الدكتور حسن حنفي وإشكالية النهضة

     اتسم التعامل مع الفكر العربي لفترة طويلة بالنظر إليه إما كترديد لمقولات الفكر الغربي وأطروحاته أو كمحاولة للاستمرار على نهج التراث القديم، إلا أن العقود الأخيرة شهدت تحول النظرة إلى بعض أوجه الفكر العربي المعاصر باعتباره مجال إبداع لعدد من المفكرين والباحثين العرب المعاصرين، وبالتأكيد يأتي في مقدمة هؤلاء الفلاسفة والمفكرين المبدعين الراحل الكريم الأستاذ الدكتور حسن حنفي الذي رحل عن دنيانا منذ أسابيع، والذي اجتهد عبر بلورة رؤى ومفاهيم محددة المعالم ومن خلال صياغة نهج للحوار مع رؤى وأفكار الآخرين ، وذلك كله عبر منظور نقدي شامل تبني التحليل النقدي للقضايا التي تعامل معها، بل وسعى في محاولة لإيجاد حركة نقدية جادة كان الفكر العربي بشكل عام مفتقداً لها لبعض الوقت، وكان العمل الناجع للجمعية الفلسفية المصرية أحد أدواته للوصول إلى هذه الغاية المبتغاة.

     ولا شك أن ما طرحه الدكتور حسن حنفي من أطروحات قد أثار، ولا تزال حتى بعد وفاته رحمه الله، تثير الجدل على جبهات فكرية عديدة، فلم يكن الدكتور حسن حنفي مجرد شخصية أكاديمية بارزة على الصعيدين المصري والعربي، بل كان مفكر صاحب رؤية تثير الحوار والجدل وتسعى إليهما وتحترمهما وتستفيد من توظيفهما لصالح المسائل موضع النقاش، أكثر مما تزعم تقديم حلول نهائية حاسمة للقضايا المطروحة على الساحة الفلسفية والفكرية العربية. ويكفي هنا الإشارة إلى الدور الهام الذي لعبه الراحل الكريم، هو وزملاء له، في إحياء الجمعية الفلسفية المصرية وإعادة تأسيسها، وهي التي نشأت في عقد الاربعينيات من القرن العشرين بواسطة الراحلين الكبار إبراهيم مدكور وعثمان أمين وغيرهما، كما لعب دوراً في إصدار المجلة السنوية التي باتت تصدر عن الجمعية، وبدأت توجد إرهاصات حركة فلسفية نشطة تتسم بالجدية والإبداع في آن واحد، ومن خلال الجمعية ومجلتها ومن خلال منابر أخرى كثيرة طرح الدكتور حسن حنفي الكثير من القضايا التي أثارت الاتفاق أو الاختلاف بينه وبين مفكرين وفلاسفة آخرين انتموا إلى تيارات فلسفية متعددة ومتباينة.

     وفي هذا السياق، فقد اختلف منهجه النقدي في الحوار مع الآخرين عن مناهج الرفض أو الهجوم أو التكفير أو الاستبعاد، بل كان منهجاً نقدياً علمياً حوارياً بناءًا يعكس إيمانه العميق بأن الأفكار تحيا وتستمر وتتطور من خلال الحوار والجدل والنقاش. كما تميز بأنه قام بربط الفكر مع الواقع التاريخي والاجتماعي المحيط به بكل تميزه وخصوصياته، باعتبار أن الفكر هو النتاج الواعي للتفاعل الحي بين المفكر من جهة وقضايا واقعه التاريخي والاجتماعي المعاش من جهة أخرى.

     وقد سعى الدكتور حسن حنفي إلى معالجة إشكالية دأب مفكرو مصر والعالمين العربي والإسلامي على تناولها على مدار قرون، خاصة منذ القرن الثامن عشر، وهي إشكالية النهضة، مدركاً بوعيه المتقدم أنها إشكالية تاريخية، من حيث كونها تتناول طبيعة المواجهة التاريخية بين طرحين حضاريين وثقافيين مختلفين، بل وفي كثير من الأحوال متصارعين، رغم كون كل منهما قاد الحضارة البشرية في أزمنة مختلفة، والمحصلة النهائية منذ القرن الثامن عشر أن أحدهما مهيمن ويشعر بزهوة الانتصار والآخر في حالة تراجع وتتسلل إليه مشاعر الهزيمة. وفي إطار تناول هذه الإشكالية كان على الدكتور حسن حنفي تقديم معالجة جديدة للعديد من الأسئلة المثارة باستمرار في سياق إشكالية النهضة في العالمين العربي والإسلامي، بما في ذلك بالطبع في مصر، على مدار القرون الأخيرة، ومن ضمن هذه الأسئلة، على سبيل المثال لا الحصر: "لماذا تأخرنا ولماذا تقدم غيرنا؟"، ومنها أيضاً: "كيف يمكن للعرب والمسلمين أن يكونوا جزءًا من العالم الحديث دون أن يتخلوا عن معتقداتهم الدينية؟"

     وتاريخياً، كان الهدف الرئيسي لمن تناول من الفلاسفة والمفكرين العرب والمسلمين إشكالية النهضة هو التوصل إلى الصيغة التي من شأنها إدراك العالمين العربي والإسلامي بركب النهضة والأخذ بأسباب التقدم الإنساني، وكانت الإجابة في غالبها الأعم تأتي عن طريق أحد حلين، أولهما هو طرح أن التقدم يتم بالقطيعة مع الماضي والانفصال عنه، بينما كان الحل الآخر المطروح هو الرجوع إلى ذلك الماضي وأسسه وتعاليمه. وفي سياق هذه الرحلة الفكرية الطويلة الممتدة زمنياً تشكلت لدي الوعي النهضوي مفارقة العدو – النموذج، أي الخصم التاريخي المتفوق علمياً وتكنولوجياً ومؤسسياً، والذي رأى الدكتور حسن حنفي أن العرب والمسلمين يسعون إلى اللحاق به، وفي نفس الوقت يسعون إلى التمسك بالقيم الروحية والثقافية، وإن اقتضى الأمر إعادة تفسيرها وتأويلها بغرض تجديدها وإبراز محتواها التقدمي.

     وقام المشروع الفكري الإصلاحي الذي أعلن الدكتور حسن حنفي انتماءه له وسعيه لإحيائه وتطويره، والذي ترجع أصوله إلى جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في القرن التاسع عشر، على أساس تصورين مرتبطين كل منهما بالآخر عضوياً، أما أولهما فيقوم على إرجاع أسس التقدم إلى جذور إسلامية عربية، وذلك على خلفية تفسير تقدم ونهضة الغرب بأنه مستمد في جذوره الأساسية من الحضارة الإسلامية والتراث العربي، وثانيهما هو السعي إلى شرح صحيح الإسلام بعد نفض ما لحق به من غبار فكري هو ليس جزءًا منه وإنكار ممارسات للمسلمين لا تعبر في شيء عن جوهر الإسلام وحقيقته، بل هي نتاج قرون من التراجع الفكري والثقافي مر بها العرب والمسلمون في وقت كان يمر الغرب بسنوات نهضته وإصلاحه الفكري والديني، حيث أن صحيح الإسلام هذا ليس فقط لا يتناقض مع المدنية الحديثة أو يعوق تحققها، بل هو في واقع الأمر الداعي لها أصلاً في جوانبها الإيجابية ومن ثم فهو في جوهره في حالة انسجام وتناغم كامل مع غالبية مرتكزاتها ومعالمها. كما ارتكز هذا المشروع الفكري الإصلاحي على أساس أن الغاية من أعمال الإنسان التي هي حسن عبادة الله تتضمن في جوهرها بناء حضارة مدنية إنسانية مزدهرة، وأن الإقرار بالحاجة إلى التغيير إلى الأفضل هو أمر مرتبط بمبادئ الإسلام، فالتغيير إلى الأفضل ليس فقط مما يجيزه الإسلام بل إنه مما يطالب به الإسلام إذا ما فهمه المسلمون على حقيقته.

     وهنا يكمن الاكتشاف الأهم للمشروع الفكري الإصلاحي الذي حرص الدكتور حسن حنفي على بعثه من "كبوته"، واعتبر نفسه امتداداً طبيعياً له ومستحضراً همه التنويري، وهو اكتشاف التقدم في نموذج الماضي، أو بمعنى أكثر تفصيلاً أن الأخذ بأسباب التقدم والمدنية مرهون بالرجوع إلى الأصول الصحيحة للدين الإسلامي، والتي هي في جوهرها متماهية مع جوهر التقدم والمدنية الحديثة في معظم جوانبها الإيجابية التي تمثل غالبية مكوناتها. فعلى مدار القرون الثلاثة الماضية كان هناك توجهين في قراءة التراث، أو بمعنى أدق ثنائية حادة في التعامل مع إشكالية النهضة في الفكر العربي المعاصر وهي في واقع الأمر إشكالية الأصالة والمعاصرة: أما التوجه الأول فهو توجه كرس الدفاع عن ما اعتبره الأصالة والتراث والهوية وذاد عن قلاعها في مواجهة ما أسموه بـ "الأفكار والمذاهب المستوردة" التي تعمل قوى "التغريب" على التبشير بها ونشرها، بينما التوجه الآخر يعتبر نفسه تحديثياً ويقوم بتوصيف حالة التخلف الحضاري السائدة لدي العرب والمسلمين بأنها تعود إلى تمسكهم بمعتقدات ماضوية باتت تمثل عائقاً معرفياً أمام التقدم العلمي والمدنية، ومن ثم أوصى هذا التوجه بنبذ تلك المعتقدات وتبني قيم الغرب المتقدم والمنتصر باعتبارها قيم الحضارة المعاصرة.

     وفي مقابل هذين التوجهين، برز الموقف الجرئ والمتميز للمفكر والفيلسوف الكبير الراحل الدكتور حسن حنفي عبر المنهاجية الجديدة التي أشرنا إلى أبرز معالمها فيما سبق والتي طمحت في أن تخرج الفكر العربي من المأزق المأزوم والطريق المسدود الذي يفضي إليه كل تصور انطلق من ثنائية "الأصالة والمعاصرة" باعتبارهما في حالة تناقض غير قابل للحل.