أرسى كونراد منهجاً مميزاً في السرد حتى أطلق عليه النقاد "السرد الكونرادي".Conradian Narrative النسق السردي لـ قَلْبُ ظُلُمَاتٍ سرد مغلّف في سرد آخر وسيولة غير مبوَّبة إلى فصول، وإنما مُقسّمة إلى ثلاثة أجزاء ليس إلا، لكنها ثلاثة مركّزة في فقرات سرديّة مطولة تجهدُ القارئ ولا تعطيه فرصة لالتقاط أنفاسه. فـ "الحكاية" يجب أَنْ تُروىَ في جلسة لأصدقاء يتسامرون على متن يخت راسٍ عند مصب نهر التمز في لندن.
تُستهل الرواية بسردٍ لراوٍ غُفْلٍ Frame Narrator لا نعرفُ اسمه يقدم لنا بدوره راوياً آخر يدعى مارلو، وهو مَنْ عايش أحداث "الحكاية". إِنَّ مهمة الراوي الغفل تقديم مارلو لنا ليتركه يروي القصة وحده بأسلوب الحوار الداخلي المفرد Interior Monologue بيد أَنَّ الغفلَ يبرز لنا مُتدخلاً أَحياناً أثناء السرد، كما أنه يختم الرواية بربط خاتمتها بأول صفحة فيها. وفي تضاعيف كلام مارلو والراوي الغُفْل ينتقل الكلامُ من صيغة المتكلم الغائب إلى صيغة الخطاب أو العكس. ولذا حاولتُ أَنْ أشيرَ في بداية كل انتقال منعاً للَّبْس، مُستخدماً خطاً غليظاً كلما تدخل الراوي الغفل:
"غَابَتِ الشَّمْسُ، وَأَغْطَشَ الغَسَقُ عَلَى المَسِيْل، وَرَاحَتِ الأَضْواءُ تَظْهَرُ عَلَى امْتِدَادِ الشَّاطِئ، وَأَرْسَلَتْ مَنَارَةُ تشَابْمَانْ، ذَلِكَ البِنَاءُ ثُلاَثِي القَوَائِم المُشَيَّدُ فَوْقَ سَهْلٍ طِيْنِيّ، ضَوْءاً قَوياً. تَحَرَّكَتْ أَضْوَاءُ السُّفُنِ فِي عُرْضِ النَّهْرِ حَرَكَةً عَظِيمَةً لأَضْوَاءٍ تَرتَفِعُ وَتَنخَفِضُ. وَفِي أَعَالِي النَّهْرِ غَرْبَاً كَانَ مَا يَزْالُ مَوْضِعُ المَدِينَةِ بالِغَةِ الجَسَامَةِ مَوْسُوماً بِمَيْسِمِ الشُؤْمِ عَلَى صَفْحَةِ السَّمَاءِ: قَتَامَةٌ جَاثِمَةٌ فِي أَشِعَّةِ الشَّمْسِ، وَوَهَجٌ قَاتِمٌ تَحْتَ النُّجُوْمِ."
وَهَذَا أَيْضَاً، قَالَ مَارْلُو فَجْأَةً: كَانَ وَاحِدَاً مِنَ الأَصْقَاعِ المُظْلِمَةِ فِي العَالَمِ."
ويلجأ كونراد إلى أسلوب التداعي الحر أيضاً لسببٍ هام جداً وهو أَنَّ المادةَ الخام لـ قَلْبُ ظُلُمَاتٍ ما هي بحكاية متخيلة، وإنما تسجيلٌ صادق لتجربة شخصية كان كونراد قد خاض غمارها بنفسه على أرض الواقع في الكونغو البلجيكي، ولكي يتجنب الانزلاق في شرك التأريخ المتسلسل (الكرونولوجي) السمج الممل أو مهاوي المؤثرات الشخصية، فإنه آثر هذا الأسلوب بغية تحقيق مأرب مهم، وهو ما اصطلح النقاد على تسميته بـِ المباعدة الجمالية.
كما أَنَّ أسلوبَ سرده اشتهر بما أتفق على تسميته بـ "التوضيح المُؤَخَّر"Delayed Decoding وهو واحد من تقنيات الأسلوب الانطباعي الذي انتهجه كونراد في الرواية. وقَدْ جاء بهذا المصطلح البروفسور إيان وات Ian Watt صاحب الكلمة الفصل فِي نقَدْ أدب كونراد، فالكاتب (أو الراوي) يسجل مَا يتأتى لَهُ من انطباعات كَمَا يفهمها بادئ الأمر، ولَيْسَ بالضرورة كما هُوَ واقع بالفعل أَوْ حقيقي أَوْ صحيح، وبعد ذلك يبدأ بالتوضيح شيئاً فشيئاً بعد أَنْ يستوعبَ ما يجري فعلاً. ولعل المقتطفين التاليين يبسطان المقصود بهذه التقنية السردية:
"كُنْتُ أنْظُرُ إِلَى عَمُودِ سَبْرِ الغَوْرِ أَسْفَل مِنِّي، وَيَنْتَابُنِي انْزِعَاجٌ مُتَزَايِدٌ كُلَّمَا رَأَيْتُ جُزْءاً مِنْهُ يبرزُ أكْثَرَ مَعَ كُلِّ محاولة، عِنْدَمَا رَأَيْتُ الرَّجُلَ الَمُكَلَّفَ بِعَمَلِيِّةِ سَبْرِ الغَوْرِ يتَوَقَّفُ عَنْ عَمَلِهِ فَجْأَةً، وَقَدْ تَمَدَّدَ عَلَى ظَهْرِهِ عَلَى سَطْحِ الزَّوْرَقَ دُونَ أَنْ يُكَلِّفَ نَفْسَهُ عَنَاءَ سَحْبِ العَمُودِ، وَإِنْ بَقِيَ مُمْسِكَاً بِهِ وَبَقِيَ العَمُودُ مُتَدَلِّياً فِي المَاءِ. وَفِي الْوَقْت نَفْسِهِ، جَلَسَ الوَقّادُ، الَّذِي كَانَ بإمكَانَي رُؤيَتَهُ أَسْفَلَ مِنِّي، جَلَسَ فَجْأَةً أَمَامَ فُرْنَهِ وَحَنَى رَأْسَهُ. فَتَولَّتنِي الدَّهْشَةُ. عِنْدَئذٍ تَعَيَّنَ عَليَّ النَّظَرُ إِلَى النَّهْرِ بِسُرْعَةٍ عَظْيمَةٍ لِوُجُوْدِ أَتِيّ فِي عُرْضِهِ. أَعْوادٌ، أَعْوادٌ صَغِيْرَةٌ تَتَطَايرُ حَوْلَنَا تَطَايُراً كَثِيفاً: تَئِزُّ أَمَامَ أَنْفِي، وَتَتَسَاقَطُ أَسْفَلَ مِنِّي، وَتَرْتَطِمُ بِحُجْرَةِ رَئِيسِ الزَّوْرَقِ خَلْفِي، وَالنَّهْرُ وَالضَّفَّةُ وَالغَابَاتُ طَوَال هَذَا الوَقْتِ هَادِئة كل الهُدُوءِ. لَمْ أَسْمَعْ سِوَى الضَّرَبَاتِ الثَّقِيلةِ الَمَكْتُومَةِ لِعَجَلَةِ التَّغْدِيفِ، وَطَقْطَقَةِ هَذِهِ الأَشْيَاءِ. أَزَحْنا الأَتِيَّ مِنْ طَرْيِقْنِا كَيْفَما اتَّفَق. يا إِلَهِي، إِنَّها سِهَامٌ!"
فمارلو يحسب للوهلة الأولى أَنَّ "الرجلَ المكلف بعملية سبر الغورِ يتوقف عن عمله فجأة" وَأنه "تمدد على ظهره على سطح الزورق دون أَنْ يُكَلِّفَ نفسَهُ عناء سحب العمود"، لكن مَارْلُو يدرك متأخراً أَنَّ الرجلَ يحاول اتقاء السهام المنهمرة التي اعتقد في البدء أنها "أعواد".
مثال آخر:
"لاَحَ شَيْءٌ كَبِيرٌ فِي الهَوَاءِ أَمَامَ المِغلاَقِ، سَقَطَتِ البُنْدُقِيّةُ فِي النَّهْرِ، خَطَا الرَّجُلُ إِلَى الخَلْفِ سَرَعاً، نَظَرَ إِلَيَّ مُلْتَفِتَاً بطَرْيقةٍ غَيْر عَاديةٍ، عَمِيقَةٍ، حَمِيمَةٍ، ثُمَّ تَهَاوَى عَلَى قَدَمَيَّ. وَارتَطَمَتْ حَافَّةُ رَأْسِهِ بعَجَلَةِ القِيادَةِ مَرَّتَيْنِ، وَقَعقَعَتْ نِهَايَةُ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي يُشْبِهُ قَصَبَةً طَويلَةً فِي أَرْجَاءَ الحُجْرَةِ وَسَقَطَ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ المَقْعَدَينِ الصَّغِيرَينِ. بَدَا وَكَأنَه بَعْدَ انْتِزَاعِهِ ذَلِكَ الشَّيْءَ مِنْ شَخْصٍ مَا عَلَى الشَّاطِئ قَدْ فَقَدَ تَوَازُنَهُ بَعْد مَا بَذَلَهُ مِنْ جَهْدٍ. تَبَدَّدَ الدُّخَانُ الوَاهِي، وَأَصْبَحْنَا بَعِيدينِ عَنِ الأَتِيِّ، وَفيما كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى الأَمَامَ، تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَلَى بُعْدِ مِائة يَارِدَة أُخْرَى تَقَرِيباً سَوْفَ أَتَمَكَّنُ مِنْ حَرْفِ الزَّوْرَقِ بَعِيْدَاً عَنِ الضَّفَّةِ، لَكِنْ شَعَرْتُ بِقَدَمَيَّ شَدِيدَتَيِّ الدِّفء، وَرَطْبَتَينِ، فكَانَ عَلَيَّ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى الأَسْفَلِ. كَانَ الرَّجُلُ قَدْ تَدَحّرَجَ عَلَى ظَهْرِهِ وَهُوَ يُحَدِّقُ بِي؛ كِلْتَا يَدَيه أَطْبَقَتَا عَلَى تِلْكَ القَصَبَةِ. كَانَ ذَلِكَ رُمْحَاً . . . نَظَرَ إِلَيَّ بِأَسَىً وَهُوَ يَتَشَبَّثُ بِالرُّمْحِ كَمَا لَوْ كَانَ شَيْئَاً ثَمَيْنَاً، بِسِيْمَاءِ خَوْفٍ مِنْ أَنْ أَنْتَزِعَ الرُّمْحَ مِنْهُ."
يَصِفُ مَارْلُو (كونراد) سقوط رَجُلِ الدَّفَّةِ كَمَا لَوْ كَانَ نتيجة انتزاعه قصبة طويلة (الرمح) من يد شخص مَا عَلَى الضفة، مِّمَّا أدى بِهِ إِلَى فِقدَان توازنه وسقوطه عَلَى أَرضية الزورق نتيجة مَا بذله من جَهْدٍ فِي انتزاعِ القصبةِ. وَلَكِن سقوطه فِي واقعِ الأمرِ كَانَ نتيجة لطعنة نجلاء من رمح سُدِّدَت إليه من ضَّفَةِ النَّهْر.