشفيه الأعشاب ولا تخاريج الرفاعية والعرافات. كانت الارملة تقبع على عجيزتها في ظل جدار كوخها كوم أسود لاتبصر منه سوى وجهها الموشوم الضاوي. تتزمل بفستانها وبين يديها المعروقتان المغزل تبرمه على فخذها والى جانبها كومة صوف منتوف تنسل منها وتفتل خيطانا. أذا غزلت كبة قايضتها لنسوة القرية مقابل ثمنية طحين او حفنة عدس او برغل.

على حد علمي، عدى الحسنة التي يبرها بها اهل الخير من فضلات موائدهم، كان غزل الصوف او شعر الماعز دخلها الوحيد. كانت الارملة شبه عاجزة فساقاها متورمتان ومقرحتان. اذا خطت عليهما اعتمدت عكازا وسارت ببطء شديد. طبعا عدى الأعشاب ووصفات الفلاحات لم تعرف الأرملة العلاج فقد حال الفقر بينها وبين عيادة الطبيب في مدينة القنيطرة. أشفق عليها أهل القرية فبرّوها بفضلات موائدهم.

كانت صيته ابنة الارملة الوحيدة، فتاة تعدت العشرين وقد جعلها ذاك في عرف الفلاحين عانس. كانت صيته هزيلة الجسم ومصابة بداء الربو، تسعل باستمرار. كما سمعت فيما بعد من المختار لم يمنع المرض صيتة من التنقل بين منازل القرية، تغسل وتكنس او تطين السطوح والجدران او تنشل الماء من الأبار ثم تحمله على رأسها الى خوابئ البيوت. وفي الأصباح والأمسية تحلب الحلال وتنظف الزرائب. لم يصعب على صيته عمل كبر او هان. اذا تأخر عامل النظافة استغلت الأرملة غيابه واجبرت أبنتها على نضح الحفر الأمتصاصية.

كان اهل القرية يقولون،

"بارك الله لأم صيته على هذه البنت الحنونة. لن تجد مثلها في آية ديار. أنها تساوي عشرة من الصبيان. ما أبرها من أبنة خدوم."

لكن صيته كانت فتاة غفل الناس عن حاجتها. كان لها أحلام العذارى وغرائز البشر الطبيعية. خلسة كانت تتلصص النظرات الى الشبان وتحلم بعريس وبيت وعيال مثل اية فتاة أخرى. زُفت البنات في مثل سنها وثم اصغر منها وبقيت هي على الرف.

كما اخبرتني كانت ترمق النساء وتتنهد وتتحسر وتأمل ان يكون لها بيت يوما ما مثلهن. لم يسمّها احد من رجال القرية ولا إقترحتها الأمهات عروسا لأبنائهن. في ذاك العصر السحيق تزوجت البنت في الثانية عشر وأذا تعدت الثامنة عشر ولم تخطب تُعد عانس لا تصلح الإ كزوجة ثانية او ثالثة. اما الولد فكانوا يعقدون قرانه وهو في الخامسة عشر. أذا صدف وتعدى الذكر او الأنثى سن الثلاثين كان لهما اولاد واحفاد.

بقيت صيته بنت عذراء وقبل الكل ان ذلك مصيرها. عدى عن هزلها وفقرها المدقع المذل، كانت صموت لم يميزها جمال وجه او انوثة متدفقة. ليس بها ما يشجع الرجل سوى برائة السرّ وطيبة القلب. لكن كان يقطن في عينيها شبق جارف وذلك لم يره احد غيري وأنا للآسف الشديد لم الحظه حتى أيامها الأخيرة.

في موسم الحصاد السابق لمقدمي، زار القرية بائع متجول. في ميدان افراح القرية ربط الرجل الغريب عربته. كانت طافحة باثواب القماش وأسطل الدبس والقطر وصفائح القمرالدين. تدلى من سقف العربة الرخيص من حلي الفلاحات من اساور وخلاخيل باجراس فضية وعقود الخرز وقطع النقود العثمانية المخرمة ونحيل سوائل العرج الملون.

حال وصول البائع المتجول التفت حول عربته نسوة القرية يفاصلنه على هذا وذاك من بضاعته. كان البائع رجل متصابي وذو عين فارغة علمته مهنته كيف يقرأ أعين النساء.

لمح صيته تقف صامتة في مؤخرة التجمع تنظر وتتحسر على حظها الواقف عن دون كل بنات القرية. برقت عينا البائع لها فأستجابت فورا وتعلقت بالأمل تتحفز غرائزها المكبوتة فهو اول رجل شعر بوجودها كأنثى.

أبتسم لها البائع فرابطت امام عربته تعتقد ان الحب أخيرا قرع باب قلبها. لتهورها للزواج أقنعت صيته نفسها ان به كل صفات الرجولة التي تبحث عنها كل امرأة. في القائلة وقتما خفت الناس من حولهما، كلم الرجل الغريب صيته فأجابته ببرائة. غازلها فأحمر محياها بكسوف العذارى الطبيعي. طار فؤادها بالسعادة.

خلال ساعات الظهيرة خطب الباع صيته من ولي امرها وهو قرابة بعيدة. رغم اعتراض الأرملة العنيف أعطاها قريبها بمهر مقداره ثوب قماش وشرحة قمردين ورطل دبس تمر.

قابلت أعين الأزدراء والتنكر العروسين. وفي المساء لبست صيته فستانها الأحمر وقبقاب مرسوم عليه صور. كبقية البنات خبأت صيته في صندوقها ملابس عرسها هذه منذ زمن طويل خصيصا لذاك اليوم الموعود. رغم أعتراض أمها العنيف، جاء القريب وزفها عروسا للبائع في عربته. في صباح اليوم التالي أستقيظت القرية وشاهدت الارملة ترضخ للامر الواقع وتحمل فطور الصبحية الدسم لأبنتها وزجها. لكن العربة أختفت بالليل ومعها ذهبت صيته.

 

*

حدث ذلك قبل وصولي الى القرية بأشهر قليلة. فضل أهل القرية ان ينسوا الأبنة العاقة. الفاجعة الكبرى لم تبقى صيته في عصمة زوجها مدة طويلة فقد ملّ طلباتها الكثيرة خصوصا ان يجدوا مكان في قرية وهي تفضل المدينة ويستقروا ليكون لهم دكان وعيال وبيت له باب وشباك كبيوت الناس. زوج صيته الأول كان يحب حريه الترحال فوق أي شيء أخر ولم يرى بصيته أية خصلة تحبب الأستقرار اليه.

إعتاد البائع المتجول أن يقضي فصل الشتاء في ربوع البادية بين خيام البدو. في احدى مراتعهم أعجبته امرأة أخرى مطلقة وجريئة. غمزها فابتسمت له. غازلها فشرطت عليه ان يطلق زوجته ففعل بدون تردد فقد قضى وطره من صيته. طردها من دون رحمة من العربة بالثياب التي كانت بها وهرب مع المرأة البدوية خطيفة.

ترك صيته من غير مال او وسيلة تمكنها من العودة الى أمها. تشردت الحزينة بين قرى وبلدات حوران تتلمس طريقها وتتسول قوتها. كانت على الدرب لأشهر طويلة. في النهار كانت تسير بين الحقول حافية القدمين حتى شققهما الصوان والحجر البركاني الأسود بجروح عميقة دامية ثم تمزق فستانها وبلي. أم سواد الليل فكانت تقظيه متخفية في مذاود الزرائب او متسترة في المغر. لقد كانت معجزة ان حيوانا كالفهد او الضبع اوالذئاب او قطعان الكلاب الضالة لم تفترسها.

في مدخل احدى المغر ولازالت في هضبة حوران، شعرت صيته بوجع حاد فوجدت نفسها بالمخاض وطرحت الجنين الذي كانت تحمله. بعد ان تمكنت من نفسها دخلت في حال سبيلها قرية شبه خالية فأهلها لازالوا مشغولون على بيادرهم. شاهدتها امرأة عجوز دامية وخاوية من الجوع فاشفقت عليها. ولتستر أمر صيته تركتها تبيت في بيت الطابون.

لما سمعت المرأة المسنة امر الدخيلة، ساعدتها فاحضرت دلو ماء لتتحمم من الدماء ثم اعطتها شرش أسود وشال اخضر وتكرمت عليها بالزاد. مكثت صيته واهنة القوى في حماية بيت الطابون أسبوعا بحاله.

ولما أخيرا وصلت صيته قريتها في أوائل الشتاء، كانت مغبرة قذرة يسرح القمل والبراغيث بشعرها الوسخ الأشعث وحتى حاجبيها ورموش عينيها.

بعد عودتها من مغامرتها الفاشلة مع الحب متعبة وقذرة، أختلفت معاملة الناس لها ولم يغفر زلتها احد حتى أمها. لم يذكر احد من ماضي صيته الحافل بالعمل الدؤوب سوى طيشها فزاد بلائها.

كانت أمها اول من تنكر لها ولم تستطيع ان تغفر لها هفوتها فسبتها وضربتها وسمع الكل صياحها. وكما ذكرت أنفا كنت انا من بينهم.

نعتت الارملة أبنتها بالقسوة لتركها أمها العاجزة وحيدة لتجري خلف أوهام حياة مستقلة. قالت لها وهي تصكّ على أسنانها بكره واحتقار،

"انت عار عليّ وعلى ذكرى ابيك."

فتحت معاملة الأم المزدرئة لأبنتها أبواب الشتائم فأنهالت عليها كنهر الأردن العرم من كل افواه اهل القرية. وعندما ذاع نبأ عودتها والوضع الحقير الذي عادت به خرج الكل من بيوتهم، رجال ونساء وأطفال، في زحف الى كوخ الأرملة حيث الصراخ والضرب بالعصاة.

أعترف بخطيئتي المنكرة. لا أستطيع طلب الغفران فلا أستحق سوى أسوء عقاب. بحماقة اعمى الضمير صرفت تلاميذي والتحقنا بالدبيب العظيم صوب الكوخ الفقير تواقون لنشاهد بأم أعيننا عقاب ناكرة الجميل. الحقيقة آنذاك حملني تيار الفضول وقد خلى خلدي في تلك الساعة من المشاعر والأحاسيس لها او ضدها.

وعندما أقتربت بصحبة المختار وأفاضل القوم خمد الكلآم وكنت أسير صوبهم على روية الواثق من مكانته الموقرة. جرى همس محترم في التجمع والتفت العيون صوبي. لما وصلتهم بادب واحترام وسعوا لي منفذ لأشاهد قصاص الأبنة الطائشة العاقة.

ما أظلم الأنسان في ساعة عظمته! وقفت على رأس الرجال أمام عتبة الكوخ شامخ الرأس مترفعا على تلك الأنسانة المحتقرة وليس لها ذنب سوى انها بحثت عما هو حقها الطبيعي بالحياة وهو السعادة ولكنها فشلت وربما كان ذلك ذنبها الفادح.

لم أرى وجه صيته آنئذ فقد اخفاه شعرها الأشعث الذي شلخته أمها وتلطخ بدم جراح الخائبة الراشدة من ضرب عصاة الندف. تكومت صيته صامتة على اوجاعها فوق مصطبة الكوخ فلابد انها كانت مكسوفة أن يراها ذكور القرية في ذلك الوضع المهين. التفت نسوة القرية حول الأرملة وابنتها يشتمن ويذممن الفتاة العاقة. جلست الأرملة على عجيزتها تمد ساقيها المتورمتان تلهث مرهقة من جهد العقاب الذي كانت تغدقه بالعصاة وهي تهز رأسها توافق النسوة على كل كلمة سؤ وإحتقار نبضتها شفاههن بحق ابنتها.

في تلك الساعة الخالية تماما من الرحمة وحتى حنان الأم لابد أنها كانت اقحل فترة في حياة صيته. صدقني لقد عرفت تلك المخلوقة المنبوذة الذل والاحتقار. كانت في وسطهن شبه عارية تحاول لملمت بقايا شرشها الممزق حولها لتستر جسدها المهان عن أعين المتشفين.

في ذلك اليوم التعيس لم أرى من انفعال صيته المكتوم غير يدها التي، بين الآونة والأخرى، كانت تترك الثوب وتخمش المصطبة باضافرها بحركات متوترة وكائنها تهدأ نفسها.

نظر الجميع اليها بدون رحمة وبمنتهى الأحتقار وكأنها ليست انسانة، بل شيئا قبيح لا يثير غير عواطف الأسمئزاز المطلقة. حشرة خلت من جميع الأحاسيس. من حقك ان تسأل،

"أين ذهبت شهامة ابن العرب المشهورة وما يفخر به من أحترامه الفطري لحشمة الأناث؟"

لا اعتقد ان احد من الذكور نظر الى صيته على أساس انها أنثى. كانت شيء جاحد وعاق وكونها امرأة لنفسها سعت خلف حب رجل كان مهزلة مزدرئة. لم يخطر لرجل من الرجال الشاهدة على ذلها ان يلقي عليها عبائته ليستر عورتها اوحتى يخفض نظره حياء من انوثتها. قبلت صيته الهوان واعتقدته نصيبها من العيش.

بعد زواجنا ولما عرفتها عن كثب، لاحظت أنها قبلتني دون اعتراض. في الواقع عدّت نفسها اوضع مخلوقة على وجه البسيطة.

رفضت الأرملة ان تكلم ابنتها ولم تسمح لها ان تشاركها الطعام. واذا جاء حين المبيت، وشتاء الجولان القاسي على الأبواب، رمت الأم لأبنتها بطانية وامرتها ان تنام على المصطبة فقد ضنت عليها بفرشة. كانت المنبوذة تتوسد ذراعها وتنعكف تحت الباطنية جائعة وموجوعة.

وجاء فصل البرد مبكرا ذاك العام القاحل من العواطف الأنسانية. سأت أوجاع الأم وقاحت قروحها فعجزت عن الحركة. أعتنت صيته بأمها خير عناية. كانت تنظف أوساخها وتحممها يوميا. لم تسمع الأبنة كلمة طيبة واحدة من أمها التي أصرت على عدم الكلآم اليها. فاذا اتتها العائدات كانت الأرملة تشكي لهن صيتة وتلومها لتردي قدميها فيهززن رؤوسهن ويقلن والمنبوذة تقرفص بالعتبة متأهبة لتلبي طلباتهن،

"لو بقيت واعتنت بأمها كان أشرف لها."

وبعد ان ماتت الأرملة متأثرة بقروحها انقطعت الحسنة عن الكوخ. اذا قرعت صيته باب احد تتسول او تسأل عن عمل، ضربها وشتمها ثم طردها يسمعها اقسى الأقوال الشائنة. لما رأوا فعل الكبار، صارت أطفال القرية تلحقها وتقذفها بالحجارة.

وضح لي، وكنت للآسف الشديد متفرجا وقتئذ أرى المأساة ولا اتدخل رافلا بعزة مقامي، أن الجميع يبصق عليها. في نظرهم تجردت صيته تماما من كامل أنسايتها. وفي ديوان المضافة أذا جاء احد بذكرها كان الرجال يتسابقون لذمها وقذفها بأشنع الشتائم والأسماء القبيحة. وعندما دخل قريبها كوخها ليأخذ ميراثه مما خلفته الارملة، وقد تتعجب وتقول،

"وهل في الكوخ الفقير شيئا يؤخذ؟ الى هذا القدر وصلت دنائة النفس؟"

بكت صيته وترجته ان يترك لها فرشة تنام عليها او ثوب من اثواب أمها لتلبسه لتستر عورتها فقال لها دون رحمة يأمر أبنه ان يفرغ الكوخ،

"هذا حقي وانا أولى به."

هذه القريب نفسه هو الذي زوجها للبائع المتجول بأبخس المهور. لم يمشي خلف جنازة الأرملة ولا حضر دفنها. كنت أنا والمختار من بين بضعة رجال صلوا عليها في جامع القرية المتواضع. وهو حجرة صغيرة بسقف من القصيب والطين مثله مثل اغلب بيوت الفلاحين على مرتفعات الجولان.

بعد صلاة العصر خرجت الجنازة وكنت فيها وعدد من المشيعين بعدد أصابع يد واحدة يتقدمنا المؤذن يكبر ويجري امام حملة النعش دون أحترام لحرمة الميتة.

كانت صيته وحدها تجوح بحرقة محزنة وتشلخ شعرها وتخمش وجهها خلف نعش أمها. بقيت نسوة القرية متربعات على عرائش بيوتهن. لم تتقدم من النائحة امرأة لتسندها في ساعة يتمها وانقطاعها ووحدتها الكاملة.

وتقدمت المربعانية وفحش بردها فأشتد داء الربو بصيته وصارت تقح الدم. وأخيرا بليت ثيابها كليا وبدأت تخجل ان تظهر في الطرقات المتجمدة خلال ساعات النهار لتبحث عن الطعام بين قمامة القرية.

لم يكن غريبا ان ترى اهل القرى حفاة وفي الحقيقة كان اغلبهم على تلك الحال من العوز ولكن شبه عراة لاتستر عوراتهم الرثع التي يرتدونها، أبدا. كان وقت البين القاهر ذاك سدرة الفقر والجهل.

عندما وصلت صيته ادنى الحضيض من العوز والتشرد والوحدة، بدأ الاولاد والبنات ينضمون انفسهم في عصابات تهاجم كوخ صيته بالحجارة ويرشقونها بالاوساخ. كنت أصغي لتلاميذي يتفاخرون فيما بينهم ويتبادلون انباء ما فعلوه بها

حتى آنذاك لم اتدخل وكدت اتبنى عقيدة القرية القاسية تجاه اضعف أهلها واقلهم قدرة. صرت اشمئز لسماع أسمها وارفع منخاري بكبرياء لا اتدنى بالحديث عن مخلوقة ذليلة مثلها. مرات كثر كنت أرى تلاميذي بين الأولاد يطاردونها ويقذفونها بالشتائم والحجارة بين البيوت حينما كان يجبرها الجوع ان تخرج تحت ستر ظلمة الغاسق لتبحث عن الفتات بين اكوام الدمن. راقب الأباء والأمهات أبنائهم وبناتهم يتسلون بالمخلوقة المهانة وحالهم تقول،

"عقاب الله شديد. تستاهل أكثر من هذا. هي سبب موت أمها."

نسي الكل ان الارملة كانت مريضة مزمنة ربما لسنوات طويلة حتى سممت القروح دمها. اذا ذكر احد موت الارملة البس وجهه الحزن للحظة وقال،

"إرتاحت من شقاء العيش."

طبعا ترفع الكل عن طرح المصير الذي هوت الى قراره أبنتها.

 

*

وحلّ شهر شباط بسعوده القاسية تعد الأيام الى نيسان. وأن إستهل شباط بسعد الذابح إلا أن الفلاحين صاروا يصبحون في حقولهم خلف أفدنتهم تتل سكك الحراثة الآرض بتجاعيد الأتلام. أمضيت في القرية عدة أشهر لم أتركها الإ في زيارة خاطفة لمنزل اهلي في دمشق. أستطيبت العيشة بين الفلاحين أستلذ أكلهم البسيط وأثمل على أقداح الشنينة والثوم. رفعني احترامهم البالغ للأستاذ وأسعد غروري فقد غدوت شخصية القرية الأولى.

أذا اتى جابي الضربية، مدججا بالجنود الفرنسيون، يطلب حصة بيت مال فرنسا في عرقهم و تعبهم، كنت أتكلم نيابة عنهم. بفرنسية الأطفال حاولت شرح فقر القرية وعجز سكانها عن الدفع. فالفلاح أولى بالمساعدة من الخواجات فهو لا يملك سوى ما في كوارته من حنطة وشعير قد تكفيه والأغلب لا تكفية حتى الموسم التالي.

أحيانا كثيرة كانت الضروف تكره الفلاح على بيع جزء من مؤنته بثمن بخس لعلاج احد اطفاله او ربما مهر لعرس ابنه. أذا حدث شيئا من هذا وكان الموسم التالي على شفى سد الرمق، نامت أسرة الفلاح اكثر الليالي جائعة على لحم بطنها تدعو الله لأحناط موسم حصاد اخصب. واذا أمحل الشتاء وانحبس المطر فتكون الطامة الكبرى، مجاعة عامة. الخوف من تلك الكارثة كان الجاثوم الذي لا يجرء احد على التفكير به علنا فهو البلاء الصامت الذي كان على بال كل فلاح.

كان رد الجابي،

أنا موظف مأمور.""

تلك طبعا إجابة اذناب الطغاة في كل الأزمان والبلدان.

أحيانا يقبل الجابي بتقسيط الضريبة وآوان أكثر يرفض فيكره الفلاح على الدين من المرابي ليدفع ما عليه من ضربية أصلا جاحفة. لقد ناخت سوريا تحت اثقال الأستبداد وتفاوتت درجات الظلم الذي قاسى منه أهلها من الأسكندرون الى غزة على مدى قرون لا تعد.

عفوا، لقد اطلت عليك وقد وعدت الأختصار. لكن اعتقد انه قد وجب عليّ ان اطلعك على الذي مضى لتعلم مدى الظلم الذي طأطأت تحته هامات الجميع. ولئن الغشم الذي عانت تحت سياطه صيته من صنع أبناء قريتها كان افحش ومذاقه أمر. ربما بدأت الآن تدرك لماذا فشلت باقناعها بائنها ليست دون البشر.

دعنا الآن من ذاك لأسرد عليك كيف ولت نظرة اللا ابالية وتحولت الى شفقة عارمة فحب قيدني على دروب هذه القرية الخربة على سفوح الجولان أذرع دروبها الى الأبد.

في عصرية يوم زارني نادر دون علم مسبق. لقد نُحت ذاك النهار على ذاكرتي ففيه اُترخ مولد انسانيتي والتي نضجت بسرعة عجيبة الى حب فتح بصيرتي على مأساة قومي. نادر، رحمك الله بواسع رحمته أيه الشهيد لما انعمته عليّ من برّ وانسانية. وأينما كان قبرك الذي لا يعرفه غير زبانية الأستعمار البريطاني باركه الله وجعل ترابه مقدس.

أذكر تفاصيل ذاك اليوم كاملة. وفي بداية كل عام دراسي كنت اعيدها على طلابي لأزرع بهم كرامة الروح وقدسية الغفران. وكل سنة نكتشف بها أشياء جديدة كانت غائبة عني.

في تلك العصرية من شباط الشابط كنت ارفع عدولة الحنطة والشعير الذي كنت أقايض بها الفلاحين بدل تدريس أبنائهم على عربة أبو علي، التاجر الذي بعت لها أقسط طلابي. لقد سبق في المضافة، وبموافقة الجميع، ان وضع المختار رسوم التعليم الشهرية ثمنية حنطة للولد دون العاشرة وثمنيتان لمن تعدها او ماعادلها من محصول أخر كالعدس والفول والشعير والذرة. مرة كل شهر كان يأتي أبو علي من القنيطرة بعربته ليحمل ماجمعته من الحبوب. من ذلك يمكنك ان تتصور بأنني غدوت ثريا بمستوى القرية واكثرهم سيولة نقدية.

لقد عشت في بحبوحة من العيش واذا احتجت غرضا ركبت حماري وزرت متجر أبو علي في القنيطرة لابتاع ما اردته.

لا اخفيك القول لم يتركني اهل القرية بحاجة للكثير. فقد ملؤا جراري بالزيت والزيتون. أتاني الاولاد بالجبنة والبيض والقطين والزبيب والمشمش المجفف. أذا ذبح احدهم خاروفا او جديا كان لي من اللحم نصيب. زودتني زوجة المختار يوميا بالخبز الطازج. كان كرمهم تجاهي ولم أكن ذو حاجة على عكس بخلهم على صيته وكانت في ضيقة مادية حادة. كثرت فلوسي وصرت ابعث لأبي جزءا منها ليس لأنه بحاجة للمساعدة ولكنه توقع ذلك مني وشعرت انه حُتّم عليّ كأبن بار. على مثل هذتلك المعاير نشأنا وقتئذ.

في رغدة من العيش أستخدمت ام أحمد وقد أقترحها المختار، لتقوم بعمل المنزل. كانت أم أحمد تغسل ثيابي وتنظف حجرتي وتطبخ طعامي. كانت امرأة تعدت الثلاثين لها زوج واولاد واحفاد. كانو ندر أولئك الذون تعدون الأربعين وشابت شعورهم.

اقتنيت ثلاث عنزات لأشرب الحليب الطازج كما وصتني أمي. كانت فاطمة، ابنة الراعي أبو حمد، تحضر في كل صباح تحلب الماعز ثم تأخذها لأبيها كي يسرح بهن مقابل حليبهن المسائي. وفي السنة الثالثة لوجود مدرستي بالقرية التحق حمد، ابن الراعي، بالمدرسة. قايضني أبوه الرعاية بدل القسط.

ظهيرة نهار كالح كنت مشغولا مع أبا علي أكيل الأصواع واحسب الثمن عندما سمعت احد الأطفال يقول،

"هذا هو الأستاذ علي."

انقطعت عن الكلام مع التاجر والتفت خلفي فاذا بي وجها لوجه امام صديقي وابن حارتي ورفيق مدرستي نادر طيب الله ثراه. كان نادر، ذاك الملاك الطاهر، من رعية السيد المسيح ومثله كان تماما خالي من كل أنانية. تجاهلت أبا علي التاجر وصرت أهلل وأرحب بضيفي الحبيب. قبلت وجنتي العزيز تغمرني سعادة عارمة لتكرمه يزيارتي. لما رأى أبو علي احتفائي الزائد بضيفي أنسحب لأنشغالي عنه. اخذت نادر وادخلته الحجرة التي كانت في ذات الوقت المدرسة.

إكراما وتبجيلا لمكانة صديقي في قلبي، فرشت له فرشتين فوق بعضعهما في صدر البيت واحطته بالوسائد. ثم خرجت للأطفال الذين تجمعوا بفضول في ساحة داري ليروا الزائر الغريب فقد قل الغرباء في القرية. أمرت واحدا منهم بالأسم، وكان احد تلاميذي، ان يسرع للمختار وسميت له اهم رجال القرية ليحضروا ديوان صديقي. ثم أرسلت ولدا اخر الى الراعي ليذبح أسمن جدي في شليته ويرسله لأم أحمد لتطبخه عشاء على شرف ضيفي الموقر وأصريت على كل من حضر ان يشاركنا المائدة فقبل الكل.

علت السنة اللهب في نيران الموقدة. ولا اريد ان ابالغ فقد كانت تلك اول وليمة أعملها فاكثرت من الرز وكان في ذلك الوقت ترف لا يقدر عليه سوى الأثرياء خصوصا بالأرياف. عرمت فوق الهفيت والرز اللحم واللوز والصنوبر وسال السمن البلدي على حفاف المناسف.

كان نادر، رحمه الله وطيب ثراه، يكبرني بأربعة اوخمسة أعوام وانجح طالب في تاريخ مدرستنا كما كان ايضا اكثر شلتنا مثالية. كان باستمرار يحثنا باشعاره المتفائلة على الأمل بالرغم من استحالة الأماني في ذاك العهد العسير والى السعي الى غد منير لبناء عالم عربي مستقل ذو أرادة ليستعيد كرامة ومكانة العرب بين الأمم.

عندما تخرجتُ من المدرسة سائلته،

"كيف لي ان اخدم الجميلة، يا نادر؟"

وضع يده الكريمة على كتفي وقال كأب يعلم أبنه،

"يا علي، سوريا ليست دمشق وبيروت. هي الاف القرى والضياع النائخة تحت ثقل الجهل والفقر على البطاح وسفوح الجبال ورمال الصحار. ان توصل العلم الى احداها فذاك هو الجهاد الأعظم."

طاردت سلطات الأستعمار الأحرار في كل حدب وصوب فتخفوا بين قرى الريف يتنقلون بين أشلاء سوريا الممزقة من القدس الى انطاكية الى طرابلس وغيرهن ليبقوا شعلة دمشق موقدة. انتهى أكثرالأحرار العرب في عمّان وكانت في ذلك الوقت بلدة صغيرة وعاصمة امارة متواضعة قليلة السكان. صعد هؤلاء المثقفون بمكانة الأردن فكان منهم الوزراء واصحاب المصالح العليا في البلد الفقير.

أصدر الطغات الفرنسيون والبريطانيون أحكام الأعدام الغاشمة بحق كل ثائر وبلاد العرب في تلك الأيام كانت كلها ثوار. صار فرض واجب علينا كعرب أن نحمي أبطالنا باروحنا.

كان فرحي وسعادتي بزيارة نادر عظيمة فتخايلت فخورٌ أتمايل بهيا بعزة النفس بين ضيوفي. وبعد العشاء عاد كل الى مجلسه فطلبت من صديقي ان ينشد علينا من أشعاره العذبة. أحاطته شباب القرية بالأسئلة وكان تعطشهم ليعرفوا من هم شديد.

"هل كنا في عهد غبر كما سمعنا اسياد انفسنا؟ كيف إلنا الى ما نحن عليه الآن؟ من بنى تلك الاطلال المتناثرة أعمدة هياكلها على اتربة المورج ورمال البادية؟"

أجاب نادر أسئلتهم بروية وبساطة،

"سوريا هي حقول الشمس. نحن زعترها وزيتونها. وقد تضيق بنا ولكن كيف نهاجر الى بلد ترابه ليس من لحم ودم ابطالنا. عظامهم هي سياجها واسوارها. مهما طالت إقامة الغرباء فهذا الشريط الضيق بين الصحراء والبحر سيبقى محط انظار الغزاة. لكن البلاد لأهلها ولا يعرف فرحها وحزنها الا نحن العرب الساميون أصحاب قرطجنة والأندلس. عبدنا أل (ائيل) وابنه بعل ثم صرنا يهودها ومسيحيوها ومسلموها. نحن بحارة فنيقيا وكم قرطجنة بنيننا على شواطئ بحار الأوسطي فصار اهله منا. جوبنا ظلمات الأطلسي وصدّرنا الحضارة والحروف لعالم كان غريق في غياهب التخلف. نحن الغساسنة المسيحيون أبطال معركة اليرموك."

بعدما ذهب الضيوف واختليت بنادر جلسنا لساعة حول بصيص النار بالموقدة. تحدثنا عن ذكريات الحارة والمدرسة ومراتع الطفولة والصبا. عندما أخبرني نادر عن الرفاق الذين عدمتهم السلطات والشباب القابعة في ظلمات سجون الأحتلال غبن بي الحال فبكيت الما. فرشنا واطفئنا السراج واوى كل الى فرشته وسرعان ما غفيت مرهقا بالسعادة.

 

*

كانت ليلة باردة وغائمة تهدد بالمطر. عندما شققت أجفاني كانت الحجرة في ظلمة دامسة. شعرت بقرب نادر قبل أن أسمعه يهمس اسمي بحذر شديد،

"على، أسمع."

"ماذا؟" أجبته شبه نائم

"في صوت حركة خارج الحجرة."

 ذكّرته"الماعز.ّ"

 "كلا."

ارتعد صوته بالحذر ينوه الى ما كان يجول في خاطره من مخاوف يعيشها الأحرار ليل نهار.

بعد هنيهة أضاف،

"قد تكون جند الأستعمار!"

على ذكر الجنود خارج باب حجرتي دفشت اللحاف عني وقفزت بحركة واحدة منتصبا على قدميّ وقد اصبح بي من الرعب والهواجس ما كان به فأن كان جيش فرنسا على الباب فلن ننفذ أحياء نحن الأثنين تلك الليلة. بحركة يدي في نور الليل البصيص، أشرت عليه ان يختبأ خلف أكياس القمح والطحين في جانب الحجرة. قبع البطل صامتا كالموت ثم ردفت خلفه عدل الأواني وصبرّت فوق ذلك كتب التلاميذ ليبدو الأمر طبيعيا.

مكثت صامتا برهة طويلة أسمع حركة وجلة وخافته في الخارج وأتوقع في اية لحظة ان يدفع العسكر الباب ويدخلون شاهرون أسلحت