شوقي نجم عن(النهار) بيروت 2007-06-11
يعتبر الموسيقي محمد القصبجي (1892 - 1966) ظاهرة فريدة في الموسيقى العربية، فقد كان صاحب مدرسة مجددة، استحدثت ثورة في عالم النغم. استطاع بألحانه نقل الغناء من "الطرب الخالص" الى "الطرب المعبر". وكان رائدا ومبدعا، تسابق عليه نجوم الغناء والشعر في عصره، وترك تراثا فنيا لا يزال مؤثراً في تشكيل الثقافة العربية. مع ذلك لم يأخذ حقه من الاهتمام في حياته أو بعد رحيله، على ما تقول المؤلفة المصرية رتيبة الحفني في كتابها "محمد القصبجي الموسيقي العاشق" (دار الشروق، القاهرة) الذي تتناول من خلاله سيرة هذا الفنان غير الاجتماعي وعلاقته بكبار الشعراء وملحني عصره، والمغنيات، من مثل منيرة المهدية وأم كلثوم واسمهان وليلى مراد. ترجع الحفني ما تراه تجاهلا للقصبجي إلى أسباب عدة منها شخصيته، إذ لم يكن اجتماعيا بل كان يميل إلى العزلة إضافة إلى عدم تمتعه بصوت جميل مثل زملائه الذين مارسوا الغناء والتلحين فزادت شهرتهم كمطربين أيضا، ومنهم سيد درويش ورياض السنباطي وزكريا أحمد.
الطربوش
حياة القصبجي اشبه برواية او فيلم سينمائي يضج بالمعاني ويعبر عن واقع مرحلة وشخصية فريدة في سلوكيتها. كانت والدة القصبجي تتمناه افنديا أنيقاً، يختال بين الشباب بالبدلة والطربوش، ويجيد اللغتين الانكليزية والفرنسية، اما والده علي إبراهيم القصبجي كان منشدا دينيا وقارئا للقرآن وعازفا على العود ويجيد كتابة النوتة الموسيقية، كما لحن بعض الأغاني لمطربين منهم عبده الحامولي وصالح عبد الحي ويوسف المنيلاوي، لكنه أراد إبعاد ابنه محمد عن عالم الموسيقى فاختار له تعليما دينيا ثم الحقه بمدرسة المعلمين حيث تأكد له أن الموسيقى اختياره وأنه يلقى استحسانا على أدائه، فشجعه وأهدى اليه عودا وعلّمه أصول التلحين عزفا وكتابة. عارض والده تفرغه للفن وسعى الى أن يعمل مدرّسا، لكن القصبجي ادعى خلال الكشف الطبي أنه لا يرى بوضوح، فرسب واستبعد. علم أبوه بحيلته فاتفق مع المسؤولين على إعادة الكشف الطبي حيث فشلت حيلته في ادعاء ضعف البصر، فعهد إليه عام 1915 تدريس اللغة العربية والحساب والجغرافيا والتاريخ. وجد القصبجي صيغة توفيقية، فكان في الصباح مدرّسا يرتدي الجبة والقفطان ويستبدل بهما البدلة والطربوش ليلا ليتفرغ لحياته الفنية، وظل كذلك حتى استقال عام 1917 وتفرغ للموسيقى. عرف القصبجي بشقاوته وعلاقته العنيفة مع ابناء حارته، في الحي الذي سكن فيه، وفي شبابه انفصل عن السكن مع اسرته، واستأجر مسكنا صغيرا، في "حارة الكلاب" الفقيرة، المتفرعة عن شارع محمد علي، وكان لهذا الشارع شهرة كبيرة، اذ يسكنه اكبر عدد من الفنانين والعوالم، وصاحبات الاسماء الغريبة مثل "نعيمة شخلع" و"زوبة الكمسارية" و"انوس المصرية"، ومنه خرج ألمع فناني مصر، بينهم صالح عبد الحي، محمد حلمي، شكوكو، عمر حمزاوي، شفيق جلال، وعبد الحليم حافظ، الى جانب عدد من الممثلين والممثلات بينهم امينة رزق. اقتصر عمل القصبجي في تلك الايام على عزف العود ضمن تخت "العوالم" (بنات الهوى)، كلما طلب منه ذلك في الافراح والليالي. وكانت "عوالم" شارع محمد علي اكثر مغنيات ذلك العصر عملا ورزقا، فكانت الواحدة منهن تغني وترقص، لأن الرقص والغناء كانا متلازمين. من اللافت ان نقرأ عن "عوالم" هاتيك الايام، ففي ذلك شيء من السحر والحكاية، وخصوصا انها حكاية الجسد والموسيقى، اذا يشكلان ليلة من ليالي "الف ليلة وليلة".
يا طيور
تعتبر رتيبة الحفني أن القصبجي مدرسة موسيقية جديدة سابقة لعصرها، مشيرة إلى أنه رغم غيرته على الموسيقى الشرقية العربية وعلمه بنظريات الموسيقى، تأثر بألوان الموسيقى الغربية، موضحةً أن ألحان القصبجي خصوصا في أغانيه الأولى لأم كلثوم وبعض أغاني أسمهان لم تكن اقتباسا من الموسيقى الغربية "كما فعل غيره من الملحنين وإنما استعان فقط بنظرياتها وتقنياتها التي بنى عليها الكثير من الجمل الموسيقية في أغانيه". الى ذلك، لمع صوت اسمهان مع موسيقى القصبجي، الذي استطاع بذكائه ومعرفته، وضع هذه الفنانة في المكانة اللائقة بها. كان متفهما لإمكاناتها الصوتية، فلحّن لها ما تماشى مع لون صوتها. تتوقف المؤلفة أمام ميلاد لحن أغنية "الطيور" الذي وضعه لأسمهان، وفي هذه الاغنية جعل القصبجي صوت المطربة يظهر من خلال العرض الصوتي في قسم الاهات الذي اختتم به الاغنية، بإمكانات لم تكن مألوفة في الغناء العربي من قبل. بدأ الاغنية بمقدمة موسيقية تعبّر عن تحرك اسراب الطيور في اشكالها المختلفة، مستعينا بالسلّم "الكروماتي" صعودا، ما يعطي الايحاء بصعود الطيور الى اعلى الفضاء، مع زيادة في السرعة. ثم أدخل ايقاعا جديدا على المقدمة يوحي بحركة اجنحة الطيور، وفي ختام المقدمة مهّد اللحن للغناء بإعطاء المستمع إحساساً بأن الطيور تحطّ على الاشجار. تبدأ الاغنية بعبارة "يا طيور"، بالمد وبحرف الواو، ترافقها لازمة موسيقية تتميز بالضغوط القوية على كل نغمة، توحي برد فعل الطيور للنداء. وتتوالى المقاطع الغنائية، وفيها نلاحظ تغيير القصبجي للموازين الموسيقية والايقاعات، عبر الانتقال بين المقامات، ليصوّر اطوار الطيور في فرحها وحبها وعذابها، ، مترجما معاني الكلمات، لتختتم اسمهان الاغنية بمحاكاة بين صوتها وآلة الكمان التي تعبر عن صوت الطير.... تأثر كثير من الملحنين بألحان القصبجي، من محمد عبد الوهاب الذي تعلم العزف وأسرار الموسيقى على يديه مرورا بالسنباطي "في ألحانه الأولى" وصولا إلى محمد الموجي الذي لحّن "نشيد الجلاء" لأم كلثوم عام 1954 ووصفه عبد الوهاب بأنه "لحن قصبجي طراز 1954". وتعتبر الحفني لقاء القصبجي وأم كلثوم بداية التجديد في الغناء العربي، إذ كان قبل ذلك عازفا ماهرا على آلة العود، ومع "ظهور هذا الصوت الفريد تغيّر مسار القصبجي الفني حيث تفرغ له فأجاد وأبدع". ويرجح ان تكون عدم شهرة القصبجي كملحن في بداياته، أدت إلى فشله في أن يقنع بألحانه مطربات تلك الفترة، مثل منيرة المهدية وتوحيدة، وهي اللبنانية لطيفة إلياس فخر التي غنّت له عام 1917 "الحب له في الناس أحكام" من مقام الزنجران، "ويعتبر القصبجي أول من استخدم هذا المقام. فسيد درويش لم يلحن "في شرع مين" من مقام الزنجران إلا بعدما استرعى انتباهه الدور الذي تغنت به توحيدة ولحنّه القصبجي". وبعده لمع اسم القصبجي ملحنا.
الاسفاف الجميل
جارى القصبجي تياراً سادت فيه "الأغاني الشديدة الإسفاف والركاكة" حيث لحّن من تأليف محمد يونس القاضي وغناء أشهر المطربات منيرة المهدية الملقبة بـ"سلطانة الطرب" أغاني، منها "بعد العشا يحلى الهزار والفرفشة. انس اللي فات وتعال بات ليلة التلات"، و"والله زمان يا دلعي ما شفنا ليلة زي دي"، لكنه اتخذ طريقا آخر منذ لحّن لأم كلثوم مونولوغ "إن كنت أسامح" الذي بيع منه عام 1928 مليون نسخة حيث كان اللحن منعطفا تاريخيا ونقلة في التعبير عن المضمون، كما "غيّر وجه الأغنية والغناء عموما"، حتى أن الملحن داود حسني قال "لا يجوز أن يلحن مونولوغ ومحمد القصبجي موجود". أقنع القصبجي أم كلثوم بالانتقال من الإنشاد إلى الغناء بمصاحبة تخت، وأسس لها أول فرقة موسيقية ولم يفارقها منذ حفلتها الأولى عام 1926 حتى وفاته بعد أربعين عاما، مشيرة إلى فضله في تخليصها من الذبذبات الصوتية في أعمالها الأولى، "وكانت تحول دون تحديد النغمات الثابتة". وكانت أغنية "رق الحبيب" 1944 آخر ألحان القصبجي لها حيث رفضت غناء أي لحن له. وتفسر الحفني رفض أم كلثوم في ضوء "رواسب قديمة تتعلق باهتمام القصبجي بصوت المطربة أسمهان التي كانت تعتبر منافسة لأم كلثوم في فترة ما والتي خصها بالكثير من ألحانه. واعتبرت أم كلثوم ابتعاد القصبجي عنها خلال هذه الفترة إهمالا وعدم اكثراث بمستقبلها. فقد كانت أسمهان سيدة جميلة جذابة محبوبة لدى الجميع تتمتع بصوت دافئ ومتمكن... وكان الملحنون يدركون موقف أم كلثوم من صوت أسمهان لذا أخذوا في الإقلال من التلحين لها عدا القصبجي. اهتم بانتشار هذا الصوت فمدّه بروائعه"، حيث كان ثاني مكتشف لصوتها والملحن الثاني لها بعد فريد الأطرش. في تلك الفترة، قدّم أعمالا كثيرة لنور الهدى وصباح ورجاء عبده وسعاد محمد وهدى سلطان حيث لحّن 91 أغنية سينمائية في 38 فيلما، منها "أنا اللي أستاهل" و"امتى حتعرف امتى" لأسمهان و"يا صباح الخير يا للي معانا" لأم كلثوم و"نعيما يا حبيبي" و"بتبص لي كده ليه" و"قلبي دليلي" و"اضحك كركر" و"انت سعيدة" لليلى مراد. تبدي رتيبة الحفني دهشتها من نهاية القصبجي كمجرد عازف وقبوله "هذا الوضع غير اللائق... صعد هذا الملحن الكبير من قمة النجاح والشهرة ثم تدحرج إلى السفح وعجز عن الصعود فخسر فن الغناء العربي عشرين عاما على الأقل كان القصبجي قادرا على أن يملأها بالإنتاج الغزير".
كتاب "محمد القصبجي الموسيقي العاشق"، وإن كتب على نحو سريع، يتضمن حصراً علمياً لجميع اعمال القصبجي الموسيقية الغنائية الغزيرة، مع التعريف بأعماله الفنية واثرها في الموسيقى العربية.