أسمهان مائية الولادة والرحيل

" أسمهان " مائية الولادة والرحيل 25 نوفمبر 1915 – 14 يوليو 1944

فى يوم 25 نوفمبر 1915 ، وعلى سطح سفينة " بحرية " ، منحتنا الأميرة علياء المنذر ، طفلة تحمل دمها ، وموهبتها ، وطموحها ، ومأساتها .

" آمال الأطرش " ، هكذا أسمتها الأم ، ربما يوافيها القدر ، وتعوض  " آمال " الأسرة الشريدة ، المطاردة ، المهاجرة ، من سوريا ، الى مصر .

كلما تذكرت عائلة " آل الأطرش " ، العريقة ، المناضلة ، التى تترك وطنها فى جبال الدروز ، الى سهول مصر ، لتأمن على نفسها من اضطهاد الاحتلال الفرنسى ، كلما  اقتنعت أن التحديات توجد ، لكى نتغلب عليها . وكلما تأكدت ، أن " الموهبة " الفطرية ، التى تحافظ على نفسها ، من جيل الى جيل ، وتأبى التراجع  والاستكانة ، وقبول الواقع ، لا أحد يستطيع قهرها ، حتى لو كان جبروت الاحتلال الأجنبى ، وجبروت الفقر ، وجبروت اليأس .

كلما تذكرت ، الأميرة علياء ،  تغنى ، وتعزف العود ، فى الحانات ، لكى توفر الحد الأدنى من المسكن ، والطعام ، لأولادها الثلاثة  ، " فريد " ،" آمال " ، و " فؤاد " ، بعد أن كانت أميرة ، معززة ، مكرمة ، كلما تيقنت أن " الأمهات " ، هن حقا سبب استمرار الحياة . وأنهن لا يكترثن بالمناصب ، والألقاب ، ويطحن دون ندم ، بالحسب والنسب ، والجاه ، والسلطان ، لو تعرض أولادهن ، وبناتهن للخطر . 

بفضل احتمال الأم ، وبتشجيع الأم ، فتح المجد أوسع أبوابه ، للابن " فريد " ابن السلطان فهد الأطرش ، الذى لم يتحرج من اللف فى الشوارع ، لبيع بضاعته من الأقمشة ، ليساعد الأم فى نفقات المعيشة .

وأصبحت آمال أخته ، " أسمهان " ، تلك اللؤلؤة التى تصدح فى سماء الغِناء ، فأسرت القلوب ، وسًحرت النفوس .

قالوا : " الأخ ، و أخته ، من أسرة واحدة ؟؟ .. هذا غير معقول ..الأخ يغنى ويعزف ويلحن ... والأخت تشدو فيتوقف الكون لسماعها ؟؟ ".

وفعلا ، كان " فريد " ، و " أسمهان " ، حدثا فنيا لا يُصدق . كانا مثل " ظاهرة فلكية " ، نادرة الحدوث ، و " حدثا كونيا " ، أبهر الناس .

أعتبر نفسى ، من عاشقات الموسيقى ، والغِناء . وعلى دراية بأجمل الألحان ، والأغنيات ، التى تصنع ارثا عظيما ، ثريا ، فى موسيقانا العربية . وكل يوم ، أقضى أربع ساعات بين أحضان الموسيقى ، من كل بلاد العالم . وكل منْ خفق له قلبى ، كان حتما على علاقة وثيقة بالموسيقى والغِناء ، وله صوت يحببنى

فى السهر . يصعد السلم الموسيقى ، بشغف ، وبراعة ، ودون جهد أو عناء .

لا يوجد صوت ، جميل ، أو لحن مبدع ، الا وله مكان خاص فى قلبى . أسمعه ، وأغنيه مع نفسى ، وأردده ، لتنقشع الغُمة ، ويزول عنى الكرب ، وأتصالح مع الغربة .

لكننى أعترف ، أن " أسمهان " ، هى استثناء . هى التى أجد فى صوتها ، الحزن الذى أريد أن أحزنه ... فى صوتها المرارة التى أنتشى بتذوقها . فى صوتها العزاء الوحيد الذى يصبرنى على حياة أكرهها ..... " أسمهان " هى لروحى الحائرة دواء ، ومن كل داء هى شفاء . وهذا ليس غريبا ، على واحدة وُلدت ، يحيطها " البحر" ، وسط " الماء " .

أما " فريد " ، فهو حقا " فريد " ، الذى أجرى اليه ، كلما اشتقت الى البكاء النبيل ... و بخلت السماء بالمطر .. وكلمااحتجت الى جذورى لألتصق بها .. وكلما تشبثت بالاستغناء ، التى أوصتنى به ، أمى " نوال " .

كم أشعر بالامتنان ، لآل الأطرش . فأنا لا أعرف ، كيف كنت سأعيش ، وأواصل البقاء ، وأحتفظ  بأصالتى وتفردى ، بدون" أسمهان " ، و " فريد " ؟.

يندهش الناس ، حولى ، ويسألوننى : " كيف تعيشين بدون أصدقاء ؟؟ .. الصداقة نعمة كبرى لا حياة بدونها "؟.

وأنا بدورى أندهش من السؤال ، ولا أجد الا ردا واحدا ، نهائيا ،يتكرر :

" فريد " هو صديقى الحميم ،  و" أسمهان " هى صديقتى الحقيقية ..منْ تريد الأصدقاء ، وعندها فريد ، وأسمهان ؟ ". 

هذا العام فى 25 نوفمبر  ، الذكرى  106 ، لميلاد أسمهان .

لا أسمع " أسمهان " فى حفلات تكريم ، أو فى مهرجانات الموسيقى العربية . لا أدرى ، أين ذهبت " أسمهان " ، أين أخفوا " أسمهان " ؟؟ .

كل عام ، تمر ذكرى ميلادها ، ورحيلها ، باهمال مخجل ، وجحود مزر .

ولا أدرى السبب . منْ المستفيد من هذا الاهمال ، والتجاهل ، والنسيان ، لموهبة مثل " أسمهان "  ؟؟. أهم ورثة بعض المطربات المشهورات ؟ . أم رغبة

مطربات على قيد الحياة ، ليس من مصلحتهن أن نسمع " أسمهان "؟.

وُلدت " أسمهان " ،  فى الماء المالح . وماتت فى الماء العذب . ومن الملح والعذوبة ،كانت خيوط صوتها ، ونسيج مأساتها . 

أيها النائم .. أنا اللى أستاهل .. يا طيور .. يا حبيبى الحقنى شوف اللى جراللى .. فرق ما بينا ليه الزمان .. دخلت مرة جنينة .. كان لى أمل .. نويت أدارى آلامى .. رجعتلك يا حبيبى .. يا بدع الورد .. أنا أهوى .. ياللى هواك شاغل بالى .. أسقنيها .. ليت للبًراق عينا .. امتى هاتعرف امتى .. الليل .. ايدى فى ايدك ..انتصار الشباب .. الشروق والغروب .. مجنون ليلى .. غير مُجد فى ملتى واعتقادى .. الشمس غابت أنوارها ..

هذه من بعض الكنوز التى تركتها لنا " أسمهان " ، دون وصية أخيرة .

ما أجمل  الحياة ، و" أسمهان " تغنى لى وحدى ، فى سكون الليل ، لحن الفذ المتفرد "محمد القصبجى " ، " فرق ما بينا ليه الزمان " ، ومن ألحان

 " فريد "  " ليالى الأنس فى فيينا " ، تلك الملحمة الغنائية غريبة التكوين  . ومن ألحان " رياض السنباطى"، " أيها النائم بعيدا عن ليلى سلاما  ... لم يكن عهد الهوى الا  مناما ".

أما لحن القصبجى " أنا اللى أستاهل كل اللى يجرالى .. الغالى بعته رخيص ولا أحسبوش غالى ". فهو أنبل الختام ، وأصدق العزاء من صديقتى الحميمة ، 

" أسمهان " ، والتى جاءت لتبقى ، رغم الاهمال ، والنسيان .

كثيرون وقعوا فى غرامها . لكنها لم تقع الا فى " غرام وانتقام " ، على يد عميد المسرح العربى " يوسف وهبى " . ومعها كل الحق . فهو الفنان الذى استرخص كل شئ ، من أجل فنه ، وابداعه . فى عينيه الزرقاوين ، اختصر نبل الرجال ، وشهامة الفرسان ، وحساسية العُشًاق . كيف تقاومه ؟؟.

أما فى الحياة ، فقد أحبت مبكرا ، ابن عمها حسن الأطرش ، وأنجبت ابنتها الوحيدة " كاميليا " والتى يوافق تاريخ ميلادها السابع 14 يوليو1944 ، تاريخ موت أمها . وهذا سر آخر من أسرار " أسمهان " حبيبة الماء .

ثم أحبت وتزوجت  النجم الوسيم الممثل والمنتج والمخرج والمهندس والمذيع ، والطيًار المصرى  ، " أحمد سالم " 20 فبراير 1910 – 10 سبتمبر 1949 ،الذى افتتح الاذاعة المصرية 31 مايو 1934 بجملة " هنا القاهرة " لأول مرة.

لحن " ليالى الأنس فى فيينا " ، الذى أهداه " فريد " لها ، فهو عمل موسيقى ، ينافس أفخم ، وأشهر المؤلفات الموسيقية العالمية . لحن درامى ، ملحمى ، متعدد المقامات ، والمشاعر المتناقضة ، والجمل الموسيقية المبهرة ،فى عنفوانها ، ورشاقتها ، وسلاسة تحولها من احساس لآخر . هل أحس " فريد " ، بحدسه العاطفى ، والابداعى ، أن أخته ، ستواجه مأساة غامضة ، فأراد أن يهديها عصارة مشاعره ، وموهبته ، وحبه ، ليكرمها ، ويختم حياتها القصيرة ، بلحن من ألحان الخلود ؟؟. ومن الصعب أن نصدق أن " ليالى الأنس فى فيينا " ، من كلمات أحمد رامى ، قد أبدعه " فريد " ، وهو فى مقتبل العمر ،  فى عام 1944 ، على الدرجة الأولى ، من سٌلم المجد ، ويقف شامخا ، مع ألحان القصبجى ، والسنباطى ( جهابزة التلحين فى ذلك الوقت ) ، وقوف الند للند ، ان لم يكن أكثر تميزا .

غنت " أسمهان  " من كلمات أحمد رامى ، والأخطل الصغير ( بشارة الخورى ) ، يوسف بيدروس ، عبد العزيز سلام ، اسماعيل صبرى باشا ، أحمد جلال ، أحمد شوقى ، أحمد فتحى ، أى كل نجوم أو أغلب نجوم الكلمة ، فى عصرها .

أول فيلم لفريد وأسمهان ، معا ، كان " انتصار الشباب " 1941 ، اخراج أحمد بدرخان 18 سبتمبر 1909 – 26 أغسطس 1969 ، يحكى بعضا من سيرة فريد ، وأسمهان الحقيقية ، كيف من بؤس العيش ، الى بداية الطريق نحو تحقق الموهبة ، وانبهار الناس ، وقبل أى شئ ، تحقق أمنية " الأم " الأميرة علياء المنذر ، وهى ترى أن جهدها ، وتضحيتها ، وشقائها ، لم يذهب هدرا .

سر تميز " أسمهان " ، عن بقية النساء ، والفنانات ، أنها أحبت الفن ، أكثر من حبها للزواج ، والعيش فى كنف رجل . كانت تريد أن تعيش على " ذمة الفن والغِناء والطرب والسينما " ، وليس على " ذمة رجل ". عشقت انطلاق الفن وحريته ، وآفاقه الأرحب ، الأروع ، من أفاق جسد الزوج ، والمطبخ ، وغرفة النوم ، وتربية الأطفال .

     خطيئتها التى لم تغفرها لها الحياة ، أنها كانت تفضل " طاعة الفن " ، عن طاعة الرجل " خليفة الله على الأرض " ، فكان لابد أن تختفى ، وبسرعة ، حتى لا تصبح قدوة للنساء والفنانات .

أهدى " فريد " لأخته " أسمهان " ، الذى كان يراها توأم روحه ، أغنيته الشهيرة النازفة بجزع الفراق ، وذهول الحزن " كفاية يا عين " . وفى كل مرة ، يشدو بها ، كانت الدموع ، تسبقه الى أحبال صوته ، وأوتار العود .

فى كل حفلات " فريد " ، كان الجمهور يستقبله ، بعاصفة من التصفيق ، والاحتفاء ، والحب ، لا تنتهى ، الا بطلب " فريد " نفسه ، أو لتعجل الجمهور للاستماع له ، ولأوتار " العود " رفيقه الدائم . وهذا شئ ، لم يكن يحدث ، لعبد الوهاب نفسه ، أو لأم كلثوم نفسها . التفسير المنطقى  الذى اهتديت اليه ، أن الجمهور ، كان يصفق ل" فريد " ، و " أسمهان " معا .

احساسى ينبئنى ، أنه حتى لو " هلكت " الأرض . فان " أسمهان " ، سوف " تنجو " . فمنْ وُلد ، ومات مثلها ، فى " الماء " ، لا يضيع . 

" الماء " ، و " أسمهان " ، متشابهان . الماء أصل الحياة ، وأسمهان أصل الغِناء . الماء ينظف ، ويطهر ، وينقى ، وينعش . وهكذا تفعل أسمهان ، تنظف ، وتطهر ، وتنقى ، وتنعش .

          وُلدت " أسمهان " ،  فى الماء المالح . وماتت فى الماء العذب . ومن الملح والعذوبة ، كانت خيوط صوتها ، ونسيج مأساتها .

         هنيئا لمنْ تولد ، وتموت ، فى " الماء " ، خالدة أبدا كالماء ، حية أبدا ، كالماء ، طازجة أبدا كالماء ، بأسرار سارية كما الماء .