المخرج مؤلف العرض المسرحى حقيقة ومقولة شهيرة ، لهذا يكون التركيز على مفرداته وعناصر العرض المختلفة ، وتتضح حرفية المخرج وتوفيقه فى عرض جيد من عدمه فى كيفية استخدام هذه العناصر و توظيفها ؛ لتوصيل رسالة صاحب النص و تجسيدها ، او ربما - وهذا الاغلب - لتوصيل رؤية خاصة بالمخرج قد تدنو او تبعد عن فكرة مؤلف النص .
وفى العرض المسرحى المسيح يصلب فى فلسطين نجد ان المخرج اميل شوقى لم يبتعد كثيرا عن فكرة النص الذى كتبه الاستاذ نسيم مجلى منذ اكثر من خمس عقود .. يتناول النص جرائم الصهاينة الممتدة منذ قرون، بداية بصلب السيد المسيح حتى المجازر التى مازالت مستمرة حتى يومنا هذا .
ويلتقط المخرج النص ليكون احد مفرداته فى تأليفه للعرض ، يبدأ العرض بكسر الايهام او كما يشاع قوله كسر الحائط الرابع ، ويذكرنا بعرض ( ستة شخصيات تبحث عن مؤلف ) للكاتب العبقرى لويجى برانديللو ، حين يظهر الممثلون على خشبة المسرح ولم يجدوا المخرج .
حتى يأتى و بدلا من الانتظارالممل،يقترح احدهم، مشاهدة مباراة كرة قدم ويطلبون من كنترول المسرح ان يدير مؤشر التليفزيون/ الشاشة على القناة التى تعرض المباراة ، من خلال التبديل بين القنوات المختلفة تأتى لقطة ارشيفية لبابا الفاتيكان اثناء توقيع وثيقة التسامح الدينى عام 1965 التى تؤكد على ان يهود اليوم ليسوا مسئولين عن جريمة صلب المسيح .. وتستحوذ هذه اللقطة على الممثلين وينسون المبارة ويُدلى كلٌ بدلوه حول الوثيقة حسب معلوماته ، ويكون الرأى الفارق هو ان هذه الوثيقة ما هى الا مؤامرة اوروبية رفضتها الكنيسة القبطية ووجدت انها تحريفا لنصوص مقدسة لخدمة اغراض الكيان الصهيونى التوسعية .. يظهر المخرج ويقترح ان تكون المسرحية حول جريمة صلب المسيح التى ارتكبها اليهود ، ونفذها الحاكم الرومانى . وتُعقد محاكمة لشيخ اليهود ( قيافا) الذى حرض وحشد الغوغاء ضد المسيح ، والحاكم الرومانى على فلسطين وقتئذ (بيلاطس) الذى نفذ صلب المسيح .
يتناول المخرج تقنية استخدام شاشة عرض لمادة فيلمية تطوف بنا بين شوارع القدس العتيقة وبلدان فلسطينية؛ اللد والرملة والجليل وحيفا وغزة ويافا والمسجد الأقصى وقبة الصخرة كل هذه المشاهد بمصاحبة صوت المغنى الوطنى الرائع لطفى بوشناق
(ولى وعد مع القدس أعز علىَّ من نفسى هنا نبضى ثُرى أرضى وموَّالى وإنشادى)
وموسيقى موحية عبرت وعلقت بشكل شجى عن عراقة هذه الاماكن التاريخية والمقدسة
الاضاءة كانت اغلب الوقت محايدة تماما ، الا فى مشهد الصحفى الصهيونى والقاضى فكانت موحية ومعبرة بالاحمر القانى عن حماس وتشبث القاضى بعدالة القضية واصرار الصحفى الصهيونى المتعجرف على الاغتصاب وقلب الحقيقة وخلط الاوراق .
جاءت حركة الممثلين عادية فى اغلب الوقت باستثناء حركة بيلاطس فى مواجهة قيافا والتى اعتمد المخرج فيها على الحركة المستقيمة ويحسب له استخدام هذا النوع من الحركة لانه الاكثر ملاءمة للمواجهة كما كانت السرعة فى استخدامها موفقة .
الملابس جاءت لتخدم العرض ؛ فاستخدام الملابس العصرية للقاضى وممثل الادعاء ؛ ينم عن ذكاء من المخرج ليؤكد على عصرية وحدثية القضية ، وجاءت ملابس قيافا وبيلاطس معبرة عن عصرهم .
الديكور كان تجريديا فلم يستخدم المخرج الا بعض الموتيفات الضرورية كمنصة الادعاء ومنصة القاضى وكرسيين لكل من بيلاطس وقيافا المتهمين .. وكان هذا ضروريا ويحسب للمخرج حيث احتلت شاشة السينما عمق الفراغ المسرحى .
الموسيقى لوجدى راشد كانت موفقة ؛ اذ اثارت شجوننا وحنينا لعبق القدس فكانت بمثابة معلق على الاحداث التى تم عرضها عبر الشاشة ، كما جاءت اللقطات الفيلمية جيدة ومعبرة .
جاء الاداء التمثيلى للفنانين فى اطار اوامر وتوجهات المخرج ولم يتفوق الا جميل عزيز الذى جسد شخصية شيخ اليهود قيافا الذى اتقن تشخيص المكر والخبث الصهيونى والمراوغة وقلب الحقائق ، ولكن يؤخذ عليه خروجه عن النص بشكل خصم من رصيده كثيرا ، اذ إن تَعمدّ انتزاع الضحك من الجمهور بهذه الطريقة يؤثر على المسرحية/المحاكمة وجديتها بالنسبة للمتلقى الذى استحوذت الاحداث على وجدانه ، كما حدث ايضا مع المدعى الذى جسده اشرف شكرى والذى خرج عن النص وحاول انتزاع الضحك من الجمهور بشكل مبالغ فيه ... وقد تفوق شادى اسعد فى اداءه لشخصية بيلاطس الرومانى حاكم فلسطين ، حيث سيطر على ادواته بشكل جيد فكان استخدامه لصوته وتلوينه وانفعالاته بين الغضب من دهاء وخبث قيافا وبين اللين فى مشهد ندمه على تنفيذ الحكم بصلب المسيح جيدا .
الحوار بين بيلاطس وقيافا واعترافات الاول فى مناصرة الظلم على الحق خوفا على المنصب ، كانت موحية وقوية وتُسقط على واقعنا المعاش ، جاء اداء ماجد السيسى الذى ادى شخصية الصحفى الصهيونى ضعيفا جدا ، وقد فسر المخرج هذا بانه يعمل فى الادارة المسرحية و قام بدور صديقة مريضة ، ولكن ضعف اداءه خصم كثيرا من اهم مشهد فى العرض .
ونأتى للخاتمة وهى من اجمل واقوى المشاهد مؤكدة على ان القضية لم تنته وان الصهاينة مازالوا يسفكون دم المسيح حتى اليوم.. وليس أدل على هذا من تلك المجازر والدماء التى تراق فى غزة، كل ساعة.
اذ حالف المخرج التوفيق حين مزج بشكل رائع بين المحاكمة/المسرحية والمادة الفيلمية الخاصة بالمجازر الصهيونية المستمرة حتى الآن (ومساندة الغرب للصهاينة والخطط الشيطانية بتقسيم فلسطين،ودعوة التهجير القسرى والعمل على تصفية القضية الفلسطينية وقضية اللاجئين الفلسطينيين) ويدعو العرض لاستمرار مقاومة الشعوب والذى يتردد فى نهاية المسرحية على لسان أبطال العرض المسرحى ويردد معهم الجمهور وقوفا ومصفقا لهم “القضية مانتهتش واللى بيحصل ده لازم ينتهى.”
تحية واجبة للمؤلف نسيم مجلى لتناوله هذه القضية الازلية والتى تعبر عن وجود وليست حدود ، ولكن يؤخذ عليه انه نحا بها منحى دينى وهى قضية تهم كل وطنى شريف سواء مسيحى او مسلم او حتى يهودى .
والتحية وكل الاحترام للمخرج اميل شوقى الذى سيطر على ادواته واستخدم مفرداته بحرفية ، ولكن يؤخذ عليه تجاوزه عن بعض الممثلين ومغالاتهم فى الخروج عن النص ، كما يؤخذ عليه جعل الممثلين ينظرون الى الشاشة السينمائية ويديرون ظهورهم للجمهور واحيانا يحجب احدهم الرؤية ..
فى الختام اود ان ابوح لك بما دار بخلدى اثناء مشهد المحاكمة وتبادل الاتهامات بين الحاكم والكاهن ، عن السيد المسيح ، فقد رأيت ان رسالة المسيح الداعية للمحبة والمساواة والخير والعدل ؛ هى الثورة وأتباعه عليه السلام هم الثوار التواقين لهذه القيم ، والحاكم والكاهن هم الشريحة التى تخشى من هذه الدعوة على مصالحهم ويتولى الكاهن حشد البلطجية لوأد الثورة وقتل/صلب زعيمها .. هكذا رأيت الاسقاط ، فهل توافقنى الرأى .