رؤية في كتاب أحب نورا أكره نورهان لعزة رشاد

نضارة القصة القصيرة

 

لستُ من المؤمنين بتلك القواعد التي يضعها معلمو الأدب للتفرقة بين القصة القصيرة والرواية، سواء من حيث عدد الكلمات (كأن يقولوا إن القصة يجب ألا تتجاوز الثلاثة آلاف كلمة)، أو الزمن اللازم لقراءتها (كأن يقولوا إن القصة يجب أن تُقرأ في جلسة واحدة)، أو ضرورة أن تلتزم القصة ما كانت تلتزمه المسرحية الكلاسيكية من وحدة المكان والزمان والحدث، أو ضرورة أن تكون في القصة شخصية واحدة رئيسة، وبقية الشخصيات تابعة لها، وظيفتها العمل علي توضيح ملامحها، أو ضرورة ألا يتجاوز زمن القصة حياة الفرد الواحد، أو ضرورة أن يكون هذا الفرد من «الجماعة المغمورة»: أبطال القصة بامتياز... إلخ.

آية إخفاق تلك القواعد أن أصحابها لم يجدوها جامعة ولا مانعة، ومن ثم أسرفوا في التقسيم والتصنيف: فثمة «أقصوصة» و«قصة قصيرة»، و«قصة قصيرة - طويلة (نوفيللا أو نوفيليتا، حسب اللغة الأجنبية التي تفضل الرطانة بها!)، و«رواية». هذا من ناحية، من الناحية الأخري فإن المبدعين الكبار قد أطاحوا بتلك القواعد كلها، راجع - من فضلك - أفضل نماذج القصة عند سادتها (تشيكوف، موباسان، آلان بو، أندرسون هيمنجواي، سالنجر، يوسف إدريس، زكريا تامر... إلخ) سوف تجد معظمها متأبيا علي تلك القواعد والأطر.

إن الشكلين متداخلان، متواشجان، وليس غريباً أن تجد في أحدهما بعض سمات الآخر، المعول الوحيد عندي هو نسيج العمل نفسه وطريقة صاحبه في تناوله: هل يكتب «علي اتساع الصفحة» كما يقولون، أم يتوخي الإيجاز والتكثيف والاقتصاد؟ هل يستعين بالتفاصيل الكثيرة في السرد والوصف والحوار لرسم لوحته الكبيرة، أم يتعمد الانتقاء الدقيق، بحيث لا يبقي تفصيل واحد مجانياً، بلا وظيفة يؤديها في السياق؟

قد تطمح الرواية - وطموحها مشروع - إلي تقديم «صورة الحياة كاملة»، لا أقل، أما القصة فقصاراها أن تختار زاوية للنظر، محددة بدقة، تري منها جانباً واحداً من جوانب تلك الحياة، لكنه دال عليها، مُعبِّر عنها، كما يدل الجزء علي الكل ويعبر عنه، وليس ثمة مجال للمفاضلة: رسم الجدارية فن، ونسج المنمنمة فن كذلك.

القصة، إذن، فن هش مراوغ، إنه فن اللحظة، اللقطة، البارقة، ويمكن أن يتخذ موضوعه أي حدث عادي صغير: ورقة الشجرة التي تحملها الريح من مكان لمكان، الأم التي تغالب النوم انتظاراً لعودة وحيدها من سهرته بالخارج، الخادمة التي تحمل الأقفاص علي رأسها، وتُلقي «نظرة» إلي مَن هم في سنها يلهون ويلعبون... إلخ.

كان هذا تقديماً - ربما طال قليلاً - لتلك المجموعة النضرة من القصص القصيرة «أحب نور.. أكره نورهان» للسيدة عزة رشاد. لماذا تحب نورا وتكره نورهان؟ أغلب الظن أنهما فتاة واحدة، تروي عنها خادمتها التي هي في مثل سنها: الوجه الحسن منهما يأخذ اسم نورا والقبيح نورهان، هكذا تبدأ قصتها: «نورا، إنني أعترف الآن بأنني أحبك، ولابد أنك تعرفين، وكيف لا وأنا وأنت نفكر معاً، نخطط معاً، أحلم وتعيشين أحلامي، لكنني أيضاً أكرهك، نعم، أكرهك حين تصبحين نورهان فتنفصلين عني وتتعالين علي..»، وقد حدث هذا منذ وقت بعيد، منذ جاءت إلي هذا البيت تحمل أعوامها القليلة وتتشبث بجلباب أبيها، لكنه ذهب وتركها بين يدي هذه السيدة القاسية المتسلطة وابنتها، التي تتماهي مع أمها حيناً فتصبح نورهان، وترجع لطفولتها حيناً فتعود نورا، وصاحبتنا متحيرة بين الوجهين، لكن الغالب هو الوجه الحسن، ولأن «ثلج الصغار يذوب سريعاً» تتقارب الصغيرتان: «ما أكثر ما كنا نستمتع في غياب أمك بالاستحمام معاً وتَفَقُد أجسادنا الصغيرة في المرآة، وحين أخذت تتفجر تساؤلاتك التي ما كنت تستطيعين أن تبوحي بها لأمك: ما الفرق بين المرأة والرجل؟ وكيف تحبل المرأة بعد الزواج؟.. (..) نعم: ظللنا نكبر معاً، وها نحن الآن نكاد نكون شابتين نتلمس معاً فورة الأنوثة في الأجساد التي تلتف وتتحول نحو النضج..» ولكنني.. سواء ما كانت تري من وجهيها: نورا أو نورهان، فسوف يبقي حنينها دائماً لشيء يعيدها لحياتها الأولي، وتنتهي القصة الجميلة وهي تناشد الوجه الحسن لصاحبتها كي تعينها علي التحرر وللذهاب إلي حيث تريد، إلي عالم يكون عالمها وحدها.

يلفت النظر في هذه القصص أن كثيرين من أبطالها أطفال أو يستعيدون زمن الطفولة، والأب موجودة، بقوة، في عوالمهم، حتي لو هجرهم وتخلي عنهم، في واحدة من القصص تتوجه الفتاة بالحديث إلي أبيها الذي هجرهم مع امرأة أخري: «وحدك تعرف كم احتجتك وكم عانيت في عراك مع ذاتي كي أكف عن انتظارك..»، وثمة فتاة أخري - في القصة التالية مباشرة - تتوجه بحديث أكثر صراحة ووضوحاً إلي أبيها، أو بالأحري إلي صورته: «تفاجئها صورة أبيها علي الجدار المقابل لفراشها، سوف تري عينيه تحدقان بها، نعم، لقد أحبَّته بشدة، ومَقَتَتْه بشدة أيضاً..». ويتجه هذا «التناقض الوجداني - كما يقول أهل علم النفس - فهي تتماهي به من ناحية، وتفسد علاقتها بزوجها، من الناحية الأخري.

وثمة قصتان أود أن أتوقف عندهما لحظة، الأولي عنوانها «رؤية»، والرؤية هنا تعني الرؤية بحكم المحكمة، فحين ينفصل الأبوان، يحكم للطرف الذي لا يعيش معه الأطفال بالتمكين من الرؤية. وهذه القصة النضرة هي مشاعر الفتاة الصغيرة التي تعيش مع أبيها وجدها، وقد تحدد أن تراها الأم بعد ظهر كل سبت في حديقة النادي. ولكن.. هل هذه أمها حقاً؟ لنستمع لما تقوله صاحبتنا الصغيرة بعد أن تحدثنا عن حياتها الدافئة بين أبيها وجدها، وعن ساعات الرؤية الثلاث التي يجلس فيها الأب والأم صامتين، مثل تمثالين من الرخام، وتجد هي عزاءها في صاحبتها «مريم» التي هي من نفس سنها ولها نفس ظروفها، «تلعبان معاً، دون أن تقولا أي شيء، تقريباً..». تقول صاحبتنا الصغيرة: «لا أعرف إن كنت سأحب يوماً تلك المرأة.. (..) ولا أعرف حقيقة صلتها بذلك الطيف الحنون الذي مازال متبقياً منه بذاكرتي نتف ملامح لامرأة لا تشبهها كثيراً، كانت تأتي لتقبلني في فراشي قبيل أن أنام، أو طبيعة ما يربطها بتلك الصورة التي أتذكر بالكاد أن أبي نزعها عن الجدار قبل فترة طويلة..»، هل نحن بحاجة للاستشهاد بتلك القائمة الطويلة من الحكماء، تبدأ بسليمان الحكيم، ولا تنتهي إلي القاضي «أزدك» في دائرة بريخت القوقازية، أم نقول مع من قال: «الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون». أم نتساءل مع صاحبتنا التي تنهي قصتها النضرة بالتساؤل عن تلك العفاريت «التي انتزعت الحب من قلبي» رجل وامرأة وأحالتهما إلي تمثالين من الرخام»؟..

الثانية هي «عالم د. سلمي»: أستاذة جامعية وزوج وأم، لكنها - وبوضوح كامل - تعاني عدم التحقق في أي من أدوارها تلك، وأصبحت لا تجد متعتها إلا في التهام أطباق «الأرز باللبن» حتي أصبحت «بشعة» كما تصف نفسها، وفي بؤرة وعيها واحدة من طالباتها، هي نقيضها الكامل، تفعل كل ما عجزت هي، أستاذتها، عن فعله، هي رشيقة، جريئة، تلقائية، «تأكل ملء فمها، وتضحك ملء وجهها..» كانت تراها تفعل الكثير فيزداد إعجابها بها وحسدها لها، وهي لا تترك استنتاجاً لأحد، فتقول في وضوح نادر: «أتعجب من مخيلتي التي تجعلها تفعل بالضبط كل الأشياء التي تمنيت فعلها ولم أستطع..»، هذه الفتاة الجريئة المنطلقة مهددة بالفصل، والأمر يتوقف علي توقيع الأستاذة، فهل تفعل؟

هل تذكر قصة يوسف إدريس «حالة تلبس» (مجموعة «لغة الآي آي، ١٩٦٥)؟: عميد إحدي الكليات يتابع من نافذة مكتبه طالبة صغيرة تدخن سيجارتها بهدوء واستمتاع، فيشب الصراع في نفس العميد بين أن يوقع بها العقاب الصارم لجرأتها غير المحمودة، وبين أن يعفو عنها، وينتصر إيمانه بالتقليد فيمتد أصبعه إلي جرس مكتبه يستدعي الساعي كي يأتي له بها.. «وبأصبع عادت إليها كل عصبيتها وكأنها تمتد من صدرٍ ضاق بالدنيا ضغط علي زر الجرس، لكن أصبعه لاتزال بها بقية من ارتعاش، ارتعاش ليس الكبر أو الضغط سببه..». لكن قصة عزة تمتاز بشيئين: الأول أنها نسوية تماماً، وتتضح تلك السمة تماماً في حديث الأستاذة إلي حقيبتها: «مسكينة أنت يا حقيبتي..» (ص ٥٧)، لا يمكن أن تصدر هذه الكلمات إلا عن امرأة عصرية. الشيء الثاني هو النهاية التي تنتهي إليها: إن الأستاذة تميل إلي التوحد بالفتاة المحسودة المرغوبة.

ألم أقل لك إنها مجموعة نضرة؟