من إبداعات ورشة الكتابة

نباح

أسكنُ أخيراً في جنتي الموعودة. الحلم تحقق بعد كفاح سنوات، ثم تأخر خمس سنوات عن موعد تسليم الوحدة السكنية التي اخترتها في إحدى ضواحي  العاصمة؛ كومباوند راق وإن تربع في ظهيره حي عشوائي. في الأشهر الأولى من إقامتي كان يتواجد عنصر أمن أمام كل برج برفقة كلب حراسة جيرمن شيبرد –  الراعي الألماني. حجم الواحد منها بحجم جحش صغير تقريباً، وبالإضافة إلى حجمه الهائل يمتلك فكين معتبرين وأسناناً قوية. وعندما يغضب يصبح عنيفاً لدرجة ترهب أي تعيس  تسول له نفسه الاقتراب.

عرضت  الشركة المنفذة للمشروع  طاقم الأمن وكلاب الحراسة ضمن مزايا  ترفع  سعر الوحدات . وتباهى مدير أمن  الكومباوند  بأن هذا النوع من الكلاب مثالي لحراسة التجمعات السكنية ً لولائه لأصحابه، ولطبيعته اللطيفة خاصة مع الأطفال. كان يؤكد أن هذه التوليفة من الأصالة والوداعة واللطف لا تعني أن كلاب الراعي الألماني لا تكون شرسةً عند الضرورة، فهي كلاب عنيفة  ضد الأغراب، ولكنها في غاية الاحساس والوداعة مع سكان  الكومباوند السعيد.

 فات مدير الأمن أن يخبرنا أن هذا النوع من الكلاب عرضة لمرض الفصام إن تُرك وحيدا، حتى ولو لبضع ساعات. والفصام هو مرض شائع يصيب الكلاب عند تغيير مكان معيشتها بشكلٍ مفاجئ والانتقال إلى مكان آخر، وينتج عنه انقلاب  في سلوكيات الكلب: كأن ينبح لفترات طويلة دون أسباب واضحة، حتى إن صوت الكلب المصاب بالفصام يتغير في بعض الأحيان من النباح إلى العويل.. كأنه يبكي.

كنت أراقب حركات كلب الحراسة أمام البرج الذي أسكن فيه. مع الوقت تضاعفت حركته بشكل غير طبيعي..كأنه يلاحق شيئا ما غير موجود. كل ذلك الهياج تصحبه فقرة ممتدة  من النباح. كانت أعراض المرض لعنة لشخص يعاني فوبيا الكلاب مثلي؛ كان نباح كلب الحراسة يربكني ويوتر أعصابي، وكل صباح أصر الراعي الألماني مضطرب السلوك على توديعي بمرافقتي من بوابة البرج إلى باب السيارة، ويستمر في إلقاء تحية النباح إلى أن أهرب  بسيارتي فزعاَ.

֎֎֎֎֎

لعدة أيام بعد  انتقالي لمسكني الجديد  استمر الكلب الألماني يخيفني بنباحه الحزين. لكن في اليوم السادس وفي توقيت عودتي من العمل كنت على موعد مع نوع آخر من النباح. بعد أن انتهيت من صفّ سياراتي أمام البيت، وما إن هممت بالخروج من السيارة، حتى رأيت كلبا بلديا يجري باتجاهي ويتمركز أمام باب السائق مباشرة وينبح بشكل متصل كما لو  وجد صيداً ثميناً أو ألقى القبض على لص متلبس.

كنت قرأت في منشور فيسبوكي مجهول المصدر أن قطمير هو اسم كلب أهل الكهف.  وصفه القرآن الكريم بأنه رقد باسطا ذراعيه أمام الكهف الذي اختبأ فيه الفتية المؤمنون  في أزمنة الكفر.  ورد في المنشور نصيحة تقول: لو اقترب منك كلب هائج وخشيت أن يؤذيك.. حاول أن تنظر في عينيه، واقرأ بهدوء هذا الدعاء الذي سيجعله يخشع وينصرف ويتركك بسلام: "إن أخاك قطمير يقرؤك السلام". هبط ذلك الدعاء إلى ذهني كطوق نجاة. قررت وضع هذه التعويذة السحرية قيد التجربة. نظرت بتركيز في عينيه المرعبتين كما لو كنت أحاول تنويمه مغناطيسياً. أخذت أتمتم: "إن أخاك قطمير يقرؤك السلام".

وما كدت أفعل حتى اشتد غضب الكلب أكثر. هاج وماج. علا نباحه المسعور  فاستدعى رفاقه وإخوانه وجيرانه وأبناء عمومته في العزبة المجاورة، وفي ثوانٍ  كانت جوقة مختلطة من الكلاب البلدي والألماني تحيط بسيارتي التعيسة . لا أعرف حتى الآن لماذا استثارته تلك  الكلمات، وما أزعجه من قطمير لهذا الحد. لكن بعد أن ساعدني رجل الأمن في السيطرة على الكلاب والخروج من السيارة توجهت إلى شقتي، وقد عزمت على أمرين: الأول أن أطلق على هذا الكلب البلدي اسم " قطمير" ؛ والثاني: أن أفتش في منشورات الفيس لأبحث عن "ابن القطمير"  الذي نشر هذه النصيحة المجرمة.

֎֎֎֎֎

تأكدتُ أن الجوع العاطفي كان سبب اضطراب نفسية الكلب الألماني حارس البرج، إذ سرعان ما تحسنت أعراض الفصام بعد أن توثقت عُرى الصداقة بينه وبين قطمير زعيم الكلاب البلدي الوافدة من العزبة العشوائية المجاورة، والفضل طبعا للشركة المنفذة للمشروع، حيث لم تفِ بوعدها بتشييد سور يحيط الكومباوند.  وهكذا استباحت الكلاب الضالة حدائق وساحات الكومبوند وصارت تختال فيها بحرية تامة برفقة كتيبة من سائقي التوكتوك والباعة المتجولين وبائعي أسطوانات الغاز بأصوات طرقاتهم التي توقظ الموتى.

وعلى الرغم من أن كلاب الراعي الألماني تُعد من أرستقراطية الكلاب، إلا أنها  تعيش -مثلنا- في زمن العولمة على سطح الكوكب الذي أصبح قرية صغيرة. ويبدو أنها كانت بفطرتها تؤمن بمبادئ الحرية والمساواة، وتتفهم قيم التعايش الانساني في كل زمان ومكان، فتنازلت عن كبريائها الطبقي وبدأت تندمج بسهولة مع كلاب العزبة الجرباء، ونشأت بينهم صداقة بريئة لا تعرف الطبقية ولا المصلحة، وليس سراً أن الأمر تطور في بعض الأحيان ليتجاوز حدود الصداقة إلى الإعجاب، فالحب، فالزواج. 

֎֎֎֎֎

مع تتابع الأيام توطدت أواصر الألفة أيضا بيني وبين الكلاب. كل صباح كانت تشكيلة من الكلاب جيرمان شيبرد و كلاب العزبة تنبح لتحيتي في سعادة لا مبرر لها. ولاحظت توافقاً نفسياً عجيباً بين الكلاب يندر أن أراه بين البشر، خاصةً سكان هذا الكمبوند الذين يتبارون في مظاهر الغطرسة والتكبر على سبيل فرض الوجاهة الاجتماعية، ويتجاهلون الابتسامة والتحية كطقس من طقوس تدعيم البريستيج. وبينما تتسع دائرة الجفاء والبرودة يوما بعد يوم لتبتلع مزيدا سكان الكومباوند من البشر، كانت دائرة الألفة الدافئة تحتضن الكلاب، وهي تلهو وتمرح سعيدة بالرفقة والصحبة، متجاوزة كل حواجز الأصول العرقية و الجينات والبيئة. كانت تنبح بسعادة طوال الوقت.. نباحاً لطيفاً لا ينم عن غضب أو انزعاج. بدا النُباح احتفالاً بفوزهم بمساواة وأخوة وعدالة اجتماعية انتزعوها من عالم البشر المتفاخر الغارق في السطحية الفارغة و الطبقية الاجتماعية.

            أدركتني عدوى التآخي والمحبة، فتولد بيني وبين قطمير شيء من الألفة. كنت أحدّق به لفترات طويلة دون أن أرتبك أو أقلق عندما يقوم بالنظر إليّ أيضاً، وأصبح عندما يراني يستقبلني بهز جسده بالكامل بداية من أكتافه حتى طرف ذيله المقطوع لأسباب لا يعلمها إلا الله وأشقياء أطفال العزبة التي جاء منها. كان يجلس معظم الوقت فوق سقف سيارتي مستنداً على ذراعيه الأماميتين مثل أبي الهول حارس مقبرة الفرعون،بالرغم من أن الجلوس فوق سقف السيارة ليس أفضل طريقة  لتعبير الكلب عن حب وحماية متعلقات المحبوب، خاصة عندما يخدش طلاءها ويحدث انبعاجات في سقفها أحيانا، لكنها إحدى الطرق التي تعبر بها الكلاب عن الحب؛ فالكلاب التي تحب أصحابها تحب رائحتهم أيضاً.

هنأت نفسي أن أطلقت عليه اسم " قطمير". بصرف النظر عن مصداقية المنشور الفيسبوكي  الذي ذكر أن "قطمير" هو اسم كلب أصحاب الكهف؛ فقد وصفه القرآن الكريم بأنه كان يرقد باسطاً ذراعيه أمام الكهف تماماً كما يرقد كلب العزبة هذا على سطح سيارتي.
֎֎֎֎֎

هذا الصباح، وأنا في طريقي للعمل، لاحظت اختفاء عنصر الأمن في مدخل البرج. اختفى أيضاً مكتب الاستعلامات وكشك جمع القمامة. اختفت فجأة كلاب الجيرمن شيبرد كلها، ولم يبق سوى كلاب العزبة التي لم تنبح وتركض بسعادة كعادتها. كانت تجلس مثل قطمير باسطة ذراعيها كتماثيل حزينة نصبت فوق حشائش أحواض الحديقة. بدت صامتة منكسرة بعد أن قررت شركة تنفيذ المشروع المحتالة سحب أفراد الأمن وكلاب الحراسة وفسخ عقد شركة النظافة.

بعد أن أدت مهمتها في جذب أكبر عدد من الضحايا، وحُجزت جميع الوحدات السكنية بالمشروع، استغنت إدارة الشركة عن خدمات كلاب الحراسة الألمانية، واستبدلت بعنصر الأمن ببزته سماوية اللون الأنيقة. عم صبحي البواب الأسمر بعِمته البيضاء، وجلبابه الصعيدي الفضفاض الذي يخفي تفاصيل جسمه النحيل، وتقاسيم الشقاء المرسومة بين تجاعيد وجهه، ويده الغليظة التي يضعها دوماً على ظهره الذي يؤلمه.

֎֎֎֎֎

أخذت أراقب قطمير عبر زجاج سيارتي. يتجول حول البرج بحثاً عن صديقه الألماني. يفيض الوفاء في لمعة عينيه وحُرقة أنفاسه اللاهثة. لا يحق لي أن أتعجب، فالصداقة في عُرف الكلاب تشبه التعهد بعقد ممضي ومختوم ومسجل بالشهر العقاري.. لا يمكن الإفلات منه. على الفور جلبت كلمتي " التعهد" و " العقد" إلى ذاكرتي. الإعلان التلفزيوني للشركة المنفذة للمشروع: لحن الأغنية الحماسية التي تسرد للزبائن المحتملين؛ قائمة المواصفات عالية الجودة؛ الخدمات الفندقية التي سيجدها المُلاك الجدد داخل جنة الكمبوند الموعودة..

مددتُ يدي إلى تابلوه السيارة أسحب منديلاً من علبة المناديل فيقفز بوجهي منديل آخر. كل كلمة تقفز إلى ذاكرتي تجر بعدها كلمة أخرى. "وفاء" اسم اختي الصغرى. ضحكت عندما تذكرت يوما  عادت فيه من مدرستها الابتدائية تجتاحها ثورة عارمة. ألقت  بحقيبتها المدرسية وطلبت من والدي أن يغير اسمها.. لأن موضوع حصة المطالعة كان  "وفاء الكلب"،والعنوان بمثابة مَسبة مُقنّعة.. وطبعا  نالها ما يكفي من ضحك وتندر زميلاتها.

֎֎֎֎֎

قررت الاستفادة من بركات الحاج جوجل . فتحت تطبيق الخرائط الذي حدد موقعي بدقة عالية باستخدام نظام تحديد المواقع العالمي GPS، وفي خانة الوجهة كتبت اسم الشركة اللعينة. ظهر موقع الإدارة على الخريطة مُذيلاً بصور داخلية وخارجية للمبنى الإداري الأنيق، وفي صورة جانبية ظهر مالك المشروع في صورة مع عدد من كبار موظفي الشركة.

عندما رفعت عيني عن شاشة هاتفي المحمول وقعت عيني على عم صبحي بواب عمارتنا الجديد. الرجل منهمك في تهيئة غرفته بالطابق الأرضي والمفترض أنها مخصصة لشاشات كاميرات المراقبة. كان قطمير أمام مدخل البرج في البقعة التي كان يقف بها صديقه الألماني كلب الحراسة الراحل، وقد أرخى ذراعيه متخلياً عن وضعية أبي الهول.؛ مال  برأسه وأطلق نباحاً  حزيناً منكسراً يتناغم مع شعوري بعار الوقوع في فخ الخديعة. كنت في داخلي أنبح نباحاً خفيفاً.

نظر إليّ  في حزن قبل أن أدير محرك السيارة. قفز إلي سريعاً ففتحت الزجاج. مددت يدي مطمئنا - أنا المتعافي حديثاً من فوبيا الكلاب-  ربتت على ظهره.. محاولاً أن أواسيه بما أواسي به نفسي.

سحبت قدراً لا بأس به من الهواء قبل أن أزفر زفرة طويلة تقترب من " أوووف" متنكرة. رفعت زجاج النافذة عن يساري لأنطلق حيث يقودني الــ GPS. لكن قطمير لم يهدأ. شرع في النباح بصوت قوي وصلني بوضوح من خلف الزجاج. ثم هدأ قليلاً وأخذ يرنو إليّ بعيون تكاد تنطق بلغة البشر.أجيبه فيما يشبه النباح البشري:

" هوّن عليك يا صديقي.. تبقى الجريمة عار مرتكبها لا ضحيتها".