من أهم الموضوعات التي قد يكون من الضروري إلقاء الضوء عليها للقارئ المصري والعربي من خلال تناولها عند الحديث عن الإسهام الفكري الكبير للفيلسوف والمفكر المصري والعربي الكبير الراحل الدكتور حسن حنفي الذي غادر عالمنا مؤخراً هو ما بلوره وتبناه من مواقف ورؤى إزاء تاريخ الفكر العربي والإسلامي ومسيرة تطوره عبر الحقب والمراحل المتتالية، حيث أنه رحمه الله قدم في هذا السياق العديد من الدفوعات الجديدة والأطروحات المبتكرة التي أدلى بها في هذا السياق.
فلم ينظر الدكتور حسن حنفي إلى التراث الفكري العربي والإسلامي من منطلق أنه مجرد تراث موجود في المتاحف أو المكتبات أو انعكاساً لمجموع سلوكيات كانت سائدة أو غالبة في أزمنة ماضية، بل إنه اتخذ منحاً إيجابياً في سعيه لمحاولة بلورة تعريف جديد وبناء للتراث الفكري العربي والإسلامي. وطبقاً لهذا التعريف، فإن هذا التراث الفكري العربي والإسلامي يحمل في طيات مكوناته ما يصلح ليمثل إطاراً نظرياً لتوجيه العمل الإنساني ويساعد على إصلاح السلوك البشري ويمثل رصيداً تاريخياً ثرياً وذخيرة قومية هامة للأمتين العربية والإسلامية في سياق مسيرة نضالهما الراهنة بما يمكن من توظيفه عبر إعادة اكتشاف هذا التراث ونفض الغبار عما لحق به في عصور الاضمحلال الفكري للعرب والمسلمين وحسن توجيهه واستثماره من أجل إعادة بناء الإنسان في العالمين العربي والإسلامي على أسس سليمة وأرضية ثابتة ومتجذرة.
وطبقاً للطرح المذكور، فالتراث الفكري ليس مجرد تاريخاً بل هو جزء من الواقع الحي والمعاش كما أنه مكون هام للثقافة الاجتماعية لأي مجتمع وللتركيبة النفسية للبشر، ومن خلال هذه الحقائق، فهذا التراث الفكري له دور كبير في الزمن الراهن في التحكم بدرجة كبيرة في سلوك البشر ويؤثر بشكل كبير على صياغة تصوراتهم، كما أنه يمثل أسس هياكل وأبنية الواقع المعاش. وبناءًا على ذلك، فإن أي معالجة للتراث الفكري العربي والإسلامي يتعين أن ترتكز على إعادة تفسيره أخذاً في الاعتبار الإشكاليات الفكرية الراهنة التي تواجهها الأمتان العربية والإسلامية.
وفي ظل أن الدكتور حسن حنفي اعتبر أن الهدف هو بلورة مشروع يجمع بين التراث والتجديد، فإنه أبرز أنه يجب أن تتسم عملية إعادة قراءة التراث الفكري العربي والإسلامي بإجراء تمييز بين الجوانب الإيجابية في ذلك التراث الفكري والتي يمكن أن تشكل دوافعاً لمشروع نهضة جديدة للأمتين العربية والإسلامية وما يشترط لذلك ويجب أن يسبقه من تنوير فكري، وبين الجوانب التي شابت ذلك التراث الفكري في عصور تراجع الأمتين العربية والإسلامية على الأصعدة الفكرية والثقافية والحضارية والتي يمكن أن تشكل عوائق أمام المشروع الفكري الجديد للتنوير والتجديد.
واعتبر الدكتور حسن حنفي أن التراث الفكري العربي الإسلامي، مثله مثل أي تراث فكري آخر في العالم به يمين ويسار، سواء في الفلسفة أو الفقه أو التفسير، وفي هذا السياق راهن على اليسار ووضع ثقله خلفه ومعه، فاعتبر تغليب المصالح المرسلة في الفقه بمثابة اليسار، والنزعات العقلانية الطبيعية في الفلسفة هي اليسار والحركات الفكرية المعارضة في التاريخ الأول للإسلام مثل الخوارج والمعتزلة بمثابة يسار، وبالتالي رأى المفكر والفيلسوف الكبير الراحل الدكتور حسن حنفي أن مهمة مشروعه التجديدي للتراث هو الكشف عن الجوانب التقدمية المهمشة على مدار القرون في التراث الفكري العربي والإسلامي، وذلك في سياق مشروع متكامل لتفسير التراث الفكري بشكل تقدمي وحتى يمثل أسس أيديولوجيا تقدمية تعكس هموم البشر وقضاياهم وأحلامهم وتطلعاتهم، بما يماثل لاهوت التحرير ولاهوت الأرض اللذين تطورا في سياق الكنيسة الكاثوليكية منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، خاصة في أمريكا اللاتينية، والذي كان من أهم رموزها الأسقف السلفادوري الشهيد أوسكار روميرو.
وكان هدف الدكتور حسن حنفي هو تحويل الجوانب التقدمية لذلك التراث الفكري العربي والإسلامي إلى إطار عام يمثل نظرية متكاملة تتحول بدورها إلى أيديولوجيا شاملة وواضحة المعالم والحدود تقوم على ركائز علمية وموضوعية وعقلية سليمة ويترتب عليها بلورة برنامج عمل لوضعها موضع التنفيذ من جهة المبادئ والمؤسسات والأهداف عبر مشاريع واستراتيجيات واضحة ومفهومة للجميع.
بل إن الدكتور حسن حنفي ذهب إلى خطوة أبعد من ذلك حين اعتبر أن التراث الفكري العربي والإسلامي، بعد غربلته من جهة للاحتفاظ بالصالح منه والتخلص من الطالح، وبعد إعادة تفسيره باتجاه تقدمي من جهة أخرى، يساهم بشكل كبير ليس فقط في فهم العالم من حولنا وطرح توصيف دقيق وسليم له، بل أيضاً، وقد يكون ذلك هو الأهم، تخطي ذلك إلى المساعدة في العمل نحو تغيير العالم إلى حال أفضل وزيادة قدرات البشر على التحكم في هذا العالم المحيط بهم.
وكان المستهدف لدي المفكر والفيلسوف الراحل من الاستفادة من التراث الفكري هو الدفاع عن الأمتين العربية والإسلامية اللتين عانتا من التشرذم والتفكك وتلقتا العديد من الهزائم المتتالية على مدار القرون الأخيرة، سواء من الخارج أو من الداخل، وشابهما درجات متفاوتة من الجمود والعجز عن الفعل والاكتفاء برد الفعل والاتصاف بصفة عامة بما يمكن اعتباره تكاسلاً وتقاعساً وقعوداً عن النهوض في طريق التقدم والتطور والتجديد والتحديث، وبالتالي فيتعين الاستفادة من التراث الفكري للدفاع عن الأمتين العربية والإسلامية شعوباً وأرضاً وثقافةً وثروات وبشراً.
وقد ارتكز مشروع التراث والتجديد عند الدكتور حسن حنفي على إبراز المحتوى الحقيقي للتراث الحي لدي الشعوب، وهو تراث قائم على إعطاء الأولوية في المقام الأول لمصالح تلك الشعوب العربية والإسلامية، كما أنه سعى للحد من موجة "التغريب" التي دفعت بقطاع هام من المثقفين إلى الانفصال عن التراث لأنهم لم يروا فيه إلا ما لحق به في سنوات التراجع والجمود الفكري، وحان الوقت لاستعادتهم إلى التراث الفكري للأمة بعد تنقيحه وتوجيهه باتجاه تقدمي، كما أن من شأن ذلك الطرح الفكري إزالة الفجوة القائمة على الصعيد الثقافي، بل وحتى على صعيد الخطاب الاجتماعي، بين النخبة المثقفة والقطاع العريض من جماهير الشعوب العربية والإسلامية، خاصة في ضوء الأهمية المتزايدة للثقافة والتأثير المتصاعد في عالمنا لما يمكن أن نطلق عليه "سلطة الثقافة".
وقد دفع هذا المشروع الفكري إزاء التراث المفكر والفيلسوف الكبير الراحل إلى السعي نحو إرساء قواعد وأسس لمنهج جديد في إعادة تفسير التراث الفكري العربي والإسلامي، حيث دعا إلى ما أسماه إعادة بناء العلوم الإسلامية الأساسية الأربعة، وهي: علم الكلام والفلسفة والتصوف وعلم أصول الفقه. وتطلب ذلك من وجهة نظره، كما خلص أيضاً من قبل المفكر الإيراني الراحل الكبير الدكتور علي شريعتي، بناء ما يمكن أن نطلق عليه سوسيولوجيا تاريخية للفكر العربي والإسلامي تهدف إلى الكشف عن الجذور السوسيو / أيديولوجية للإشكالات القائمة على المستويات التاريخية والحضارية والعقائدية والاجتماعية في زماننا الراهن، فالغرض هو العودة بالعلوم الإسلامية، المستمدة أصلاً من الوحي القرآني، إلى علوم حضارية تساهم بدورها في صياغة إطاراً نظرياً يساعد العرب والمسلمين على فهم واقعهم وما يدور حولهم ويساعد على توجيههم لكيفية تغيير ذلك الواقع إلى الأفضل الذي يحقق كل ما فيه صالح الأمتين العربية والإسلامية.
الدكتور حسن حنفي وتاريخ الفكر العربي والإسلامي
بقلم: وليد عبد الناصر - في: الجمعة 28 يناير 2022 - التصنيف: مقالات رأي
فعاليات
مناقشة رواية النباتية لهان كانج الحاصلة على جائزة نوبل للأدب
نوفمبر 08, 2024
تمت منااقشة رواية النباتية يوم الجمعة 8 نوفمبر 202...
Art Auction: Support Palestinian Families in Gaza
أكتوبر 18 - 20, 2024
Join us on October 18th for Art for Aid, an online...
مناقشة نصف شمس صفراء لشيماماندا نجوزي أديتشي
سبتمبر 28, 2024
تمت مناقشة رواية نصف شمس صفراء للكاتبة النيجيرية ش...
إدوارد سعيد: الثقافة والإمبريالية
يوليو 27, 2024
تمت مناقشة كتاب الثقافة والإمبريالية لادوارد سعيد...