ثروتها الوحيدة كتب مستعملة
كتب معروضة في الحدائق والطرق والساحات بدون رقيب .
ما الذي يمكن فعله من أجل احياء مدينة صغيرة ، تجاوزتها حركة بقية البلاد الاقتصادية والثقافية والعمرانية وتعاني الفقر والبطالة ، مدينة ليس لديها متسع من الارض لتزرع ، وليس فيها مصانع ومعامل توازي جاراتها ، ولا راس مال كاف لتاسيس بنى تحتية ضرورية للتطور ، وبمعنى اخر ، مدينة لا تنتج ما يجعل منها مزاحما حقيقيا للمدن الاخرى في سوق العمل والتجارة الشرسة ، وليس لديها الكثير لتمنحه مع عدد سكان قليل ، جله من كبار السن حيث يمضي الشباب للبحث عن اسباب العمل والحياة في اماكن اخرى .
هكذا كانت حال مدينة ( هي اون واي) Hay-on –Wye النائية ، ( "هَيْ" على نهر "واي" ) في مقاطعة ( ويلز ) البريطانية حتى سنة 1961 التي هي اقرب الى قرية منها الى مدينة ، حيث لكل مهنة فيها دكان صغير : فرن واحد ، حلاق واحد وبقال واحد ، وذلك عندما بدأ ( ريتشارد بوث) احد سكان المدينة المولع بقراءة الكتب يفكر في كيفية مساعدة سكان مدينته ، والبحث في افضل خيار لها لكي تتطور وتعيش في المستقبل . وتوصل بعد بحث طويل الى ان افضل طريقة هي ان تتحول الى مدينة من طراز خاص، لها هوية مختلفة ، لا تشبه بقية المدن ، يعيش فيها الناس ويزورونها لسبب اخر .
ولانه يعشق الكتاب فلم يخطر بباله ان يجعل مدينته مركزا لرياضة غريبة او مدينة للملاهي او القمار ، أو اي شيء له علاقة بالتسلية الرخيصة ، كما حدث في اماكن اخرى ، بل تصور الحل في الكتب . ولان المدينة بامكاناتها القليلة لا تستطيع ان تقف في موازاة دور النشر العريقة ، وكارتلات الكتاب المهيمنة بقوة على السوق ، فقد فكر في الكتب الاخرى ،الكتب المستعملة والقديمة تحديدا ، تلك التي لا يطالبه احد بحقوقها ولا يوازيه احد في الاتجار بها .
لم ير اصدقاء ريتشارد افقا لتحقيق افكاره العجيبة ، واعتقدوا انها من بعض شطحاته الكثيرة ، ولم يصدقه احد من عائلته . الكل عزا الامر الى حبه الكبير للكتب وغرامه بها ، غير ان خيال ريتشارد واصراره استطاعا تحويل المدينة المعزولة الى اكبر سوق للكتب المستعملة في العالم ، وهي اليوم مزار هواة الكتب القيمة والنادرة والقراء والسائحين على السواء ، ومن بين اكثر مدن الجزر البريطانية رخاء وجمالا، حيث انفتحت امامها افاق جديدة لم تكن في بال حالمها الاول.
يقول احد باعة الكتب : ( لم تعد الكتب القديمة هي كل ما يريده زوار المدينة ، حيث تعدى الامر الان فكرة البحث عن كتاب مستعمل ، الى اغراء السير في طرقات المدينة التي تتحول يوما بعد يوم الى مثال نادر يشبه الاسطورة) .
تقع مدينة ( هَيْ ) في مكان خلّاب هو من اجمل بقاع الريف البريطاني ، على الحدود بين ويلز وانكلترا ، على الضفة الجنوبية لنهر ( واي ) ، تحدها من الشمال عبر النهر تلال خضراء ، ومن الغرب والجنوب مرتفعات ( الجبال السوداء )، ومن الشرق ( الوادي الذهبي ) ، وكلمة ( هَيْ ) ماخوذة من الكلمة النورماندية التي تعني الارض المحاطة بسياج، وفي اللغة الويلزية ، البستان.
كانت المدينة ايام الاحتلال النورماندي في القرن الحادي عشر مقسمة بين الويلزيين والانكليز، حيث المدينة انكليزية والريف ويلزي ، ولا تزال اثار الاحتلال النورماندي ظاهرة في شواخص عديدة ، اهمها بوابة القلعة التي تشرف على الشوارع الضيقة داخل المدينة والدروب المؤدية اليها.
يتداول الويلزيون حكايات كثيرة عن القلعة التي بنيت العام 1200 ميلادية ، ومنها ان القلعة هدمت بعد بنائها بقليل ، لكن زوجة اللورد النورماندي ( وليم ديريوس) مهندس وباني القلعة ، اعادت بنائها كلها في ليلة واحدة ، واستعملت من اجل ذلك مريولها الخارق القدرة في حمل ونقل الحجارة . لكن اللورد ديريوس وزوجته ( مود) سرعان ما اختلفا مع الملك الانكليزي ( جون ) ، فانتقم منهما العام 1211 بان حكم على مود وابنها البكر بالموت جوعا ، وحبسهما من اجل ذلك في غرفة صغيرة من غرف القلعة ، وبنى لها جدارا من الحجارة بدلا عن الباب حتى اهلكهما ، فلم يحتمل الزوج الحزين البقاء في المدينة التي قتلت فيها زوجته وابنه ، فهاجر الى فرنسا ومات فقيرا مشردا في النورماندي العام 1213 م ، وتعرضت القلعة بعد ذلك وعلى مدى 800 عام الى الاحتلالات المتعاقبة والهدم واعادة البناء.
في الطريق الى مدينة الكتب لا بد من المرور ببحيرة ( خلانغورس) وهي اكبر بحيرة في جنوب ويلز ، ومثل اشياء كثيرة هناك لا بد لها من حكاية، فالويلزيون مولعون بالحكايات والاساطير ولديهم كتب كثيرة عنها، ولا شيء عندهم وجد كما هو ، اذ لا بد من سبب له وبداية ، ولابد لتلك البداية من ان تكون قصة ، وهي في الغالب من نسج الخيال .
تقول القصة ( اسطورة ) البحيرة ، ان فتاة ذات جمال لا يضاهى ظهرت من خلال الامواج البعيدة في البحيرة المحاطة بالجبال ، امام شاب يرعى ماشيته فوقع في غرامها في الحال وعرض عليها ان تتزوجه فقبلت ، بشرط ان تتركه اذا ضربها ثلاث مرات ، فوافق على ذلك عن طيب خاطر ، واثقا من طبعه المسالم وشخصيته السمحة ، فقررت ان تهديه قطيعا من الماشية هدية للعرس ، فكانت تغطس الى عمق البحيرة وتخرجها خمسا خمسا ، ولما اكتمل العدد خرجت اليه وعاشت معه في سعادة واصبح لهما ثلاثة اولاد.
وفي يوم وجد الرجل خروفا صغيرا في الحقل لم تجلبه زوجته للحظيرة ، فربت على كتفها مذكرا اياها لكنها حسبتها ضربة ، وفي اليوم التالي حضرا حفل زواج في القرية فلم تتمالك الزوجة دموعها وبكت وسط استغراب الجميع ، فانحنى زوجها يسألها عن سبب بكائها ولامس في انحنائته كتفها ، فقالت انها تبكي (لان الزوجين الجديدين سيبدآن حياة تعيسة مثلما بدات مشاكلك معي وانت تضربني للمرة الثانية ) ، وبعد سنوات شارك الزوجان في تشييع جنازة ، ووسط دموع الاخرين واحزانهم ضحكت الزوجة بسعادة فاجأت الجميع ، فامسك زوجها كتفها ليسألها مستغربا عن السبب ، فقالت انني سعيدة لان الميت تخلص من شقاء حياته ، ثم خاطبت زوجها قائلة ان الضربة الثالثة كانت تعني نهاية حياتنا معا ، ولما عادا الى البيت جمعت حيواناتها وغطست معها في البحيرة ولم يظهر لها اثر بعد ذلك .
ربما بدات تتشكل الان في اذهان الويلزيين وفي مخيلتهم الشعبية ، ملامح اسطورة جديدة ستظهر بعد سنوات عن مدينة الكتب المستعملة ، خصوصا ان فيها كتبا لا تحصى عن الملاحم والاساطير والخرافات .
وانت تتجول في ازقة المدينة الضيقة وحدائقها وساحتها العامة تشاهد كتبا في كل مكان: مكتبات مسقوفة ، رفوف في الهواء الطلق ، في الساحات والحدائق وافنية البيوت الخلفية ، وليس هناك من يراقب او يجلس منتظرا ثمن الكتاب الرخيص عادة، فامر الدفع متروك للزبون ، ونادرا ما تجد ورقة معلقة على صندوق صغير تقول ( لا تنس الدفع رجاء ) ، ويوجد في المدينة بطبيعة الحال ، مرافق ودوائر ومؤسسات لتسيير حياة الناس ، كدائرة الصحة والبلدية والشرطة وغيرها ، لكن نشاطها الرئيسي يتمحور حول تجارتها الاهم : الكتب المستعملة.
لا احد يعرف بالضبط كم كتاب تحوي مكتبات المدينة الكبيرة الاثنان والعشرون ، سوى ان في مكتبة ريتشارد بوث وحدها اكثر من اربعمائة الف كتاب تشمل شتى الموضوعات ، من الفلسفة والمسرح والموسيقى الى تربية الاسماك والطبخ ، مع ان هناك مكتبات متخصصة في موضوع معين ، مثل مكتبة الشعر ، ومكتبة مطبوعات دار ( بنغوين ) ، ومكتبة الرواية الكلاسيكية ومكتبة الاطفال ، وتختص اصغر المكتبات بعالم النحل وطرق تربيته وعاداته وامراضه ، مثلما توجد مكتبة لكتب التاريخ واخرى للجغرافيا وحتى الفوازير .
من بين المكتبات الكبيرة مكتبة السينما ، وهي دار سينما قديمة واسعة ، لازالت اثار صور نجوم الافلام التي كانت تعرض هناك باقية في ملصقات جدرانها وسقفها ، تم توسيع السينما وتحويلها الى مكتبة هائلة بربع مليون كتاب ، وذلك بعد ان تردت احوال المدينة وقل عدد سكانها ولم تعد بحاجة الى دار سينما كبيرة ، فحلَت رفوف الكتب اللانهائية محل المقاعد وصار المرء يحتاج الى دليل للوصول الى هدفه في متاهة الرفوف والخزائن والمناضد . يقول امينها انها تحوي انواعا لا حصر لها من الكتب ، وبينها ما هو صالح فقط لان يوضع خلف العتبة لابقاء الباب مفتوحا، وبينها الثمين من المجلدات التي فيها مجموعة ( فرانسيس ادوارد ) مثلا ، الذي كان متخصصا في الكتب الاثرية النادرة منذ العام 1855.
بينما كنت اغادر المكتبة – السينما وقف امينها مبتسما بحيرة كمن فوجئ بامر لم يفكر فيه طيلة حياته وانا اسأله مشاكسا : اين تقع المكتبة العامة رجاءا؟
* بعض الصور من تصويري ( يوسف الناصر ) .
* هناك كتب مجانية وتوجد ملاحظات عن كيفية الدفع لبقية الكتب المعروضة في اماكن مفتوحة ، مثل ، ادفع ما تشاء ، او ، ضع النقود في فتحة بريد البيت المجاور او لصاحبة البار القريب .