بقلم محمد خير المصدر : جريدة الأخبار حول مقابلة الدكتورة برنس مع منى الشاذلي في برنامج جملة مفيدة
«لقد خالفت الدكتورة منى قراراً جامعياً بعدم التحدث أثناء المحاضرات في الدين أو الجنس أو السياسة». الاتصال الهاتفي لم يكن مع أحد المسؤولين الجامعيين. كان اتصالاً مع الطالبة غادة، التي نظّمت احتجاجاً للمطالبة بطرد منى برنس، أستاذة الأدب الإنكليزي في « جامعة السويس » من عملها بحجة «ازدراء الدين الإسلامي». الاتصال مع غادة ربما كان أبرز ما حصل في حلقة برنامج «جملة مفيدة» الذي تقدمه منى الشاذلي على «إم. بي. سي. مصر» والذي استضاف برنس لمناقشة الوقفة الاحتجاجية التي نظمها بعض طلبتها، والشكوى التي قدمها 41 منهم ــ حسب تصريحات مدير الجامعة ــ لطرد الدكتورة أو منعها من التدريس، لأنها «تستهزئ بالإسلام» أو «تناقش موضوعات لا يجوز مناقشتها في المحاضرات».
أحد تلك الموضوعات المحظورة كان مقالاً أجنبياً يناقش تصاعد ظاهرة التحرش الجنسي في مصر ما بعد الثورة. قالت الطالبة غادة إنّ «الألفاظ التي تضمنها المقال غير لائقة». بالطبع، بل من البديهي أنّ «الألفاظ غير اللائقة» هي أقل ما يمكن أن يتضمنه مقال عن ظاهرة «غير لائقة» كالتحرش، لكن الطالبة ــ والطلبة الذين تمثلهم ــ هم أبناء مجتمعات لا تزعجها الظواهر بقدر انزعاجهم من وصف تلك الظواهر، مجتمعات طالما حاكمت وصادرت أعمال فنانين وكتّاب بحجج من قبيل «تشويه سمعة مصر» أو «تكدير السلم العام»، كأن تلك الأفلام أو الكتب هي التي تشوّه، لا القضايا المتحققة في الواقع. في اتصالها بالبرنامج، حرصت غادة على نفي انتمائها لأي جماعة دينية، «أنا لست من الإخوان أو السلفيين»، وربما من دون أن تنتبه إلى أن ذلك يضخم المشكلة ولا يقلّصها، فالأهم والأخطر من النفوذ التنظيمي لتلك الجماعات هنا وهناك، هو نفوذ أفكارها في عقول الناس، في الطلبة الذين احتجوا على مجرد طرح بعض الأفكار للنقاش في الجامعات، الذين صدمهم توجيه أستاذتهم بعض النقد لرجال الدين «والمشايخ»، الذين أزعجهم أن يسمعوا كلاماً من قبيل «المسلمون ليسوا أفضل من غيرهم» أو «الاضطهاد الطائفي في مصر». هم طلاب نشأوا في ظل تعليم حكومي يمنع التفكير والجدل والاستنتاج، ويحضّ على الحفظ والتلقين والتكرار، فمصر «طقسها معتدل طوال العام» و«يعيش مسلموها ومسيحيوها في وئام وسلام على مر السنين»… تعليم لم تراقبه مؤسسات تربوية بقدر ما راقبته جهات أمنية، ولا يمكن المعلم أن يخرج عن «المنهج الدراسي» الذي قد لا يتغير لعشرات السنين، وإن تغيّر فلتكريس مزيد من التصورات التي لا علاقة لها بالحقائق. يتفاعل ذلك النمط من التعليم التلقيني والمصطنع، مع أفكار التأسلم التي تقسّم العالم إلى فسطاطين وتسجن حاملها في فكر المؤامرة، فيكون الناتج طلاباً يتصورون في أستاذتهم إحدى جنديات «المؤامرة على الإسلام». يمكن ملاحظة ذلك حتى في عنوان الـ«إيفينت» الذي وضعه الطلبة على فايسبوك، ووصفوا فيه برنس بأنها «تسيء «لديننا» الإسلام». كلمة «ديننا» تُخرج برنس من دائرة الإسلام نفسها، وتضعها في فسطاط الآخرين، فسطاط الكفر والمؤامرة، عَلَم «القاعدة» الشهير يزيّن صفحة الـ «إيفينت»، شعارات «نصرة الإسلام» تملأ الصفحة لتتوعد «أعداء الدين» كالأستاذة وأصدقائها، ويحرص الطلاب ــ وتحرص غادة في اتصالها ــ على إعلان بياناتهم الشخصية، تأكيداً لكونهم «لا يخشون أحداً في سبيل نصرة الدين». معركة وهمية هائلة وأعداء متخيّلون ومؤامرة مفترضة، فجّرتها مجرد مناقشة بعض الأفكار في قاعة المحاضرات، كأن ثمة دوراً آخر للتعليم سوى طرح الأفكار وإثارة الأسئلة ودفع العقول لممارسة عملها. لكن يمكن أيضاً النظر إلى ما تعرضت له برنس في سياق أكبر، فالأستاذة التي أوقفت العام الماضي عن عملها بحجة أنها «من بتوع التحرير»، تتعرض اليوم لتهمة «ازدراء الإسلام». وبقليل من التأمل، يسهل ملاحظة أنّ ذلك هو ما تتعرض له الثورة نفسها.