ضاق الناي عن الريح
فلم يعد ينوح
شجناً ولحنا
صار خنجراً
أوغل في الأرض لثماً وطعنا
واحداً، ومثني،
وثلاثٍ، هو والريح والأرض
ثالوثٌ من القبس المقدس
كأن الناي بلد
كأن الأرض جسد
كأن الريح روح
ثالوثٌ جاء منا
داخلاً آمنا
دار بنا زمنا
يبوح ولا يبوح
بالسحر والشعر، موحياً
لغةً ومعني
بحروفٍ من ورودٍ وحراب
فأهاج مهجاً في القري
وأضاء مدنا
في الهضاب
وهدم علي سكانها مدنا
خذل الناي الريح
وخذل الريح الناي
وخذلت الإثنين
وانقسمت نصفين
أطعن النفس طعنا
منتصراً منهزماً
أتصبب نشوةً وحزنا
وتولاني إله الحب الحرب
أطعمنني مأكلاً مراً
والماء والسراب
وأسكنني التيه مسكنا
بكيت، وشكرت
وشكوت له العذاب والخراب
فتعالي في عليائه
وتدنَّي
كنت عاشقاً، أعشق وطنا
أحبني فترةً، ثم صار مدمنا
يرقص في الموالد، يستجيب
لباعة البخار والحجاب
ويضن بالحليب
علي الرضيع منا
باع بِالْمَاءِ دَمِي، وَتَمَنَّي
أَنْ يُقَبِّلنِي، فَكَبَّلَنِي
وصار سَجَّانَا.. وَسِجْنَا
تحشرج الهواء في الناي
صارت الريح حجراً
وصار الناي وطنا
لم يعد لي فيه كثيرٌ ولا قليل
سوي الأغاني
وطنٌ رآني، وأنكر أنه رآني
لا هذه مصر التي في خاطري
ولا النهر هذا هو النيل
فسيان البقاء أو الرحيل
رآني، تظاهر أنه لا يرآني
منشغلاً عني
بتلاوة القرآن والإنجيل
كأن الحرف هو الحق
كأن الموت حياة
والقبر بلد
مت فيه ومات فيا
وكتاب موتانا وصايا ودليل
علي من مات وهو يرزق حيا
وطنٌ رآني، وأنكر أنه رآني
سألته كيف سد أذناً وعينا
عن بكاء الورد، والورد جسد
وكيف أغمد سيفه المسلول
في القلب نقيا
وفي ليل الوداع بادر بالعويل
كقاتلٍ يبكي علي القتيل
كم مرةً علي القتيل أن يقتل
راضياً مرضيا
لَمْ يُبْقِ لِي فِي كُنفِهِ سكنا
لم يكن الرحيل حلاً
ولا البقاء ممكنا
فرحلت
دون أن أرحل
ما نفع أرصفة المواني
وما جدوي المناديل
هَلْ لَوَّحَتْ تُوَدِّعُ الْأَحْبَاب
من مدنٍ إلي مدن
إلي أي أرضٍ أمضي؟
وهل بعد مصر أرضٌ
أو بعد نهر النيل نيل؟
أين أمضي
أنا الملفوظ من فم الأبواب
كل المطارات بيتي
كل القطارات وجهتي
بلا ذهابٍ أو إياب
متي كان الرحيل بلا ثمن
أو البقاء بلا ثمن
دفعتهما ألف مرة
أنا الفقير الفقير
والغني بالعشق المرير
أَسْهَلَ أَن أَدْخلَ من ثقب إبرة
عن أن أدخل حضنا
أو أن أعرف وطنا
ضاقت بي البلاد
لا ليلها ليلي
ولا شمسها شمسي
كم من فتنٍ ومحن
هناك، وكم هنا
سيان أين أسند رأسي
علي مذبحٍ في معبدٍ
أو قماطٍ في كفن
سيان أن أغفو.. أوأصحو
علي ليلٍ أو نهارٍ
صار خارج الزمن
لي وطنٌ ..
وليس لي وطن.