و هنا ايضاً اغتيلت الشمس

يجلس مقرفصاً على ضفة المستنقع ململماً اطراف دشداشته الرصاصية على ركبتيه محدّقاً في المياه الجارية التي تمسها اشعة الشمس الغاربة كأجنحة السنونو لتلوّنها بلون فضي محمر , و هي تطفو عليها حاويات بلاستيكية مكسورة , قطع اخشاب لا فائدة منها , و علب صدأة جرفتها المياه من احياء اخرى . يحتضن المنطقة بأكملها سكون هاديء مريح يتخلله بين حين و آخر نقيق الضفادع المختبئة بين سيقان القصب الأخضر على امتداد ضفتي المجرى , تاركاً وراءه حطاماً من غابة نخيل مبتورة و أنقاض منازل مهدمة يبرز بينها كوخين او ثلاثة . يرسل بنظراته عبر نافذة الذاكرة الى زمن يتجسد في مخيلته بكل ما يعيشه ممن كانوا جزءً من وجوده , فتيات يركضن بثيابهن الحمراء او الزرقاء الداكنة , يختبئن في حفر و بين جذوع اشجار و يظهرن بعد وهلة و فجأة بصيحاتهن و قهقهاتهن المطمئنة في لعبة موروثة , اطفال يعبثون بركام زوارق قديمة تحت حر الشمس , نسوة ملفوفة في الأسود منهمكات في جمع الملح من برك قد جفت او من اوقدن النار في التنور المحلي و هنّ مستعدات لعمل الرغيف و اخريات يقمن بحلب الجاموس , رجال على زوارقهم الرفيعة المستطيلة يلقون بشباكهم في المساحات المائية الساكنة لصيد السمك , هلهلة آنسات وضعن الحناء على ايديهن يوم العرس , و شيوخ بلحاهم البيضاء و دشادشهم ذات قماش سميك يعدّون الدقائق الأخيرة قبل ألأذان . يهب نسيم المساء الحزين و يحمل معه أنفاس و رائحة الاهوار و جذوع اشجار النخيل المنقعة في الماء و القصب الريان ليمرّ كيوم اختفى بين قامات الايام .تسير صور الاسراب المتموجة للوز البري المهاجر على المياه و المحلقة في اعالي السماء و تثير اصواتها الحرة عاطفته الجريحة ليذرف دموعه في هدوء , آه لكم يشبه هذا المساء مساءً ابيد فيه و في غمضة عين سكان الهور !