ترجمها للعربية د.محمد عبدالحليم غنيم

اللون والضوء بقلم سالي روني

    أول مرة يراها فيها كانت وهي تركب في سيارة شقيقه. كان جالسًا في المقعد الخلفي، وهي تجلس في المقعد الأمامي، تغلق باب الراكب خلفها. ثم لاحظته. التفتت حولها، ورفعّت حاجبيها، ثم عادت لتتحدث إلى دكلان قائلة: من هذا؟

    قال دكلان:

  - هذا إيدن، أخي.
    قالت بهدوء:

   -  لم أكن أعلم أن لديك أخًا.

   التفتت  إلى الوراء مرة أخرى، وكأنها تقبل واقع أنه يجب عليها التحدث إليه. سألته:

 - أكبر أم أصغر؟

    قال إيدن:

  - أنا؟ الأصغر.

   كانت الإضاءة داخل السيارة خافتة، وقد ضيقت عينيها قبل أن تقول:

     - تبدو كذلك.

      قال دكلان:

     - إنه أصغر بسنة واحدة فقط.
     أدارت المرأة وجهها الآن لتنزل زجاج نافذتها. كان عليها أن تديرها باستخدام الرافعة الصغيرة على الباب.
     قالت:

    - كان والداكما  مشغولين، كم عدد الإخوة الآخرين؟

     قال دكلان:

   - فقط نحن.

     قالت:

    - لقد أنجزا الأمر بسرعة إذن . تصرف حكيم.

     بدأ دكلان بالقيادة للخروج من موقف السيارات والعودة إلى الطريق الرئيسي. اندفع هواء الليل البارد عبر النافذة المفتوحة. كانت المرأة تشعل سيجارة. لم يرَ سوى مؤخرة رأسها وذراعها الأيسر، ومرفقها مائلا.  قال دكلان:

    - سأوصل هذا الفتى إلى منزله ثم سنذهب في جولة.

     قالت المرأة:

    - فكرة رائعة. 

      على يمينهم صف من المنازل والمحلات التجارية، يضيق تدريجيًا مع اقترابهم من أطراف البلدة. ثم تأتي حديقة الكرفانات، وملاعب الجولف. هل تعرف المرأة مسبقًا مكان إقامة أيدن؟ لا يبدو عليها الفضول بشأن المدة التي سيستغرقها الوصول. تنفث دخان سيجارتها خارج النافذة. كان سطح ملعب الجولف يلمع بشكل قاتم.

         بعد دقيقة أو اثنتين، تسأله المرأة:

       - ماذا تعمل، أيدن؟

        - أعمل في الفندق.

       -  أوه؟ منذ متى وأنت هناك؟

       قال :

      - بضع سنوات. 

      - هل يعجبك العمل؟

    - لا بأس به. 

      أخرجت المرأة طرف سيجارتها من النافذة وأغلقت النافذة. أصبحت السيارة أكثر هدوءًا حينها، وبدت الأمور معلقة دون كلام. لم يقل دكلان شيئًا. عضّ إيدن برفق جانب ظفره الأيسر. هل يجب عليه أن يسألها عن عملها؟ لكنه لا يعرف حتى اسمها. وكأن دكلان قد استشعر هذه المشكلة بالذات، فقال:

    - بولين كاتبة.

      قال إيدن:

   - أوه. ما نوع الأشياء التي تكتبينها؟
      قالت:

     - أفلام.كاتبة سيناريو.

     لسبب ما، لا يريد إيدن أن يبدو متفاجئًا من هذه المعلومة، رغم أنه لا يظن أنه قد جلس في سيارة مع كاتبة سيناريو من قبل. يقتصر رده على صوت يشبه "هممم". كأنه يقول: حسنًا، ها نحن ذا ". أما المرأة، التي يبدو أن اسمها بولين، فتدير رأسها فجأة لتنظر إليه. لاحظ إيدن أن شعرها مشدود إلى الوراء من جبهتها بواسطة شريط مخملي عريض. وعلى وجهها ابتسامة غريبة.  

     قالت:

  - ماذا؟ ألا تصدقني؟

    شعر بالرتباك، شعر أنه قد أساء إليها وأن دكلان سيكون غاضبًا منه لاحقًا. قال:

بالطبع أصدقك، لماذا لا أصدقك؟

    لم تقل شيئًا لبضع ثوانٍ، ولكن في الظلام وصمت السيارة، كانت تنظر إليه. في الواقع، كانت تحدق فيه مباشرة في عينيه، لثوانٍ معدودة، ربما حتى لأربع ثوانٍ كاملة، وهو وقت طويل جدًا. لماذا كانت تنظر إليه هكذا؟ كان وجهها بلا تعبير. كان جبهتها شاحبة وشفتاها شاحبتين أيضًا، لذلك كان فمها يبدو كخط رقيق هل تنظر إليه فقط لتريه وجهها، وجه كاتبة سيناريو؟ عندما تحدثت، بدا صوتها مختلفًا تمامًا. تقول ببساطة: حسنًا. ثم تتوقف عن النظر إليه وتدير وجهها إلى الأمام مجددًا.

     لم تتحدث إليه مرة أخرى طوال الرحلة. بدأ دكلان وبولين الحديث معًا عن أشخاص وأحداث لا علاقة لها بإيدن. استمع إليهما كما لو أنهما يؤديان مسرحية وهو الوحيد في الجمهور. سأل دكلان بولين متى ستغادرين  إلى باريس وأجابته. أخرجت هاتفها وبدأت تبحث عن صورة لتريه إياها. قال دكلان إن شخصًا يدعى مايكل لم يرد عليه بشأن شيء، فقالت بولين: "أوه، مايكل سيكون هناك، لا تقلق". من خلال النوافذ، كان الظلام يتخلله أضواء المصابيح الأمامية التي تمر بسرعة، وعلى بُعد في التلال، كانت أضواء المنازل تتأرجح، تختفي  وتظهر بين أوراق الأشجار. شعر إيدن بشعور ما، لكنه لم يعرف ما هو هذا الشعور. هل هو منزعج؟ لماذا يجب أن يكون كذلك؟

      أشار دكلان لليسار إلى الحي. أصبحت أضواء الشوارع أكثر سطوعًا مع اقترابهم، ثم عاد العالم ليكتظ بالمنازل شبه المنفصلة وصناديق القمامة والسيارات المتوقفة. توقف دكلان أمام منزل إيدن.

    قال إيدن:

    - شكرًا على التوصيلة، تصبحان على خير .

     لا ترفع بولين عينيها عن هاتفها.

      رآها مرة أخرى بعد بضعة أسابيع في الفندق. دخلت في إحدى الليالي لتناول العشاء مع مجموعة من الأشخاص الذين لم يرهم إيدن من قبل. لم تكن ترتدي شريط شعر هذه المرة—كان شعرها مثبتًا عالياً على رأسها بواسطة مشبك—لكنها كانت بالتأكيد نفس المرأة. قدم إيدن إبريق ماء إلى الطاولة. كانت بولين تتحدث والجميع يستمع إليها، بما في ذلك الرجال، بعضهم أكبر سناً ويرتدون بدلات. بدا الجميع مفتونين بها—"ما أندر هذا!" فكّر إيدن، "أن ترى رجالًا بالغين يتعلقون بكلمات فتاة بهذه الطريقة." تساءل إذا كانت مشهورة، أو ربما مهمة بطريقة ما. عندما يملأ كأسها، تنظر إليه وتقول: 

- شكرا .

ثم تعقد حاجبيها وتضيف:

      - هل أعرفك؟

        توجهت الأنظار جميعًا نحو إيدن. شعر بالارتباك. قال:

      - أعتقد أنك تعرفين أخي، دكلان .

      ضحكت كما لو أنه قال شيئًا ساحرًا للغاية. قالت:

    -   أوه، أنت أخو دكلان كيرني".

     ثم توجهت إلى أصدقائها وأضافت:

    - قلت لكم إني أعرف جميع السكان المحليين .

     ضحكوا بإعجاب وتقدير . لم تنظر إليه بولين مرة أخرى. أنهى إيدن ملء الكؤوس وعاد إلى البار.

     في نهاية الليلة، ساعد إيدن مجموعة بولين في أخذ معاطفهم من غرفة الملابس. كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل. بدا الجميع قليلاً في حالة سكر. لا يزال إيدن غير قادر على تحديد علاقتهم ببعضهم البعض—هل هم أصدقاء أم زملاء أم عائلة؟ كان الرجال يراقبون بولين، بينما كانت النساء الأخريات يتحدثن ويضحكن فيما بينهن. طلبت منه بولين أن يتصل ببعض سيارات الأجرة لهم. ذهب إلى المكتب وأخذ الهاتف. وضعت يدها برفق على الطاولة، بالقرب من الجرس.

       قالت:

    - سنذهب لتناول مشروب في منزلي. هل ترغب في الانضمام إلينا؟

     قال آيدن:

    - أوه، لا .لا أستطيع.

     ابتسمت بلطف وعادت إلى أصدقائها. يتصل أيدان برقم التاكسي، ضاغطًا الهاتف بشدة على رأسه حتى تصرخ النغمة في أذنه.. كان يجب عليه أن يقول شكرًا على الأقل. لماذا لم يفعل؟ كان مشغولًا بالتفكير في مكان منزلها. لا يمكن أن تعيش في المدينة، وإلا لكان قد تعرف عليها. ربما انتقلت مؤخرًا إلى المدينة، أو ربما تعمل على فيلم جديد. إذا كانت تكتب أفلامًا حقًا. كان يجب عليه أن يتوقف لحظة ليفكر في سؤالها، وعندها كان سيتذكر أن يشكرها. على الهاتف طلب سيارتي تاكسي ثم أغلق الخط.

     قال:

   - سيكونان هنا قريبًا. 

    أومأت بولين دون أن تنظر إليه. لقد جعلها تنفر منه.قال:

     - لم أكن أعرف أنكِ تعيشين هنا

     أومأت مرة أخرى. أمامه الآن نفس المنظر الذي رآه في السيارة منذ بضعة أسابيع: الجزء الخلفي من رأسها وعنقها وكتفيها. عندما تصل سيارات الأجرة إلى الخارج، تقول دون أن تلتفت إليه:

بلغ تحياتي لِدِكلان.

    ثم غادروا جميعًا. بعد ذلك، أخبره النادل الذي قام بتنظيف طاولتهم أن بولين تركت إكرامية ضخمة.
     بعد عدة أيام، كان يعمل في مكتب الاستقبال في فترة الظهيرة، واصطف الزبائن بينما كان على الهاتف. عندما أنهى المكالمة، اعتذر لهم عن الانتظار، وقام بتسجيل مغادرة الضيوف غرفهم، ومسح بطاقات المفاتيح، ثم جلس على الكرسي المتحرك. الضيوف في الواقع لا يحتاجون لذلك – الانتظار ليتم إنهاء إجراءات المغادرة. يمكنهم فقط ترك بطاقات المفاتيح على المكتب والمغادرة دون وداع رسمي. لكن آيدن يعتقد أنهم يريدون الحصول على الموافقة الرسمية، ليتم الاعتراف بمغادرتهم بطريقة ما. أو ربما هم فقط لا يعرفون أنهم مسموح لهم بذلك، ويعتقدون أنهم لا يستطيعون المغادرة إلا إذا تم إخبارهم بذلك، لأن البشر في جوهرهم مطيعون للغاية. كان ينقر بأصابعه على المكتب بإيقاع صغير، وهو شارد الذهن.

     كان ديكلان وآيدن في خضم صفقة بيع منزل والدتهما. كان لدى ديكلان منزل خاص به بالفعل، منزل أصغر، أقرب إلى المدينة، مع قرض عقاري مدته عشرون عامًا. اعتقد الناس أن آيدن قد يعود للعيش في المنزل القديم، بما أنه يستأجر في الخارج ويضطر لمشاركة المكان مع زملاء في السكن، لكنه لا يريد ذلك. هو فقط يريد التخلص من المكان. كانت والدتهما مريضة لفترة طويلة، رغم أنها لم تكن كبيرة في السن، وكان يحبها جدًا، لذا من المؤلم التفكير فيها الآن. وفي الواقع، يحاول ألا يفكر فيها.. فالتفكير فيها يثير شعوراً لا يستطيع التحكم فيه—قد يبدأ كفكرة مجردة أو ذكرى، ولكن سرعان ما يتبعه شعور لا يمكنه مقاومته. كان يتمنى لو يستطيع أن يفكر فيها من جديد، لأنها كانت الشخص الذي أحبّه أكثر من أي شخص آخر في حياته، لكن من غير الممكن أن يفكر فيها الآن دون ألم – ربما لن يكون ذلك ممكنًا أبدًا. على أية حال، ليس كما لو أن الألم يختفي عندما لا يفكر فيها. قد يزداد ألم الحلق سوءًا عندما تبتلع، وقد يصبح مؤلمًا لدرجة لا تُحتمل، لكن هذا لا يعني أن الألم يختفي عندما لا تبتلع. نعم، الحياة مليئة بالمعاناة ولا يوجد سبيل للتحرر منها. على أية حال، هما بصدد بيع المنزل، وسيحصل آيدن على بعض المال، لكن ليس بالكثير.

     في تلك الليلة، جاء ديكلان ليأخذ آيدن من عمله في وقت متأخر جدًا، بعد الثانية صباحًا، وكانت بولين مستلقية في المقعد الخلفي للسيارة، تبدو أنها سكرانة. قال ديكلان:

     - تجاهلها .
      قالت بولين:

   - لا تتجاهلني، كيف تجرؤ؟
   سأل ديكلان:

    - كيف كان العمل؟
     أغلق آيدن الباب ووضع حقيبته عند قدميه. قال:

      - حسنًا.

      كانت السيارة تفوح برائحة الكحول. شعر أيدن أنه لا يزال لا يعرف هذه المرأة، التي ترقد في المقعد الخلفي. هي تظهر في حياته كثيرًا في الفترة الأخيرة، لكن من تكون؟ في البداية ظن أنها صديقة ديكلان، أو على الأقل مرشحة لذلك الدور، لكن في تلك الليلة في الفندق، بدت مختلفة - متأنقة بطريقة ما، مع كل تلك الأنظار التي تلاحقها من الرجال. وبالطبع، لم يكن ديكلان هناك، بل وحتى دعت أيدن لتناول مشروب بعد ذلك. كان بإمكانه أن يسأل شقيقه: "كيف تعرف هذه الفتاة؟ يعني، هل أنتما معًا؟" لكنه كان يعرف أن ديكلان لن يتقبل هذا النوع من الأسئلة.

   قالت بولين:

- كيف كنت ستعود إلى منزلك لو لم يكن هناك من يوصلّك؟"
 قال آيدن:

 - سأمشي .
قالت:

 - كم سيستغرق ذلك؟
قال آيدن:

- حوالي ساعة."
سألت:

 - هل هو خطر؟
رد أيدن مستغربًا:

- ماذا؟ لا، ليس خطرًا. خطر من أي نوع؟
قال ديكلان بحزم :

- تجاهلها .

 قالت بولين:

  - آيدن هو صديقي الجيد، لن يتجاهلني. تركت له بقشيشًا سخيًا في مطعمه، أليس كذلك؟

  قال آيدن:

  - عرفت، كان ذلك لطيفًا منك.

  وتابعت القول :

- ودعوته إلى منزلي .
وأضافت بولين :

 - لتُرفض دعوتي بقسوة.
 قال ديكلان:

  - ماذا تعنين، دعوتِيه إلى منزلك؟ متى كان هذا؟
 قالت:

   - بعد العشاء في الفندق. صدني بقسوة.


      يشتعل وجه أيدان بالحرارة. يقول:

   - حسنًا، أنا آسف لأنك شعرتِ بذلك، لكن لا أستطيع ترك عملي لمجرد أن أحدهم دعاني إلى منزله.  

    يقول ديكلان:

   - لم أتلق دعوة.

   أجابت بولين:

   كنتَ مشغولاً، وكذلك كان أخوك، بالطبع. هل يمكنني أن أسألك شيئاً عن عملك، آيدن؟

  يقول:

  - ماذا؟

  - هل سبق لك أن نمت مع أي من ضيوف الفندق؟

    قال ديكلان مستنكرًا:

   - يا إلهي، بولين!

   هم الآن يقودون بجانب حديقة الكرفانات مرة أخرى، حيث أسطح الكرفانات المنحنية الناعمة تتوهج بضوء القمر المنعكس، بيضاء مثل الأظافر. وراء ذلك، يعلم أيدن أن هناك البحر، لكنه لا يستطيع أن يراه أو يشمه أو حتى يسمعه الآن، فهو محاصر داخل السيارة مع بولين وهي تضحك، والهواء محمّل برائحة الكحول والعطر. هل لا تعرف أن ديكلان لا يحب هذا النوع من المزاح؟ أو ربما هي تعرف، وتستفزه عمدًا لسبب لا يفهمه أيدن.

    يقول ديكلان:

  - لا تستمع إليها .   

    تعدو سيارة بسرعة وتختفي. يلتفت آيدن لينظر إليها. من هذا الزاوية، كان وجهها مائلًا. كان طويلاً وأسطوانيًا في الواقع، مثل شكل حبة مسكن للصداع.

     قالت:

  - يمكنك أن تخبرني ، يمكنك أن تهمس لي .

     يقول ديكلان:  

  -  أنتِ تغازلينه"، أنتِ تغازلين أخي أمامي. في سيارتي!  

     يمد يده ويضرب آيدن على ذراعه. ويقول:

      - توقف عن النظر إليها ،  التفت الآن. أنتَ تفسد الأمور، وأنا لا أحب ذلك.

     سأل آيدن:

    - من كانوا هؤلاء الناس في الفندق ليلة البارحة؟  هل كانوا أصدقائك؟

      -  مجرد أشخاص أعرفهم .

      - يبدو وكأنهم معجبين جدًا بك.

      قالت بولين:

    - هكذا يتصرف الناس عندما يريدون شيئاً منكِ.

تركت له المجال ليواصل النظر إليها. كانت مستلقية هناك، تستقبل نظراته بصمت، مبتسمة بابتسامة خفيفة، تسمح للحظة أن تستمر. ضربه ديكلان مجددًا على ذراعه. التفت أيدن. كان الزجاج الأمامي فارغًا، مثل شاشة كمبيوتر بلا حياة.

   قال آيدن:

  - لا يُسمح لنا بالنوم مع الضيوف.

    - لا، بالطبع لا. لكنني أراهن أنك قد تلقيت عروضاً.

      -  نعم، في الغالب من الرجال.

     يبدو أن ديكلان متفاجئ. يقول:

      - حقاً؟

      يكتفي آيدن بهز كتفيه.

      لم يعمل ديكلان أبداً في فندق، ولا في بار أو مطعم. هو مدير مكتب مع شهادة في إدارة الأعمال.

     تسأل بولين:

   - هل تغريك الفكرة أبدًا؟

     -  ليس عادةً.

        يمسك آيدن بمقبض النافذة في باب السيارة، لا يرفعها أو يخفضها، فقط يعبث بها.ثم يقول :

      -   كان لدينا كاتبة في الليلة الماضية دعَتني إلى منزلها.

       - هل كانت جميلة؟

       يقاطعهما ديكلان:

     - بولين!" أنتِ تُغضبينني الآن. فقط توقفي، حسناً؟ يا إلهي. هذه آخر مرة أقدم لكِ فيها خدمة."

     لا يستطيع آيدن أن يعرف ما إذا كان ديكلان لا يزال يتحدث إلى بولين الآن، أم إليه. بدا وكأنه يقصد بولين، لكن آيدن هو من يتلقى خدمة توصيله إلى المنزل، وليس هي، إلا إذا كانت هناك خدمة أخرى تحدث في نفس الوقت. يسود الصمت. يفكر آيدن في غرفة المفارش في العمل، حيث يتم تخزين الشراشف النظيفة، مطوية بإحكام بين الألواح الخشبية، زرقاء فاتحة، وتفوح منها رائحة البودرة والصابون.

      عندما يتوقفون أمام منزله، يشكر آيدن أخاه على التوصيلة. يقوم ديكلان بإيماءة استهانة في الهواء بيده. يقول "لا تشغل بالك" . شكل وجه بولين ظاهر من خلال نافذة السيارة الخلفية، لكن هل هي تنظر إليه أم لا، لا يستطيع أن يحدد.

      بعد أسبوعين، يُقام مهرجان الفنون في المدينة والفندق مزدحم. يجب على مدير آيدن أن يستدعيه للعمل في نوبة إضافية يوم الجمعة لأن إحدى الفتيات مصابة بالتهاب الحنجرة. ينتهي من عمله في الساعة العاشرة مساءً يوم السبت ويذهب إلى الواجهة البحرية لحضور حفل الختام للمهرجان. إنه نفسه كل عام، عرض للألعاب النارية في نهاية الرصيف. شاهد العرض عشر أو اثني عشر مرة الآن، أو أيّاً كان عدد السنوات التي مرَّ فيها المهرجان. كانت المرة الأولى التي شاهده فيها حين كان مراهقاً، مازال في المدرسة. كان يعتقد حينها أن حياته على وشك أن تبدأ، وكان يشعر وكأنه على حافة اللحظة المنتظرة، وأن أي يوم أو حتى أي لحظة ستنتهي فيها فترة الانتظار وتبدأ الحياة الحقيقية. 

    على الشاطئ، يغلق سترته حتى ذقنه. الشاطئ مزدحم بالفعل وأضواء الشوارع على الممر تطلق توهجاً رمادياً فوق الرمال والبحر. تمشي العائلات على الشاطئ مع عربات الأطفال، يتشاجرون أو يضحكون، والقوارب تطرق في المارينا، صوت يشبه رنين الأجراس اليدوية، لكن عشوائي وغير متصل. المراهقون يجلسون على الدرجات، يشربون العلب ويضحكون على الفيديوهات. أشخاص من المهرجان يحملون أجهزة اتصال لاسلكي على آذانهم ويسيرون حولهم بشكل مهم. ينظر آيدن إلى هاتفه، يتساءل إذا كان ديكلان هنا، أو ريتشي، أو أي من أصدقائه في العمل، لكن لا أحد قد قال شيئاً في الدردشة الجماعية. الجو بارد مرة أخرى هذا العام. يضع هاتفه في جيبه ويفرك يديه.

    كانت بولين تمشي نحوه عندما رآها، ما يعني أنها هي التي رآته أولاً. كانت ترتدي سترة صوفية  كبيرة الحجم تصل تقريباً إلى ركبتيها شعرها مرفوع للخلف عن جبهتها بواسطة رباط شعر مرة أخرى. قالت:

  - إذاً لديك أيام عطلة.

   قال:

  - في الواقع، للتو انتهيت من العمل ، لكنني في إجازة غدًا .

 - هل يمكنني مشاهدة الألعاب النارية معك أم أنك مع شخص آخر؟

    أعجبه هذا السؤال على الفور. ويبدو أن تقليبه في ذهنه يكشف اكتشف فيه أبعادًا جديدة تزيده جاذبية.

   قال:

 - لا، أنا وحدي . يمكننا مشاهدة الألعاب معاً، نعم.

   تقف بجانبه وتفرك ذراعيها كما لو كانت تشعر بالبرد. ينظر إليها، متسائلًا إن كان هذا التمثيل يحتاج إلى نوع من الرد منه. 

     قالت:

    -  آسفة كنت في حالة فوضى تلك الليلة.

   - متى كان ذلك؟

     - الأسبوع الماضي، أو أيّاً كان. أظن أن دكلان كان منزعجًا بعدها.

     - هل كان كذلك؟

     - هل قال لك شيئاً عن ذلك؟

      قال آيدن:

     - لا، لا نتحدث حقاً عن هذه الأمور.    

     تنطفئ الأضواء من فوقهما ويغرق الشاطئ في الظلام.

   من حولهما، الناس يتحركون، يتجمعون، يقولون أشياء، يخرجون هواتفهم ويشعلون المصابيح، ثم في نهاية الرصيف تبدأ الألعاب النارية. ينبثق خط من الشرر الذهبي إلى السماء وينتهي بنقطة ملونة: أولاً وردية، ثم زرقاء، ثم وردية مرة أخرى، ملقيةً ضوءاً مهيباً على الرمال والماء. ثم صوت صفير، منخفض مثل النفس، وفوقهما في السماء، تنفجر الأزهار الحمراء، ثم الصفراء ثم الخضراء، تاركة وراءها أوراق ذهبية ناعمة. عندما تنفجر الألعاب النارية، يكون الصوت أولاً صمتاً ملوناً وضوءاً، وبعد لحظة يصدر الصوت: فرقعة عالية مثل شيء ينكسر، أو دويّ عميق يذهب إلى الصدر. يستطيع آيدن رؤية الصواريخ الصغيرة وهي تطير إلى الأعلى وتصفر في السماء ، تكاد تكون غير مرئية، ثم تتفجر إلى قطع ضوء، تتلألأ مثل البيكسلات، بيضاء ساطعة تتحول إلى صفراء ثم ذهبية إلى ذهب داكن ثم سوداء. إنه الذهب الداكن، قبل الأسود مباشرة، الذي يجده أكثر جمالاً: لون الجمر المنخفض، أغمق من الفحم المتوهج. أخيرًا، مرتفعة جداً بحيث يضطرون إلى رفع أعناقهم لرؤية الشكل بالكامل، ثلاث ألعاب نارية صفراء متألقة، تلتهم السماء، تلتهم الظلام كله. ثم ينتهي العرض. تعود الأضواء إلى السطوع.

      إلى جانبه، كانت بولين تفرك وجهها وأنفها بيديها. كان الجو باردًا مرة أخرى. أدرك أيدن، بطريقة غامضة، أن الكثير من الأمور تعتمد الآن على ما إذا كانت بولين قد استمتعت بالألعاب النارية. إذا لم تعجبها، إذا كانت ترى أنها مملة، فهذا يعني أنه لن يحبها بعد الآن، بل ستفقد اللحظة سحرها، وسيموت شيء جميل كان يعيشه في تلك اللحظة. لم يبح بكلمة. مع الجميع، بدأا العودةإلى الوراء ومغادرة الشاطئ. كانت الحركة ممكنة فقط بسرعة واحدة، سرعة الحشد، التي بدت كأبطأ وأقل سرعة مريحة يمكن للبشر التحرك بها. بهذه الوتيرة، كان أيدن يصطدم بالأشخاص باستمرار، وكان الأطفال يركضون فجأة أمامه، وكان هناك عربات أطفال وأشخاص في كراسي متحركة يحتاجون للمرور. ظلت بولين قريبة منه، وعند قمة الممشى، سألته إن كان سيرافقها إلى منزلها. فأجاب "بالطبع".

   كانت تقيم في أحد المنازل على الضفة البحرية. كان يعرف الشارع جيدًا، فهو مليء بالمنازل السياحية التي تحتوي على جدران زجاجية تطل على البحر. وبينما كانا يمشيان، بدأ الحشد يتلاشى خلفهما. وعندما وصلا إلى شارعها، أصبحا وحيدين في صمت. أدرك أيدن أنه هناك الكثير مما لا يعرفه عن بولين – والكثير الذي يدهشه أنه يرغب في معرفته – لدرجة أنه كان من المستحيل أن يبدأ في طرح الأسئلة. لم يكن يعرف اسم عائلتها، ولا من أين هي، ماذا تفعل طوال اليوم، من هم أفراد عائلتها. لم يكن يعرف كم تبلغ من العمر. ولا كيف تعرفت على ديكلان، أو مدى معرفتها به.

     قال أيدن:

  - بالنسبة لما كنتِ تقولينه تلك الليلة، في الواقع قد نمت مع ضيف في الفندق مرة. لا أنصحكِ أن تخبري ديكلان عن ذلك، لأنه لا يوافق على هذا النوع من الأمور.

   رفعت بولين عينيها نحوه. سألته:

   - من كان الضيف؟

    أجاب:

   - لا أعرف، كانت امرأة تقيم بمفردها. كانت أكبر قليلًا، ربما في الثلاثينات .

    سألت:

  - هل كانت تجربة جيدة؟ أم سيئة؟

    قال أيدن:

  - لم تكن رائعة. ليس لأن الجنس كان سيئًا، ولكن لأنني شعرت بالسوء حيالها، كما لو أن هذا كان الشيء الخطأ الذي يجب فعله .

   سألت مرة أخرى:

    - لكن الجنس كان جيدًا؟

    قال:

    - كان على ما يرام. أعني، أنا متأكد أنه كان جيدًا، لا أتذكره الآن. كان هناك شيء في ذلك الوقت جعلني أظن أنها كانت متزوجة، ولكنني لا أعرف ذلك على وجه اليقين. فقط شعرت بذلك حينها .

   سألت:

   - لماذا فعلت ذلك؟

   صمت أيدن لثوانٍ ثم قال:

  - لا أعرف، كنت آمل أن لا تسألي هذا السؤال .

   قالت:

   - ماذا تعني؟

   قال:

   - أنتِ فقط تبدين وكأنكِ تفهمين هذه الأمور. ولكن عندما تسألين هذا، يجعلني أشعر وكأنني فعلت شيئًا غريبًا.

    توقفت بولين عن السير، وضعت يدها على عمود بوابة، الذي يبدو أنه يخصها. توقف أيدن أيضًا. خلفها كان هناك منزل كبير ذو نوافذ كبيرة، يبعد عن الشارع بحديقة، وكانت الأنوار مطفأة.

   قالت بولين:

  - لا أعتقد أن الأمر غريب. كنت في علاقة مع شخص متزوج، وكنت أعرف زوجته، ليس بشكل جيد أو شيء من هذا القبيل، لكنني كنت أعرفها. أنا لا أسأل لماذا فعلت ذلك لأنني أعتقد أنه أمر غير صحي أن تنام مع شخص متزوج. لكنني أفترض أنني أتساءل، لماذا نفعل الأشياء التي لا نريد فعلها حقًا؟ كنت أظن أنك قد تكون لديك إجابة، لكن لا بأس إذا لم يكن لديكِ. فأنا أيضًا لا أعرف .

   قال أيدن:

  - أفهم. حسنًا، هذا يجعلني أشعر براحة. ليس لأنني سعيد أنكِ كنتِ في وضع سىء، ولكنني أشعر براحة لأنني لست الوحيد .

    سألت بولين:

  - هل أنت في وضع سيء الآن؟

     أجاب:

   - لا، الآن أستطيع القول أنني في وضع عدمي. أشعر وكأن حياتي لا تحدث. إذا سقطت ميتًا، أعتقد أن الأشخاص الوحيدين الذين سيهتمون هم الذين سيتعين عليهم تغطية مناوباتي. ولن يكونوا حزينين، بل فقط منزعجين .

    عبست بولين. كانت تمسح عمود البوابة تحت يدها كما لو كانت تفكر.

   قالت:

    - حسنًا، ليس لدي هذه المشكلة. في حالتي، يبدو أن هناك الكثير من الأمور تحدث. في هذه المرحلة، الجميع الذين قابلتهم يريدون شيئًا مني. أشعر أنه إذا سقطت ميتة ، ربما يقطعون جسدي إلى أجزاء ويبيعونه في مزاد.

    قال أيدن:

   - هل تعنين الأشخاص الذين كنت معهم في الفندق؟

    تهز كتفيها. تمسح ذراعيها مرة أخرى. تسأله إذا كان يريد الدخول، فيقول آيدن نعم.

    كان المنزل فسيحًا، ورغم أنه مفروش، إلا أنه بدا فارغًا بطريقة غريبة. كانت الأسقف مرتفعة وبعيدة. تركت بولين المفاتيح على طاولة المدخل، ثم دخلت إلى المنزل وأضاءت الأضواء بشكل عشوائي. وصلا إلى غرفة المعيشة، وجلست على أريكة زاوية خضراء ضخمة، بحجم سرير، لكن مع وسائد في الخلف. لم يكن هناك تلفزيون، وكانت الرفوف فارغة. جلس أيدن على الأريكة، لكنه لم يجلس بجانبها مباشرة.

    سأل:

   - هل تعيشين هنا وحدك؟

    نظرت حولها بشكل غير محدد، كما لو أنها لم تفهم السؤال.

   قالت:

   - أوه، فقط الآن .

   سأل:

   - كم من الوقت يعني الآن؟

   -  يسأل الجميع دائمًا أسئلة من هذا القبيل. لا تبدأ أنت أيضًا. الجميع يريد أن يعرف ما الذي أفعله وكم من الوقت سأستمر في فعله. أود أن أكون بمفردي لفترة من الوقت، ولا يعرف أحد أين كنت أو متى سأعود. وربما لن أعود أبدًا  .

    نهضت من على الأريكة وسألته إذا كان يرغب في شرب شيء. ارتبك بسبب حديثها السابق عن الذهاب إلى مكان بمفردها وعدم العودة، وهو ما بدا من ناحية ما كأنه تعبير رمزي غامض، فيكتفي بهز كتفيه.

   قالت:

  - لدي زجاجة من الويسكي، لكن لا أريدك أن تعتقد أن لدي مشكلة في الشرب. شخص ما أعطاني إياها كهدية—لم أشتريها بنفسي. هل تأخذ نصف كأس صغير وسأشرب أنا أيضًا؟ ولكن إذا لم تكن ترغب في واحد، فلن آخذ واحدًا أيضًا .

     قال:

  - سآخذ كأسًا، نعم.

     غادرت الغرفة، ليس من خلال باب، بل من خلال قوس مفتوح. كان ترتيب المنزل مربكًا، لذا لم يستطع تحديد أين ذهبت أو كم كانت المسافة.

     قال بصوت عالٍ:

   - إذا كنتِ تريدين أن تكوني بمفردك، يمكنني أن أذهب .

     تعود بسرعة عبر القوس، مستفهمة . قالت:

      - ماذا؟

     كرر:

    - إذا كنتِ تريدين أن تكوني بمفردك كما قلتِ، لا أريد أن أتطفل عليك.

      قالت:

    - أوه، كنت أعني ذلك... من الناحية الفلسفية .

    أضافت:

     - هل كنت تستمع لي؟ تلك هي غلطتك الأولى. كل ما أقوله هراء. أخوك يعرف كيف يتعامل معي، هو لا يستمع أبدًا. سأعود في ثانية. 

     تغادر مرة أخرى. ماذا يعني أن ديكلان "يعرف كيف يتعامل مع" بولين؟ هل يجب على آيدن أن يسأل؟ ربما تكون هذه فرصته للسؤال.

      تعود مع كوبين نصف ممتلئين، تعطيه أحدهما، ثم تجلس بجواره على الأريكة، أقرب قليلاً مما كانت عليه من قبل، ولكنها لا تلمسه. يشربان الويسكي. لا يعتقد إيدن أنه كان سيشربه من تلقاء نفسه، لكن طعمه جيد. 

   قالت بولين:  

   - آسفة على والدتك. أخبرني ديكلان أنها توفيت .

     قال:

   - نعم. شكرًا .

    توقفا للحظة. أخذ أيدن رشفة أكبر من الويسكي. قال:

    - أنتِ تقابلين ديكلان كثيرًا، أليس كذلك؟

    أجابت:

   - هو نوعًا ما صديقي في السيارة. أعني هو صديقي الوحيد الذي لديه سيارة. هو لطيف جدًا، دائمًا يقودني إلى أماكن. وعادة ما يتجاهلني عندما أقول أشياء سخيفة. أظن أنه يعتقد أنني امرأة فظيعة. لم يُعجب بي تلك الليلة عندما سألتك تلك الأسئلة الفاحشة. ولكنك أخوه الصغير— وهو يعتقد أنك بريء للغاية.  

  يولي إيدن اهتمامًا خاصًا لكونها استخدمت كلمة "صديق" أكثر من مرة عند الحديث عن ديكلان. يشعر أن هذه الكلمة تحمل معنى واحدًا فقط—فكرة تجعله يشعر بشيء من الراحة. قال:

هل يعتقد ذلك؟ لا أعرف ما يعتقده عني .

  قالت:

   - قال إنه لا يعرف إذا كنتَ مثليًا أو عاديا .

  قال:

       -  آه، حسنًا. كما قلت، لا أتحدث عن هذه الأمور معه.

        - لم تجلبِ صديقة إلى المنزل أبدًا.

         قال أيدن:

       - لديكِ الأفضلية علي هنا. هو يخبركِ كل شيء عني، وأنا لا أعرف أي شيء عنك.

         ابتسمت. كانت أسنانها بيضاء تمامًا وكأنها غير واقعية، تقريبا زرقاء.

          قالت:

         - ماذا تريد أن تعرف؟ 

    قال:

    - حسنًا، أنا فضولي لمعرفة ما الذي جعلكِ تعيشين هنا. لا أعتقد أنكِ من هنا .

    قالت:

    - هل هذا ما يثير فضولك؟ يا للهول. بدأت أظن أنك حقًا بريء.

        قال أيدن:

     - هذا ليس لطيفًا .

     تنظر إليه بوجوم للحظة، ثم تحدق في كأسها وتقول بحزن:

    - ما الذي جعلك تعتقد أنني لطيفة؟        

   لا يعتقد أنه يستطيع الإجابة على هذا السؤال. في الحقيقة، هو لا يعتبرها لطيفة بشكل خاص، لكنه يعتقد أن اللطف هو المعيار الذي يقبله الجميع باعتباره شيئًا ينبغي على الجميع مراعاته.

    وضعت كأسها الفارغ على طاولة القهوة وجلست على الأريكة. قالت:

حياتك ليست سيئة كما تعتقد".

    قال:

   - حسنًا، وأنتِ أيضاً ليست حياتك سيئة.

    قالت:

    - كيف عرفت ذلك؟

     قال أيدن:

   - الجميع يريد لفت انتباهك طوال الوقت، فماذا في ذلك؟ إذا كنت تكرهين ذلك إلى هذا الحد، يمكنكِ أن تذهبي إلى مكانٍ بعيد بمفردكِ— ما الذي يمنعكِ؟ 

   تميل برأسها إلى جانب، وتضع يدها بلطف تحت ذقنها:

   - هل تعني أن تذهب إلى بلدة ساحلية نائية، وتعيش حياة هادئة؛ ربما تستقرين مع شاب ريفي يعمل بجد من أجل لقمة عيشه؟ هل هذا ما كان في بالك؟  

     -  أوه، اذهبي إلى الجحيم.

     تضحك ضحكة خفيفة وقلقة ذات لحن موسيقي.

       يضيف :

    - لا أريد شيئاً منك .

    -  إذاً لماذا أنت هنا؟

     يضع كأسه على الطاولة. يقول:

    - أنتِ من طلبت مني الدخول، أليس كذلك؟ طلبتِ مني أن نتفرج على الألعاب النارية معاً، أليس كذلك؟ ثم طلبتِ مني أن أمشي معكِ إلى منزلك، وبعدها طلبتِ مني الدخول. وأنا من أدخل حياتكِ، أليس كذلك؟ لم أكن أرغب في شيء منكِ أبداً.

    يبدو أنها تفكر في هذا، وتنظر بجدية. وأخيراً تقول:

   - كنت أظن أنك تحبني.

     رد مستغربًا:

   -  ماذا يعني ذلك؟ إذا كنت أحبك فهذا يعني شيئاً سيئاً عني؟

  وكأنها لم تسمعه، تجيب:

    - أنا أحببتك.

   الآن يشعر بالارتباك التام حول سبب حدوث هذا الجدال، الارتباك الذي يصل به إلى اليأس المفاجئ. يقول:

    - حسناً ..انظري، سأذهب الآن.

    -على راحتك.  

  يعيش هذه اللحظة من الفراق معها—لحظة الفراق التي أعلن عنها هو بنفسه بشكل عفوي وجعلها تحدث—وكأنها معاناة لا تطاق، وكأنها ألم جسدي حقيقي. لا يستطيع أن يصدق أنه يمضي قدمًا في هذا، ناهضا  من على الأريكة ورافضاً أن يلتفت نحو الباب الذي دخلا منه. لماذا أصبح كل شيء غريباً الآن؟ متى بدأت علاقته مع بولين تنتهك القواعد العادية للتفاعل الاجتماعي؟ كان كل شيء طبيعيًا في البداية، أليس كذلك؟ أم أن هذا ليس صحيحًا؟ لا يزال غير متأكد إذا كانت هي صديقة أخيه أم لا.

    لا تنهض بولين من الأريكة لتودعه. عليه أن يقطع الطريق عبر المنزل المظلم والواسع بمفرده، يتخبط في الممرات المظلمة وفي غرفة طعام ساطعة نحو الباب الأمامي. لماذا قالت ذلك، عن الاستقرار مع "شاب ريفي لطيف"؟ أكانت تحاول استفزازه. ولكن لماذا؟ هي لا تعرف شيئاً عن حياته. لماذا يفكر فيها إذاً؟ في هذه اللحظة، وعندما يصل إلى الباب الأمامي لمنزل بولين، مع زجاجه العاكس الذي يعكس له صورة غير معروفة يعرف أنها وجهه، يبدو أن هذا هو السؤال الذي لا إجابة له.

      بعد عدة أسابيع، كان في الغرفة الخلفية يحاول إيجاد محول كهرباء للضيوف في الطابق العلوي عندما دخلت ليديا وقالت له إن شخصًا في الاستقبال يريد رؤيته. ي سأل: 

   - يريد ماذا؟

   تقول ليدي:  

   -  يريدك أنتِ. إنهم يطلبونك .

     أغلق درج المحولات في الفندق، ومن دون تفكير أو وكأنما في حلم أو لعبة فيديو، يتبع ليديا إلى مكتب الاستقبال. يعرف بالفعل، قبل أن يراها أو يسمعها، أنها ستكون هناك تنتظره. وهي هناك. ترتدي فستاناً يبدو مصنوعاً من قماش ناعم جداً وفاخر. يقف رجل مسن بجانبها واضعاً ذراعه حول خصرها. يلاحظ أيدن هذا كله بحياد. أصبح انطباعه عن بولين مشوشاً وغامضاً إلى درجة أن رؤيتها في هذا الموقف لا تعني له شيئاً جديداً في الواقع.

     قال آيدان بهدوء:

   - حسنًا، كيف يمكنني مساعدتك؟   

     أجاب الرجل:

   - نبحث عن غرفة.

    تلمس بولين أنفها بأطراف أصابعها. يضرب الرجل ذراعها قائلاً:

أنت تجعلين الأمر أسوأ. انظري. سيبدأ النزيف مرة أخرى .

     تقول:

    - إنه ينزف .  

     يبدو أنها سكرانة. يرى أيدن أن أصابعها ملطخة بالدماء عندما ترفعها عن وجهها. ينحني نحو الكمبيوتر على المكتب لكنه لا يفتح فوراً واجهة حجز الغرف. يبلع ريقه متوترًا ويتظاهر بالنقر على شيء ما، دون أن ينقر فعليًا على أي شيء. هل تراقبه ليديا؟ إنها تقف عند المكتب على بعد خطوات قليلة إلى يمينه، لكنه لا يستطيع أن يجزم ما إذا كانت تنظر إليه.    يسأل:

   - لأي عدد من الليالي؟

      يقول الرجل:

     - ليلة واحدة .. الليلة.

      تقول بولين:

    - لن يكون لديهم أي شيء في مثل هذا الوقت القصير.  

    يقول الرجل:

    - حسناً، دعينا نرى .

     تقول:

    - لو كنت أخبرتني أنك قادم، كنت سأرتب شيئاً "

    يقول الرجل:

    -  اهدئي.   

    يبلع آيدان ريقه مرة أخرى.يشعر بنبض داخلي في رأسه، كأن الضوء يومض في رأسه. يحرك الفأرة على الشاشة في مهارة ثم، بدافع مفاجئ، يتظاهر بالكتابة على شيء رغم أنه لا يوجد إدخال في لوحة مفاتيح على الشاشة. هو متأكد من أن ليديا تراقبه. أخيراً يعتدل عن الكمبيوتر وينظر إلى الرجل.

     يقول:

   - لا، آسف . ليس لدينا أية غرف متاحة الليلة."

    يحدق الرجل فيه. تنظر ليديا تنظر أيضاً. يقول الرجل:

لا توجد غرف؟ هل كل غرفة في الفندق محجوزة؟ في منتصف أبريل؟

   تقول بولين:

     - قلت لك !

      يقول أيدن:

       - آسف ..  يمكننا أن نجد لك شيئاً الأسبوع المقبل، إذا أردت.

      يحرك الرجل فمه وكأنه يضحك، لكن لا يخرج أي صوت. يزيل يده من خصر بولين، يرفعها في الهواء، ثم يتركها تسقط على جسده. يحرص آيدن على ألا ينظر إلى بولين أو ليديا على الإطلاق.

     يكرر الرجل:

    - لا توجد غرف، الحجز ممتلئ بالكامل. هذا الفندق.
    يقول آيدن:

    - آسف لأنني لا أستطيع المساعدة.
    ينظر الرجل إلى بولين.
     تقول بولين:

   - ماذا تريدني أن أفعل؟
    يرفع الرجل ذراعه مرة أخرى ليشير إلى آيدن. يقول الرجل :

    - هل هذا صديقك؟ 

     ترد بولين باستهزاء:

     - أوه، لا تكن سخيفًا. هل ستصبح مهووسًا الآن بالإضافة إلى كل شيء آخر؟"

      يقول الرجل:

    - أنت تعرفينه ؛ لقد طلبتِيه بالاسم.  
    تهز بولين رأسها، تمسح أنفها برفق، وتبتسم ابتسامة اعتذار طفيفة لآيدن وليديا عبر المكتب وتقول:  

   - أنا آسفة. سنبتعد عن طريقكم. هل يمكنني أن أطلب منك أن تطلب لنا سيارتَي أجرة؟ سأكون ممتنة حقًا.

    يقول الرجل بسخرية:

   - أوه، لا يمكننا أن نشارك سيارة أجرة؟
     ترد بولين ببرود :

   - نحن ذاهبان في اتجاهين متعاكسين.
    يتمتم الرجل بصوت منخفض وابتسامة جامدة ترتسم على وجهه:  

     - لا أصدق ذلك. لا أصدق ذلك.

     ثم يستدير ويسير نحو الأبواب المزدوجة الكبيرة في مدخل الفندق. تلتقط ليديا الهاتف للاتصال بشركة سيارات الأجرة .

   أما بولين، فدون أن تغيّر شيئًا في تعبيراتها، ترفع قلم الفندق عن المكتب، تأخذ ورقة من المفكرة، تكتب شيئًا عليها، ثم تمزق الورقة. تُخرج بعض المال، تضعه داخل الورقة، وتدفعها عبر المكتب نحو آيدن. تنظر فقط إلى ليديا وتبتسم قائلة: "شكرًا جزيلًا." ثم تغادر، متبعة الرجل عبر الأبواب المزدوجة. 

عندما تُغلق الأبواب خلفهما، تظل ليديا على الهاتف. يجلس آيدن محدقًا في الفراغ. يسمع ليديا وهي تقول وداعًا، ثم يسمع صوت النقر الخفيف عند إعادة سماعة الهاتف إلى مكانها.     يظل جالسًا بلا حراك. تجد ليديا الورقة على المكتب وتدفعها باتجاه آيدن بطرف القلم، وكأنها لا تريد لمسها. 

    تقول ليديا:

 - لقد تركت هذه لك.

يرد آيدن:

 - لا أريدها.

  تفتح ليديا الورقة بسن القلم وتقول:

     - توجد مئة يورو هنا.

    يقول:

  - لا بأس، خذيها أنت.

   لبضع ثوانٍ، لا تقول ليديا شيئًا. يجلس آيدن هناك، يحدق بشكل فارغ إلى الأمام. في النهاية، كما لو أنها قررت، تقول ليديا:

   - سأضعها مع باقي الإكراميات. لقد كتبت لك ملاحظة أيضًا، ألا تريدها؟ أعتقد أنها تقول فقط شكراً."

   يقول:

   -  يمكنك أن تتركيها،أو، في الواقع، أعطني إياها.

    تعطيه ليديا ما طلب. دون أن ينظر إليها، يضع  الورقة في جيبه. ثم ينهض من المقعدعائدًا إلى الغرفة الخلفية للبحث عن محول الطاقة للضيف في الطابق العلوي. لن يرى بولين مجددًا قبل أن تغادر المدينة خلال أيام قليلة. ♦

 

(تمت)

===========

الكاتبة : سالي روني / Sally Rooney روائية وكاتبة إيرلندية مشهورة لها أربع روايات ، صدر آخرها هذا العام بعنوان : Intermezzo وتعني فاصل موسيقى أو استراحة ولدت سالى روني في 20 فبراير 1991 في كاسلبار، مقاطعة مايو، أيرلندا) هي كاتبة وُصفت بأنها "أول روائية عظيمة من جيل الألفية" بعد نشرها عدة روايات لاقت استحسانًا كبيرًا وتتناول قضايا مثل عدم المساواة الطبقية، والحميمية، والفن، والسياسة في القرن الحادي والعشرين.  ظهرت كتاباتها في مجلة نيويوركر، ونيويورك تايمز، ومجلة لندن ريفيو أوف بوكس، وأماكن أخرى. تعيش في أيرلندا.