الذكاء الاصطناعي، رؤية اشتراكية - 1

منذ فترة، أعمل على إعداد كتابي "اليسار الإلكتروني في مواجهة الرأسمالية الرقمية"، الذي آمل أن يرى النور خلال عام 2025. لكن مع سخونة الجدل حول الذكاء الاصطناعي وتأثيره العميق على المجتمع، أصبح من الضروري تقديم تحليل يساري لهذا الموضوع المحوري، حيث هناك نقص واضح في الطرح النقدي من منظور اشتراكي. لذلك، قررت نشر أحد فصول الكتاب بشكل مستقل، كمساهمة في تقديم رؤية نقدية اشتراكية للذكاء الاصطناعي، سواء من حيث دوره في تعميق هيمنة رأس المال، أو إمكانياته كأداة تحررية ضمن أفق اشتراكي.
ما الذي يميز هذا الدراسة؟
•    ملخص مركّز لمن يرغب/ترغب في الاطلاع على الأفكار الرئيسية بسرعة.
•    النص الكامل للفصل لمن يريد/تريد التعمق في التفاصيل.
•    قسم خاص للأسئلة والأجوبة المختصرة يجيب على القضايا المحورية حول الذكاء الاصطناعي من منظور يساري.
 أدعوكم/ن لاكتشاف هذا الطرح النقدي، والانخراط في النقاش حول كيفية بناء مستقبلٍ لا يكون فيه الذكاء الاصطناعي مجرد أداة في خدمة رأس المال، بل وسيلة لتحرر الإنسان.

ملخص الفصل، موجز الأفكار الرئيسية

الذكاء الاصطناعي إعادة إنتاج الهيمنة الطبقية بوسائل أكثر تطورًا

كما أشار كارل ماركس في العديد من كتبه، فإن كل قفزة تكنولوجية تحدث داخل النظام الرأسمالي لا تؤدي إلى تحرير الإنسان، بل إلى إعادة إنتاج الهيمنة الطبقية بوسائل أكثر تطورًا. لذلك، فإن التطورات التكنولوجية الحالية ليست محايدة، بل تتشكل ضمن علاقات الإنتاج السائدة. الذكاء الاصطناعي، رغم إمكانياته الهائلة في خدمة البشرية، أصبح أداة تستخدمها البرجوازية لتعزيز سيطرتها على العمل، والتحكم في الموارد، وإعادة تشكيل الوعي الجماهيري بما يخدم النظام الرأسمالي. وكما حدث في الثورة الصناعية، حيث استُخدمت الآلات لتكثيف الاستغلال بدلًا من تقليل ساعات العمل، يتم اليوم توظيف الذكاء الاصطناعي في الأتمتة لتخفيض تكاليف الإنتاج، وتقليص الحاجة إلى العمالة البشرية في معظم الأحيان، وفرض ظروف عمل أكثر هشاشة وأقل أمانًا. كما يؤدي ذلك إلى تعميق الاغتراب، حيث يتحول شغيلات وشغيلة اليد والفكر إلى أدوات بشرية داخل أماكن عملهم، ويتم استبدالهم بالخوارزميات، مما يؤدي إلى تفاقم البطالة أو دفعهم للبحث عن أعمال بديلة. وفي الوقت نفسه، تُفرض علاقات إنتاج جديدة تُحكم فيها البرجوازية قبضتها على وسائل الإنتاج الرقمي. في ظل هذا الواقع، يصبح الذكاء الاصطناعي أداة لإعادة إنتاج الاستغلال في شكله الأكثر تطورًا.

الذكاء الاصطناعي كأداة للسيطرة والقمع، ولغسل الوعي الجماهيري

لم تعد السيطرة الرأسمالية على الذكاء الاصطناعي تقتصر على إعادة إنتاج علاقات الإنتاج أو تشكيل الوعي، بل أصبحت أيضًا أداة مباشرة للسيطرة والقمع السياسي. حيث يتم الان استخدام الذكاء الاصطناعي في أنظمة المراقبة الجماعية، والتعرف على الوجوه، وتحليل السلوك السياسي للأفراد، مما يسمح للأنظمة القمعية، وحتى في الدول المتقدمة، بالتدخل المسبق لإحباط او اضعاف أي مقاومة جذرية محتملة. الرقابة الرقمية اليوم تتجاوز مجرد حذف المحتوى أو حجب الحسابات، حيث تتخذ شكل "المراقبة الذاتية الطوعية"، حيث يبدأ الأفراد في تعديل خطاباتهم وآرائهم خوفًا من الحجب أو العقوبات الرقمية، مما يقلل من قدرة الحركات اليسارية على التعبئة والتحشيد الجماهيري، مما يساهم في تحويل الإنترنت، إلى حدّ كبير، إلى مساحة خاضعة بالكامل لمنطق السوق وهيمنة الحكومات.
إلى جانب دوره في إعادة تشكيل علاقات العمل وتعزيز السيطرة والقمع. كما كان الحال مع الإعلام بمختلف أشكاله من قبل ولايزال، تُستخدم معظم تطبيقات الذكاء الاصطناعي كأداة للتحكم في الوعي الجماهيري وترسيخ القيم الرأسمالية. يتم ذلك من خلال الخوارزميات التي تتحكم في تدفق المعلومات، وتوجيه النقاشات العامة، ومحاولة فرض واقع ثقافي أحادي يُكرّس هيمنة السوق والاستهلاك الفردي باعتبارهما قيمًا طبيعية وحتمية. الذكاء الاصطناعي اليوم هو أحد أكثر الأدوات فاعلية في تكريس هذه الهيمنة الفكرية، حيث يتم ضبط الخوارزميات لتوجيه الجماهير نحو قبول الرأسمالية كخيار أمثل وبل ازلي. يتم ذلك بشكل تدريجي، ناعم، وغير محسوس، مما يمنح المستخدمين والمستخدمات انطباعًا زائفًا بكونه محايدًا تمامًا. وعلى المدى الطويل، من الممكن ان يتحول الجمهور إلى "قطيع خانع يُقاد بسهولة"، مما يؤدي إلى إضعاف الوعي الطبقي عبر تسطيح الفكر النقدي، وتحويل النقاشات السياسية إلى قضايا جانبية بسيطة، بدلًا من تحليل البنية  السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة على الاستغلال.

الموقف من تطبيقات الذكاء الاصطناعي الحالية

السؤال المهم هنا: هل يمكن للقوى اليسارية الاستفادة من الذكاء الاصطناعي الحالي رغم كونه منتجًا رأسماليًا غير محايد؟؟!
الجواب ليس مباشرًا بنعم او لا، فحتى يتم تطوير بدائل اشتراكية تقدمية، يمكن للحركات اليسارية والتقدمية استغلال الذكاء الاصطناعي الحالي بحذر مدروس ووعي نقدي، لتوسيع نطاق تأثيرها في مواجهة الهيمنة الرأسمالية وانظمة الاستبداد. يمكن توظيف هذه التكنولوجيا في تحليل البيانات السياسية والاجتماعية، وفهم أنماط التغيرات الاقتصادية، وتحديد القضايا الأكثر إلحاحًا بالنسبة للطبقات الكادحة والمهمشة. يمكن أيضًا استخدام الذكاء الاصطناعي في دراسة توجهات الرأي العام، مما يتيح للحركات اليسارية تطوير برامج وسياسات واقعية وأكثر دقة وفعالية، وفقًا لما هو ممكن وليس فقط لما هو مطلوب، وتعزيز قدرتها على التأثير السياسي والجماهيري، ومواجهة الهيمنة السياسية للرأسمالية والأنظمة القمعية.
إلى جانب ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة فعالة لكشف التضليل الإعلامي الذي تمارسه المؤسسات الرأسمالية والانظمة القمعية، وتحليل الخطاب الإعلامي السائد لتفكيك سياسات التلاعب والهيمنة الفكرية، والتصدي لها بخطاب نقدي مضاد يسهم في رفع الوعي الجماهيري. يمكن لهذه الأدوات أن تعزز الإعلام اليساري ، الذي يعكس مصالح الطبقات العاملة والفئات المهمشة، مما يجعل من الممكن الوصول إلى فئات أوسع من الجماهير وتقديم محتوى يساري مناهض للرأسمالية بأساليب أكثر تأثيرًا.
على المستوى التنظيمي، يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي في تحسين آليات التنسيق والتفاعل داخل التنظيمات اليسارية، عبر تحليل ديناميكيات العمل التنظيمي، ورصد مكامن القوة والضعف، وتعزيز الانسجام بين الأعضاء والكتل. يمكن تطوير أدوات ذكاء اصطناعي تسهم في إدارة المعلومات داخل التنظيمات، وتحليل مدى فاعلية السياسات الحالية، والتعرف على أنماط العمل الأكثر نجاحًا، مما يسهل تحسين الأداء التنظيمي الجماعي، وتقليل البيروقراطية، وتعزيز التفاعل بين الأعضاء بشكل أكثر سلاسة وفعالية. ومع ذلك، يجب أن يكون الاستخدام حذرًا ومدروسًا ودقيقا، بحيث يتم توجيه الذكاء الاصطناعي لخدمة الأهداف اليسارية والتقدمية، دون الوقوع في فخ الاعتماد المفرط عليه.


البديل الاشتراكي في مواجهة العبودية الرقمية وتحرير التكنولوجيا

إن إعادة توجيه الذكاء الاصطناعي نحو خدمة الجماهير بدلاً من رأس المال يتطلب تطوير أنظمة مفتوحة المصدر بتوجهات محايدة تُدار بشكل ديمقراطي كحلٍّ ممكن الآن، إضافةً إلى تشريع قوانين دولية تُقيّد عمله لضمان خدمته للمجتمع بأسره، لحين طرح بدائل اشتراكية بتوجهات تقدمية وبملكية تعاونية جماعية كحلٍّ مطلوب، بعيدًا عن احتكار الشركات الاحتكارية الكبرى. يجب أن نناضل من أجل أن يُستخدم الذكاء الاصطناعي لتقليل ساعات العمل دون تقليل الأجور، وتحقيق توزيع عادل للموارد، وتعزيز العدالة والمساواة... إلخ، بما يتيح للبشرية الاستفادة من التكنولوجيا دون الوقوع في فخ الاستغلال الرأسمالي.
لا يمكن فصل الصراع حول الذكاء الاصطناعي عن الصراع الطبقي الأوسع. لذلك، فإن المعركة ضد استغلال الذكاء الاصطناعي وعموم التكنولوجيا هي جزء مهم من النضال من أجل تحرر البشرية من الاستغلال الرأسمالي ككل. إن استعادة التكنولوجيا من قبضة رأس المال وتوجيهها نحو خدمة الجماهير وتحقيق العدالة الاجتماعية والبديل الاشتراكي ليست مجرد خيار، بل ضرورة تاريخية تمليها التناقضات المتزايدة داخل النظام الرأسمالي نفسه. وهذا يجب أن يكون إحدى المهام الرئيسية للقوى اليسارية والتقدمية والحقوقية في العالم، وإلا فإننا سنواجه عهدًا جديدًا من العبودية الرقمية، إن لم نكن نعيشه بالفعل الآن! حيث تتحكم الطغم الرأسمالية في كل جانب من جوانب الحياة، من العمل إلى الفكر والوعي والحياة اليومية، مما يُعيد إنتاج الاستغلال الطبقي في أكثر أشكاله تطورًا وهيمنة.
الاستنتاجات
إن تحرير الذكاء الاصطناعي من قبضة رأس المال وتحويله إلى أداة في خدمة الجماهير هو جزء أساسي من النضال الاشتراكي ضد البنية الطبقية للرأسمالية. لا يمكن أن تُترك التكنولوجيا تحت سيطرة القوى المهيمنة التي تستخدمها لتعزيز الاستغلال الطبقي، بل يجب أن تخضع لرقابة شعبية ديمقراطية تُوجهها نحو تحقيق المساواة الاجتماعية، وتفكيك علاقات الإنتاج القائمة على الاستغلال، وبناء مجتمع اشتراكي ديمقراطي أكثر عدالة وإنسانية. الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة تقنية غير محايدة، وبل ويتم توظيفه لتعزيز السيطرة الطبقية، وتقليص الحريات، وتوسيع الاستغلال. وكما كانت الثورة الصناعية سلاحًا بيد البرجوازية لتكثيف الاستغلال، فإن الثورة الرقمية اليوم تسير في الاتجاه نفسه، حيث يُستخدم الذكاء الاصطناعي كأداة للهيمنة الاقتصادية، والسياسية، والفكرية.
المطلوب هو تطوير بدائل اشتراكية تقدمية تعيد توجيه التكنولوجيا لخدمة عموم الجماهير بدلًا من رأس المال. إن النضال من أجل دمقرطة وشفافية الذكاء الاصطناعي وتحريره من سيطرة الشركات الكبرى هو جزء لا يتجزأ من النضال الطبقي الأشمل ضد الرأسمالية. في الوقت الحالي، ينبغي على القوى اليسارية والتقدمية توظيف الذكاء الاصطناعي الحالي بوعي نقدي، وبشكل حذر ومدروس، ليس فقط لمواجهة الهيمنة الرأسمالية، ولكن أيضًا للمساعدة في لخلق فضاءات وامكانيات جديدة للمقاومة وتطوير الخطاب السياسي وآليات التنظيم. في نهاية المطاف، لا يتعلق الأمر فقط بالتكنولوجيا، بل بالصراع على مستقبل المجتمع الإنساني نفسه.

***********************************
لمن يرغب أو ترغب في التعمق في هذا الموضوع، يمكنه أو يمكنها قراءة الفصل الكامل أدناه، حيث يتم تحليل الجوانب المختلفة للذكاء الاصطناعي من منظور اشتراكي أكثر تفصيلًا، مع استعراض الآليات الرأسمالية للهيمنة الرقمية والبدائل التقدمية الممكنة.


1       الفصل الخامس: الذكاء الاصطناعي، رؤية اشتراكية
 

1.1   المقدمة
 
يُعدّ  الذكاء الاصطناعي من أبرز ابتكارات الثورة الرقمية الحديثة، حيث وفر إمكانيات هائلة لتعزيز الإنتاجية، وتطوير العلوم والخدمات العامة، والمساهمة في حل العديد من التحديات التي تواجه البشرية. وقد أحدث تحولات جوهرية في مختلف المجالات.
الذكاء الاصطناعي هو فرع متقدم من علوم تقنية المعلومات، يهدف إلى تطوير أنظمة قادرة على محاكاة الذكاء البشري من خلال الحوسبة الفائقة والبرمجيات الذكية. يعتمد على خوارزميات متقدمة وتقنيات تعلم الآلة والتعلم العميق لتحليل البيانات، والتعرف على الأنماط، واتخاذ القرارات بشكل مستقل أو شبه مستقل وفقًا للمدخلات والمعطيات المدخلة إليه. كما يقوم الذكاء الاصطناعي بإعادة تدوير ومعالجة البيانات الضخمة التي ينتجها المستخدمون والمستخدمات، مما يمنحه قدرة متزايدة على التكيف والتطوير الذاتي. تُستخدم هذه التكنولوجيا اليوم في مجموعة واسعة من القطاعات، مثل الطب والرعاية الصحية، حيث تساهم في تشخيص الأمراض وتحليل البيانات الطبية، والتعليم من خلال تطوير أنظمة تعليمية تفاعلية، والصناعة، والاقتصاد، والإعلام، والنقل، والخدمات اللوجستية، وكذلك في الرقابة والقمع والسيطرة الفكرية والسياسية، وتطوير الأسلحة، وغيرها. ومع ذلك، فإن هذه التقنية لا تعمل في فراغ، بل تتأثر بتوجهات الشركات والحكومات التي تطورها، مما يثير تساؤلات جوهرية حول طبيعتها الحقيقية والجهات المستفيدة منها.

واستنادًا إلى ذلك، فإن هذه التكنولوجيا لا تتطور بشكل محايد، بل تعكس البنية الطبقية للنظام الذي أنتجها. فالذكاء الاصطناعي، كما هو مطور اليوم، ليس كيانًا مستقلاً أو محايدًا، بل يخضع بشكل مباشر لهيمنة القوى الرأسمالية، التي توجهه بما يخدم مصالحها الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والفكرية. وكما أشار كارل ماركس وفريدريك إنجلز في البيان الشيوعي:
"لم تترك البرجوازية أي رابطة بين الإنسان وأخيه الإنسان إلا رابطة المصلحة العارية، والتعامل النقدي القاسي... لقد جعلت الكرامة الشخصية قيمة تبادلية، وحوّلت كل شيء، بما في ذلك المعرفة، إلى مجرد أداة للربح."

وهذا ينطبق تمامًا على الذكاء الاصطناعي، الذي تم تسليعه الان ليكون أداة لتعظيم الأرباح وتقوية السيطرة الطبقية. إن التطوير الحالي للذكاء الاصطناعي لا يمكن فهمه باعتباره مجرد تقدم تقني، بل هو جزء من منظومة السيطرة الطبقية التي تسعى من خلالها الشركات الكبرى والدول الرأسمالية إلى تعزيز الأرباح، وتركيز الثروة، وإعادة إنتاج علاقات الإنتاج القائمة. فالخوارزميات التي تدير هذه الأنظمة موجهة أيديولوجيًا لخدمة مصمميها، حيث تُسخر لتعظيم الإنتاجية، وتعزيز تفوق الشركات الاحتكارية، وترسيخ القيم النيوليبرالية، دون أي اعتبار للعدالة الاجتماعية أو الحقوق الإنسانية. وهكذا، تتحول هذه التقنيات إلى أدوات جديدة لاستغلال القوى العاملة وإدامة التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية، بدلًا من أن تكون وسيلة لتحرير الإنسان من شروط الاستغلال.
لقد بات الذكاء الاصطناعي سلاحًا مركزيًا في يد رأس المال، حيث يُستخدم لتقليص الحاجة إلى العمالة البشرية، مما يؤدي إلى تفاقم البطالة أو دفع شغيلات وشغيلة اليد والفكر إلى قطاعات أخرى، وتعميق الفجوة الاقتصادية والاجتماعية. كما أن احتكار هذه التقنيات يمنح الشركات الكبرى قدرة غير مسبوقة على التحكم في الأسواق، وإعادة تشكيل الرأي العام، وفرض رقابة رقمية شاملة على الأفراد والمجتمعات، مما يكرّس نظامًا تصبح فيه الجماهير إلى حدّ كبير، إما مستغلة كبيانات وعمالة رخيصة، أو مُهمشة بفعل الأتمتة. وإذا استمرت هيمنة النظام الرأسمالي على الذكاء الاصطناعي، فإن النتيجة من الممكن ان تكون مجتمعًا شديد الاستقطاب، حيث تملك النخب التكنولوجية القوة المطلقة، بينما يُدفع شغيلة الفكر واليد نحو مزيد من التهميش والإقصاء.
 
في هذا الفصل، سنتناول كيفية توظيف الذكاء الاصطناعي لتعظيم الأرباح، وترسيخ الهيمنة الطبقية، وتعميق السيطرة الأيديولوجية للنظام الرأسمالي. كما سنتطرق إلى البديل الاشتراكي للذكاء الاصطناعي الذي يطرحه اليسار الإلكتروني، والذي يسعى إلى تطوير نماذج قائمة على ملكية المجتمع لهذه الأدوات، وتسخير التكنولوجيا كأداة تحررية في خدمة الطبقات الكادحة وعموم البشرية، من خلال إعادة توجيه استخدامها لصالح الأغلبية بدلًا من الأقلية المحتكرة. وسنناقش أيضًا سبل التعامل النقدي والحذر مع التطبيقات الحالية للذكاء الاصطناعي، بما يتيح توظيفها قدر الإمكان في سياق يخدم النضال التقدمي ضد الرأسمالية، ودعم الحركات والتنظيمات اليسارية والعمالية.

 
1.2   الرؤية الرأسمالية للذكاء الاصطناعي

1.2.1      الذكاء الاصطناعي كأداة لتعظيم الأرباح واستغلال البيانات في ظل الرأسمالية

في ظل النظام الرأسمالي الحالي، يُوجَّه استخدام التكنولوجيا، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي، لتعظيم الأرباح على حساب العدالة الاجتماعية والحقوق الإنسانية. تُستخدم هذه التقنيات كأداة رئيسية لزيادة الكفاءة الإنتاجية وتقليل التكاليف، مما يكون غالبًا على حساب شغيلات وشغيلة اليد والفكر، حيث يُستبدلون بالخوارزميات والأنظمة المؤتمتة، ما يؤدي إلى تسريح أعداد كبيرة منهم وارتفاع معدلات البطالة، أو دفعهم إلى الانتقال إلى قطاعات أخرى في ظروف غير مستقرة. في المقابل، تُوجَّه مكاسب الإنتاجية الناتجة عن الأتمتة نحو زيادة أرباح الشركات الكبرى بدلًا من تحسين الأجور أو تقليل ساعات العمل. أما من يحتفظون بوظائفهم، فيجدون أنفسهم مضطرين للعمل في بيئات غير مستقرة، حيث تفرض معظم الشركات سياسات قاسية لزيادة الإنتاجية، مستغلة التكنولوجيا لفرض ضغوط إضافية على القوى العاملة. هذا التركيز على الربح يؤدي إلى تفاقم التفاوتات الطبقية والاقتصادية، حيث تُترك الغالبية العظمى من المجتمع لتحمل عبء التغيرات التي أحدثتها هذه التكنولوجيا، بينما تستأثر النخبة الرأسمالية بالفوائد.
إلى جانب استغلال العمالة التقليدية، أضاف الذكاء الاصطناعي والرأسمالية الرقمية بُعدًا جديدًا للاستغلال، يتمثل في استغلال البيانات وسلوك الأفراد وتفضيلاتهم، حيث أصبحت هذه البيانات الشخصية سلعة تُستخرج قيمتها دون أي تعويض مباشر لمن يُنتجها  أي الأفراد أنفسهم. يشكل هذا النمط الجديد من الاستغلال، الذي أطلق عليه بعض المفكرين والمفكرات اسم "فائض القيمة الرقمي" أو "فائض القيمة السلوكي"، امتدادًا لمفهوم فائض القيمة في الإنتاج الصناعي، لكنه يتجاوزه عبر استغلال المعلومات الشخصية بشكل غير مباشر وبطرق غير مرئية، مما يعزز السيطرة الرأسمالية على الأفراد والاقتصاد الرقمي.
تُستخدم البيانات المستخرجة من أنشطة الأفراد، بدءًا من عمليات البحث عبر الإنترنت إلى التفاعلات على وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية الأخرى، لتوجيه الإعلانات، وصياغة استراتيجيات تسويقية وسياسية واقتصادية، وتوقع السلوكيات الاستهلاكية، مما يولد أرباحًا طائلة للشركات دون أن يحصل المستخدمون والمستخدمات على أي مقابل. إن هذه الظاهرة تمثل شكلاً غير مباشر من العمل المجاني، حيث يُنتج الأفراد، دون وعي، قيمة اقتصادية كبيرة تستفيد منها الشركات الاحتكارية التي تهيمن على تقنيات الذكاء الاصطناعي.
علاوة على ذلك، فإن الذكاء الاصطناعي يُعيد إنتاج علاقات الإنتاج الرأسمالية بشكل أكثر تعقيدًا، حيث لا يُستغل فقط شغيلات وشغيلة اليد والفكر في أماكن العمل التقليدية، بل يُستغل الجميع بوصفهم مصادر بيانات في كافة الاوقات، مما يوسع نطاق الاستغلال ليشمل كل لحظة من الحياة اليومية. تحول الإنسان إلى "منتج-ة" رقمي يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الاستيلاء على القيمة، حيث لم يعد العمل المأجور هو المصدر الوحيد للأرباح، بل باتت الحياة اليومية الرقمية ذاتها مجالاً لاستخراج فائض القيمة.
 
1.2.2      الذكاء الاصطناعي كأداة للهيمنة والسيطرة على العمل واحتكار التكنولوجيا

لا يكتفي النظام الرأسمالي باستخدام الذكاء الاصطناعي لتعزيز الإنتاجية والأرباح، بل يسخّره أيضًا كأداة لترسيخ السيطرة الطبقية، وإخضاع شغيلات وشغيلة اليد والفكر لآليات أكثر صرامة من المراقبة والتحكم. إن توظيف الذكاء الاصطناعي في بيئات العمل لا يهدف فقط إلى تحسين الأداء، بل يُستخدم لتكثيف استغلالهم، ومراكمة الأرباح على حساب حريتهم وحقوقهم. حيث مع تطور الخوارزميات الذكية، بات بإمكان الشركات تتبع كل حركة يقوم بها شغيلات وشغيلة اليد والفكر، سواء عبر أنظمة تتبع الإنتاجية، أو تحليل البيانات، أو قياس سرعة وكفاءة الأداء. تُستخدم هذه الأدوات في معظم الأحيان للضغط عليهن وعليهم، وتقليص فترات الراحة، وفرض وتيرة عمل مرهقة تحوّلهم إلى تروس في آلة رأسمالية لا تهدأ. هذا النمط الجديد من الرقابة من الممكن أن يخلق بيئة عمل أكثر قسوة، حيث يُصبحون مجرد متغيرات في معادلة الذكاء الاصطناعي، ولا يستطيعون التحكم بشكل كبير في ظروف عملهم.
بالإضافة إلى ذلك، تُستخدم الخوارزميات في عمليات التوظيف والفصل، حيث يتم تحليل البيانات الضخمة لتحديد من يستحق البقاء ومن يمكن الاستغناء عنه. يؤدي هذا إلى ديناميكية عمل غير مستقرة، حيث يتم تهميش شغيلات وشغيلة اليد والفكر واستبدالهم بسهولة وفقًا لمعايير كمية صارمة، دون اعتبار للجوانب الإنسانية أو الاجتماعية. هذا التحول لا يؤدي فقط إلى ارتفاع معدلات البطالة وانعدام الأمان الوظيفي من خلال دفع شغيلات وشغيلة اليد والفكر إلى قطاعات أخرى، بل يُسهم أيضًا في تكريس نموذج "العمل القابل للاستبدال"، حيث يتم الاستغناء عن شغيلات وشغيلة اليد والفكر بمجرد اعتبارهم أقل كفاءة من البدائل الرقمية أو الآلية، مما يزيد من هشاشة سوق العمل ويعمّق الاستغلال الرأسمالي.
في موازاة ذلك، تُسيطر الشركات الاحتكارية الكبرى على تطوير ونشر تقنيات الذكاء الاصطناعي، مما يؤدي إلى احتكار التكنولوجيا وتحويلها إلى أداة لخدمة مصالح نخبة اقتصادية محدودة. تركز هذه الشركات على تصميم حلول تكنولوجية تُعزز أرباحها وتزيد من هيمنتها على السوق، بينما تُترك الغالبية العظمى من المجتمع دون استفادة حقيقية من هذه التكنولوجيا. حتى في الحالات التي تُقدَّم فيها خدمات مجانية أو منخفضة التكلفة، فإنها غالبًا ما تكون محدودة الإمكانات وتُستخدم كوسيلة لجمع المزيد من البيانات عن المستخدمين والمستخدمات.
 
1.2.3      توجيه الوعي لتعزيز الثقافة الرأسمالية النيو ليبرالية

 إلى جانب استخدام الذكاء الاصطناعي لتعظيم الأرباح وترسيخ السيطرة الاجتماعية، يتم توظيف هذه التكنولوجيا بشكل ممنهج لتشكيل وتوجيه وعي الأفراد تدريجيًا، بهدف تعزيز الثقافة الرأسمالية والأفكار النيوليبرالية وتوجهاتها. من خلال تحليل البيانات وسلوك المستخدمين، تُستخدم الخوارزميات للتحكم في المحتوى الذي يُعرض لهم عبر المنصات الرقمية، مثل شبكات التواصل الاجتماعي ومحركات البحث... الخ. يتم تصميم هذه الخوارزميات لتغذية الأفراد بمحتوى يتماشى مع قيم التي تدعم الرؤية الرأسمالية وسياساتها.
على سبيل المثال، تُعرض الإعلانات والمحتوى الترويجي الذي يُشجع الأفراد على شراء المزيد من المنتجات، حتى عندما لا تكون لديهم حاجة حقيقية لها. كما يتم الترويج لقيم الرأسمالية مثل أزلية الملكية الخاصة والتفاوت الطبقي، والنجاح الفردي، والثروة... إلخ، والاستهلاك كمعيار للحياة الجيدة، في مقابل تسفيه وإخفاء الأفكار اليسارية، بل وحتى حظرها بأشكال مختلفة في حالات ليست بالقليلة. يؤدي ذلك إلى توجيه الوعي الجماعي نحو قبول هذه القيم باعتبارها طبيعية وحتمية، ويتم ذلك بأسلوب تدريجي ناعم وغير محسوس وعلى مدى بعيد، إلى الحد الذي يجعل معظم مستخدمي ومستخدمات تطبيقات الذكاء الاصطناعي، بمن فيهم أصحاب الفكر اليساري والتقدمي، يعتقدون أنها محايدة. هذه السياسة تُشكل خطرًا كبيرًا على الأجيال القادمة، التي أصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا لا يتجزأ من حياتها اليومية. إن هذه الاستراتيجيات الدقيقة تُسهم في تكريس الهيمنة الرأسمالية وتعزيز ولاء الجماهير والخنوع للنظام.

1.2.4      تأثير الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي في إضعاف القدرات البشرية
إلى جانب الدور الذي يلعبه الذكاء الاصطناعي في إعادة تشكيل الوعي الجماهيري وفقًا للمنظومة الرأسمالية، هناك بُعد آخر لم يُدرس ويؤطر في قوانين دولية، في ظل السباق المحموم بين الدول الكبرى والشركات الرأسمالية الاحتكارية للسيطرة على أسواق الذكاء الاصطناعي، وهو التأثير السلبي للاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي في قدرات الإنسان العقلية والإبداعية. أصبح تطوير التكنولوجيا موجهًا الى حد كبير نحو الهيمنة وتحقيق الأرباح والتنافس على التفوق التقني، دون النظر إلى التأثيرات العميقة لهذه التحولات على البشرية.
يُروَّج للذكاء الاصطناعي على أنه وسيلة لتسهيل الحياة وزيادة الإنتاجية، لكن الواقع يكشف أن الاعتماد غير المدروس على هذه التقنيات يؤدي إلى تعميق الوعي السطحي وإضعاف المهارات البشرية الأساسية. ومع مرور الوقت، قد يصبح الإنسان، وخاصة الأجيال الجديدة، أقل قدرة على التفكير النقدي، وإجراء العمليات الحسابية، والكتابة، وحتى التواصل البسيط عبر الرسائل، نتيجة الاعتماد المفرط على الأنظمة الذكية التي تنفذ هذه المهام نيابة عنه. إلى جانب هذه التحديات، يزداد القلق من الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي في المجالات الحساسة حيث يمكن أن تؤدي الأخطاء الناجمة عن الأنظمة الذكية إلى عواقب كارثية.
يمكن أن يُحوِّل الاستخدام المفرط للذكاء الاصطناعي من أداة لتحسين القدرات البشرية إلى وسيلة تزيد من عجز الإنسان عن أداء مهامه اليومية، مما يؤدي إلى تآكل المهارات الأساسية في أي مجتمع منتج. في السياق الرأسمالي، يُنظر إلى هذه الظاهرة كفرصة لتعزيز تبعية الأفراد للنظام التكنولوجي الاحتكاري، حيث يُدفعون إلى الاعتماد المتزايد على هذه التقنيات بدلًا من تعزيز استقلالهم الفكري وإبداعهم. في هذا الإطار، يبرز الإدمان الرقمي كأحد أخطر الآثار المترتبة على توسع الذكاء الاصطناعي، إذ تشير الدراسات إلى أن تأثيره قد يتجاوز الإدمان على المخدرات. فالخوارزميات الذكية مُصممة خصيصًا لجذب انتباه المستخدمين والمستخدمات وإبقائهم متصلين لأطول فترة ممكنة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تطبيقات الترفيه، أو أنظمة المساعدة الذكية، مما يجعلهم أسرى لهذه الأنظمة وغير قادرين على الاستغناء عنها. قد يؤدي ذلك إلى ضعف التركيز، وتراجع مهارات حل المشكلات، وإضعاف الذاكرة والتواصل البشري المباشر. تستغل الشركات الكبرى هذا الإدمان المتعمد، إذ تستثمر في تصميم تقنيات تُحفّز السلوك الإدماني لضمان بقاء المستخدمين والمستخدمات متصلين باستمرار، مما يعزز أرباحها على حساب الصحة العقلية والنفسية، وخاصة لدى الأجيال الشابة.
إن استمرار هذا النهج قد يؤدي إلى نتائج كارثية على مستقبل البشرية، حيث يُصبح الإنسان أقل قدرة على التكيف مع المشكلات المعقدة وأكثر اتكالًا على تقنيات تتحكم بها الشركات الرأسمالية. لا يقتصر هذا التحول على تقليص القدرات الفردية، بل يُسهم أيضًا في تعزيز السيطرة الطبقية للرأسمالية، حيث يُستخدم الذكاء الاصطناعي للتحكم في تفكير البشر، واتخاذ قراراتهم، والعلاقات الاجتماعية والأسرية، وحتى مدى قدرتهم على مقاومة الهيمنة الثقافية والاقتصادية والسياسية. إذا استمرت هذه الاتجاهات دون مقاومة فاعلة، فسنواجه مستقبلًا يصبح فيه الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة بيد الرأسمالية، بل قد يتحول إلى بديل تدريجي للعقل البشري ذاته، مما يعزز الهيمنة الطبقية ويفرض نوعًا جديدًا من العبودية الرقمية، حيث يُصبح الأفراد تابعين بالكامل للنظام الاقتصادي-التكنولوجي المسيطر.
 
1.2.5       الذكاء الاصطناعي والعالم الثالث
لا تقتصر تأثيرات الذكاء الاصطناعي على الدول المتقدمة، بل تمتد إلى دول العالم الثالث، حيث يُعامل كقاعدة موارد خام وأسواق استهلاكية ضخمة تُوظَّف لخدمة الرأسمالية العالمية. بدلاً من أن تُسهم هذه التقنيات في التنمية المستقلة لهذه البلدان، يتم توجيهها بطرق تُكرّس التبعية الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية، مما يعزز استغلال هذه المجتمعات لصالح الدول والشركات الكبرى المسيطرة على تطوير الذكاء الاصطناعي.
تسعى الشركات الاحتكارية إلى استغلال البيانات والموارد البشرية في دول العالم الثالث دون تقديم أي قيمة عادلة لهذه المجتمعات. فبينما يتم الترويج للذكاء الاصطناعي بوصفه أداة للتنمية بشكل معلن، فإنه في الواقع يُستخدم كأداة لنهب البيانات وتحويل سكان هذه الدول إلى مجرد مصادر مجانية للمعلومات. يتم امتصاص البيانات الضخمة من خلال التطبيقات الرقمية، وأنظمة التتبع، ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث يصبح كل تفاعل وكل قرار فردي مادة خام تُعالج لخدمة الشركات الاحتكارية دون أي مردود اجتماعي حقيقي للسكان في هذه البلدان.
تُوظَّف المبادرات "الخيرية" و"الإنسانية" التي تقودها شركات التكنولوجيا الكبرى لتعميق السيطرة الرأسمالية على دول العالم الثالث، حيث تعمل هذه الشركات بجد على إيصال الإنترنت إلى كل ركن من العالم، وخصوصًا الدول النامية، حتى قبل توفير الكهرباء والمياه النقية والخدمات الأساسية! لكن الهدف الحقيقي من هذه المشاريع ليس تحسين مستوى المعيشة أو تطوير البنية التحتية، بل الترويج التجاري، وتعزيز السيطرة الأيديولوجية، وتحويل كل فرد إلى مستهلك دائم ومصدر مستمر للأرباح. لا تسد هذه السياسات الفجوة الرقمية، بل تُعيد إنتاج الاستعمار الرقمي، حيث تُصبح هذه الدول معتمدة بالكامل على الشركات الأجنبية في توفير التكنولوجيا والخدمات الرقمية، بدلًا من بناء قدرات محلية تلبي احتياجاتها الفعلية، مما يُكرّس تبعيتها للبرمجيات الاحتكارية والخدمات السحابية الأجنبية.
 
1.2.6      اللغة الذكورية في الذكاء الاصطناعي وعدم تبني المساواة الكاملة
رغم الانطباع العام بالحيادية الجندرية للذكاء الاصطناعي، إلا أنه عند التدقيق الجيد نجد أن الانحيازات الجندرية المضمنة في الخوارزميات والأنظمة الذكية تُظهر كيف تُعيد تقنيات معظم تطبيقات الذكاء الاصطناعي إنتاج التمييز الجنسي وعدم المساواة بين الجنسين.  فاللغة الذكورية والطابع غير المساواتي لهذه التقنيات يعكسان التحيزات الثقافية والاجتماعية التي تُغذيها الشركات الرأسمالية والحكومات الذكورية التي طوّرتها وبنسب مختلفة حسب درجة تطور حقوق المرأة ومساواتها في كل بلد.
الذكاء الاصطناعي ليس بطبيعته أداة ذكورية، لكنه يتغذى على بيانات المجتمع الرأسمالي الذكوري، حيث تعتمد الخوارزميات على بيانات مُجمَّعة تعكس تحيزات الأفكار النمطية التي تكرّس عدم المساواة بين المرأة والرجل، مثل اللغة الذكورية المستخدمة والتصورات التقليدية لأدوارهما في العمل والمجتمع. على سبيل المثال، تميل خوارزميات التوظيف إلى تعزيز التمييز الجندري، حيث تُفضل الرجال في المناصب القيادية والتقنية، بينما تُوجّه النساء نحو الوظائف الخدمية والتربوية، مما يُكرّس القوالب النمطية بدلاً من تحديها أو تفكيكها.
إضافةً إلى ذلك، تُبرمج الأنظمة الصوتية مثل المساعدات الذكية بأصوات أنثوية وأدوار خدمية، مما يعزز الصورة النمطية للمرأة على أنها "خاضعة" أو "مساعدة" بدلاً من كونها شريكًا متساويًا.
إن ضعف التمثيل النسائي في تصميم وتطوير الذكاء الاصطناعي، وغياب الدور الفعّال للحركات النسوية والتقدمية في هذا المجال، إلى جانب سيادة الطابع الذكوري في فرق التطوير، يُعمِّق هذه المشكلة. فالتكنولوجيا هنا لا تكتفي بعكس التحيزات الجندرية، بل تُعيد إنتاجها وتعزيزها، مما يُعيق تحقيق المساواة ويُعزز الفجوة بين الجنسين بدلاً من تقليصها، كما يُكرّس الأدوار النمطية ويعزز التمييز ضد المرأة. هذه التحيزات ليست مجرد مسألة تقنية، بل تعكس أزمة اجتماعية أعمق تُعيد ترسيخ أنماط التمييز وعدم المساواة في الفضاء الرقمي.
 
1.2.7      ا الذكاء الاصطناعي كأداة للسيطرة والقمع السياسي وانتهاك حقوق الانسان

1.2.7.1    الرقابة والسيطرة الرقمية
لم تعد الرقابة تقتصر على الحذف المباشر للمحتوى، بل باتت تعتمد على خوارزميات تُقيّد انتشار المواد المعارضة للرأسمالية أو الاستبداد السياسي، مما يجعل الوصول إليها أكثر صعوبة. تلجأ المنصات الرقمية إلى تصنيف المحتوى النقدي على أنه "غير ملائم" أو "مضلل"، مما يقلل من انتشاره، بينما يتم الترويج للمحتوى الذي يخدم المصالح الرأسمالية.
إضافةً إلى ذلك، تُستخدم الرقابة الرقمية لرصد وتحليل التوجهات الفكرية والسياسية للمستخدمين، مما يتيح للشركات والدول استهدافهم عبر حملات تضليلية أو فرض عقوبات رقمية تحدّ من قدرتهم على التأثير. تُمارس هذه الاستراتيجيات بشكل ممنهج ضد الحركات العمالية، والتنظيمات اليسارية، والمؤسسات الإعلامية المستقلة، التي تواجه تضييقًا متزايدًا يحدّ من انتشار أفكارها في الفضاء العام.
كما تُوظَّف الخوارزميات لتقييد وصول المنشورات السياسية اليسارية والتقدمية دون حذفها، مما يجعل القمع الرقمي أكثر تعقيدًا، حيث يبدو التفاعل السلبي وكأنه استجابة طبيعية، مما يمنح أصحابها انطباعًا بأنها غير مرغوبة جماهيريًا. إضافةً إلى ذلك، تُستخدم هذه الخوارزميات لنشر محتوى يشيع روح الإحباط والضعف بين اليساريين واليساريات، مما يرسّخ فكرة استحالة تغيير النظام الرأسمالي.

1.2.7.2     الاعتقال والاغتيال الرقمي
يُعد الاعتقال الرقمي مرحلة أكثر خطورة من الرقابة التقليدية، حيث لا يقتصر على تقييد وصول المحتوى، بل يمتد إلى فرض قيود تعسفية على حسابات الأفراد والمجموعات، وتعليقها مؤقتًا، أو حذفها نهائيًا فيما يمكن اعتباره شكلاً من أشكال الاغتيال الرقمي، يتم دون أي شفافية أو معايير واضحة او قوانين تدافع عن حقوق المستخدمين والمستخدمات. غالبًا ما تُستخدم ذرائع مثل "انتهاك المعايير المجتمعية" أو "الترويج للعنف" كحجج لحجب هذه الأصوات، رغم أن المحتوى الذي ينشره النشطاء يكون في الكثير من الأحيان توثيقًا لجرائم الرأسمالية أو انتهاكات حقوق الإنسان.

1.2.7.3     المراقبة الذاتية الطوعية
يتزامن القمع الرقمي وتقييد وصول المنشورات مع ظاهرة "المراقبة الذاتية الطوعية"، حيث يبدأ الأفراد بفرض رقابة على أنفسهم، أو تعديل خطابهم السياسي، أو حتى تغيير محتواه، والتحول إلى قضايا نظرية عامة، والابتعاد عن المواجهة المباشرة مع الرأسمالية والأنظمة الاستبدادية، خوفًا من تقييد وصول منشوراتهم، أو التعرض للحظر، أو إغلاق حساباتهم من قبل خوارزميات الذكاء الاصطناعي في المنصات الرقمية. يؤدي هذا الخوف إلى تقويض حرية التعبير حتى قبل فرض القيود الفعلية، مما يُعزز الهيمنة الفكرية للرأسمالية، ويُقلّص مساحة المقاومة الرقمية، ويحوّل الإنترنت إلى فضاء مضبوط ومؤطر ذاتيا وفقًا لمصالح القوى المسيطرة.
 
1.2.8        تآكل الديمقراطية باستخدام الذكاء الاصطناعي
 
بعد السيطرة على العقول والوعي البشري من خلال الرقمنة، لم يعد الأمر مجرد وسيلة لتعظيم الأرباح الرأسمالية، بل تحول ايضا إلى أداة رئيسية لإضعاف وحتى تقويض الديمقراطية البرجوازية النسبية بدلًا من تعزيزها أو تطويرها، رغم محدودية مصداقيتها في العديد من البلدان، حيث تخضع هذه الديمقراطية لتأثير المال السياسي، والقوانين الانتخابية المجحفة المصاغة لخدمة مصالح معينة، إلى جانب عوامل أخرى. فبدلًا من دعم المشاركة الشعبية الواعية في الحياة السياسية، يجري تسخير الرقمنة والذكاء الاصطناعي لإعادة تشكيل والتلاعب بالرأي العام بما يتوافق مع مصالح الطبقة الحاكمة، عبر التأثير في الانتخابات، وتضييق مساحة النقاش الحر، وتوجيه الخطاب السياسي والإعلامي لخدمة القوى الرأسمالية المسيطرة.
إن السيطرة الطبقية على الذكاء الاصطناعي تعني أن هذه التكنولوجيا، التي يُفترض أن تكون أداة لتعزيز الشفافية والديمقراطية، تُستخدم فعليًا لإنتاج وترويج السرديات التي تحافظ على النظام القائم. يتم استغلال تحليل البيانات الضخمة والخوارزميات الذكية لتوجيه المعلومات السياسية بما يخدم المؤسسات الرأسمالية، والأنظمة اليمينية والفاشية الجديدة، والقوى الاستبدادية، مما يضعف قدرة الجماهير على اتخاذ قرارات سياسية مبنية على وعي نقدي حقيقي.
في ظل النظام الرأسمالي، لا يُستخدم الذكاء الاصطناعي لتمكين الجماهير أو تعزيز القرارات الواعية، بل كأداة لتشويه الحقيقة، وإعادة إنتاج الخطاب الدعائي، ونشر التضليل الإعلامي الذي يُضعف جوهر الديمقراطية القائم على حرية الوصول إلى المعلومات والتعددية الفكرية والسياسية. يتم ذلك عبر استهداف فئات محددة بمحتوى موجه استنادًا إلى تحليل سلوكهم الرقمي، مما يؤدي إلى خلق رأي عام مصطنع يُكرّس الهيمنة الطبقية ويُعمّق الاستقطاب السياسي والاجتماعي. لا يقتصر الأمر على تضليل الناخبين والناخبات، بل يمتد إلى إعادة تشكيل بيئة النقاش السياسي، بحيث تُفرَّغ من مضامينها الحقيقية وتُشبَع بدعاية تخدم الرأسمالية العالمية.
يتجاوز تأثير الذكاء الاصطناعي مجرد التلاعب بالمعلومات، ليصبح أداة مركزية في إعادة إنتاج السلطة السياسية الرأسمالية. فمن خلال توظيف الخوارزميات في إدارة الحملات الانتخابية، وتصميم الخطاب السياسي وفقًا لمصالح رأس المال، والتأثير على خيارات الناخبين والناخبات عبر تقنيات الاستهداف الدقيق، يتم تحييد الأصوات المعارضة وإضعاف البدائل اليسارية - الديمقراطية الحقيقية. في هذه البيئة، لم تعد الانتخابات تعكس الإرادة الشعبية، بل تحوّلت إلى ساحة صراع بين الدول الكبرى والقوى الاحتكارية والطغم المالية، التي تستخدم الإنترنت والذكاء الاصطناعي كأداة للهيمنة السياسية والفكرية. يؤدي ذلك إلى تشويه التعددية السياسية وإفساد الآليات الديمقراطية القائمة، حيث يتم إما إضعاف الأصوات التقدمية أو دفع الجماهير نحو بدائل زائفة تُعيد إنتاج النظام الرأسمالي نفسه، وفي أقصى الحالات إحداث تغيير سطحي فقط.
 
1.2.9       استخدام الذكاء الاصطناعي في الحروب وتطوير الأسلحة الفتاكة
 تُظهر التقنيات الحديثة للذكاء الاصطناعي كيف يتم توجيه هذه التكنولوجيا لتعزيز الهيمنة العسكرية بدلاً من استخدامها لتحقيق السلام والتنمية. أصبح الذكاء الاصطناعي اليوم جزءًا أساسيًا من سباق التسلح العالمي، حيث يتم تسخيره لتطوير أسلحة ذكية وتقنيات قادرة على تنفيذ عمليات عسكرية دون تدخل بشري مباشر، مما يزيد من خطر نشوب صراعات أكثر تدميرًا ولا إنسانية، إذ تُقلَّص الحاجة إلى القرار البشري في استخدام القوة القاتلة.
على سبيل المثال، يتم تطوير أسلحة ذاتية التشغيل يمكنها اتخاذ قرارات مميتة بناءً على تحليل البيانات الميدانية، مما يجعل القتل عملية تقنية مجردة من أي اعتبارات أخلاقية أو إنسانية. لا تقتصر هذه التقنيات على ساحات المعارك التقليدية، بل تمتد إلى الحروب الإلكترونية، حيث تُستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي لاستهداف البنية التحتية للدول، مثل الأنظمة المالية، وشبكات الطاقة والمياه، والمرافق الحيوية، مما يزيد من حجم الدمار، ويُعمِّق الأزمات العالمية، ويُفاقم معاناة الشعوب.
جميع الحروب، بغض النظر عن أدواتها، قذرة ولا إنسانية، إذ تؤدي إلى تدمير المجتمعات وإبادة الأبرياء لمصلحة القوى المهيمنة. في هذا السياق، تستغل الشركات الكبرى، بالتعاون مع الحكومات الرأسمالية والأنظمة الاستبدادية، إمكانيات الذكاء الاصطناعي لتعزيز التفوق العسكري وتحقيق أرباح طائلة من خلال صفقات بيع الأسلحة الذكية. وبدلاً من توجيه هذه التكنولوجيا نحو تحسين حياة البشر، يتم استخدامها لتطوير أدوات دمار تُفاقم زعزعة الاستقرار العالمي. إن توظيف الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري لا يجعله أكثر "دقة" أو "أقل ضررًا"، بل يُعزز الطابع غير الإنساني للحروب، حيث تتحول قرارات الحياة والموت إلى خوارزميات تُنفَّذ دون أي بُعد أخلاقي.
 
1.3   البديل الاشتراكي للذكاء الاصطناعي

التطورات الأخيرة في مجال الذكاء الاصطناعي فتحت آفاقًا هائلة لتطبيقاته في مختلف المجالات، لكنها أثارت أيضًا مخاوف بشأن كيفية توجيه هذه التكنولوجيا. ومع ذلك، من منظور اشتراكي، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة ثورية تُسهم في إعادة هيكلة المجتمع لتحقيق مزيد من العدالة والمساواة. تهدف هذه الرؤية إلى تحرير الذكاء الاصطناعي من قيود السوق الرأسمالية وتوجيهه لخدمة الإنسانية جمعاء، من خلال تحويله إلى وسيلة لتحسين جودة الحياة، وتحرير البشر من أعباء العمل الروتيني، وتعزيز الإبداع البشري. في الفقرات التالية، نستعرض كيف يمكن للرؤية الاشتراكية لليسار الإلكتروني إعادة تعريف الذكاء الاصطناعي ليصبح قوة محرِّرة تخدم القيم الإنسانية والتقدمية.
 
1.3.1      تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي اشتراكية أو محايدة ومفتوحة المصدر
 الآن، كحلٍّ ممكن، يُعدّ تطوير أنظمة محايدة، ديمقراطية، ومفتوحة المصدر أحد الأساليب الأساسية لمواجهة هيمنة الدول والشركات الكبرى على الذكاء الاصطناعي. يجب أن تُدار هذه الأنظمة بشفافية واستقلالية، وبعيدًا قدر الإمكان عن مصالح رأس المال الاحتكاري، لضمان استخدامها في خدمة الجماهير. يتطلب تحقيق ذلك جهدًا وتنسيقًا جماعيًا من التنظيمات اليسارية والتقدمية والحقوقية حول العالم، من أجل الضغط والعمل لضمان أن تصبح التكنولوجيا أداة لتعزيز الديمقراطية، الحريات، والمساواة إلى أقصى حدٍّ ممكن في ظل التوازنات الطبقية الحالية.
توفر الأنظمة مفتوحة المصدر فرصة للجماهير والتنظيمات التقدمية للمشاركة في تطوير التكنولوجيا بطرق تعكس قيمها، حيث يُتاح لأي فرد أو مجموعة الوصول إلى الأكواد البرمجية، والاطلاع على آلية عملها، وتعديلها وتطويرها بحرية. يمكن لهذا النهج أن يُعزز الملكية والابتكار الجماعي، ويدعم الشفافية، ويفكك جزئيًا سيطرة الدول والشركات الاحتكارية. كما يسهم انفتاح هذه الأنظمة على المراجعة العلنية في تقليل مخاطر التلاعب والتوجيه الأيديولوجي الخفي، مما يجعلها أكثر موثوقية واستقلالية عن المصالح الرأسمالية الضيقة، ويشكل ضمانة لحماية البيانات واحترام الخصوصية. فمن خلال إمكانية مراجعة الأكواد البرمجية، يمكن الحد من التلاعب الخفي أو تضمين تحيزات تخدم مصالح الطبقات المسيطرة. إن تعزيز الشفافية والثقة في الذكاء الاصطناعي يُعد خطوة أساسية نحو تحويل التكنولوجيا إلى أداة تحررية.
والحل المطلوب، الذي يجب أن نناضل من أجله على المدى البعيد، يكمن في أن تعمل التنظيمات اليسارية والتقدمية والحقوقية، وبتنسيق عالمي، على تطوير وطرح بدائل اشتراكية وتطبيقات تقدمية وشفافة للذكاء الاصطناعي، تضمن أن تكون التكنولوجيا ملكية جماعية، خاضعة لإشراف وتوجيه جماهيري كامل، وموجهة نحو احترام حقوق الإنسان، المساواة، والقيم الديمقراطية، واحترام التعددية الفكرية. فبدلاً من أن يظل الذكاء الاصطناعي حكرًا على الدول الغنية والشركات الاحتكارية الكبرى، يجب أن يتحول إلى أداة جماهيرية تقدمية تُساهم في حل المشكلات العالمية والمحلية، مثل مكافحة الفقر والاستغلال، تحقيق المساواة والعدالة وتعزيز الديمقراطية، مواجهة التغير المناخي، وتطوير أنظمة تعليمية وصحية أكثر شمولًا وعدالة، بالإضافة إلى معالجة القضايا الاخرى المهمة التي تواجه البشرية جمعاء. بهذا الشكل، يتحول الذكاء الاصطناعي إلى مشروع تحرري عالمي، يُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا وفق قيم الاشتراكية، الديمقراطية، العدالة، والشفافية، مما يفتح المجال أمام نموذج جديد يضع التكنولوجيا في خدمة الإنسان.
إلى أن يتحقق نموذج اشتراكي تقدمي للذكاء الاصطناعي، ينبغي إخضاع التكنولوجيا الحالية لإشراف قانوني وحقوقي دولي مستقل، لضمان الشفافية والاستقلالية في استخدامها بطريقة عادلة. يمكن لهذا الإشراف أن يحدّ من التلاعب الرأسمالي بالتكنولوجيا، ويضمن توجيهها لخدمة المصلحة العامة ضمن ضوابط ملائمة.