محمد الصادق المجلة الثقافية فبراير 2006
يطرق الأديب يوسف أبو رية في روايته الجديدة (عاشق الحي) عالماً جديداً وأجواء بكراً لم يسبق له أن خاضها في أعماله السابقة وهو عالم الأساطير والخرافات الذي يبدو من الوهلة الأولى صادماً للأجواء التي كان يفضلها وهي المسافة بين القرية والمدينة وتناوله للأساطير والخرافات في عمله الجديد ليس بطريقة الرصد والتحليل لها وإنما في كيفية تغلغلها في وجداننا وتحكمها في الكثير من مواقفنا وتصرفاتنا في الحياة. وعاشق الحي تجربة في عشق كل كائن حي أو حسبما يقول في حواره ل (الثقافية) الحي هنا ضد الميت وهو في الرواية الذي يخرج من عالم الموتى وقوة العشق هي التي دفعته للخروج ليستعيد الحبيب، كما أن عاشق الحي يحمل نزوعاً إلى التعلق بالمكان قد يكون مكان النشأة الأولى وقد يكون الوطن بشكل عام.
* اختيارك للأماكن الفرعونية في الرواية هل جاء متعمداً لإبراز الأساطير والخرافات؟ - اختياري يعود للاستفادة من خصوصية أسطورة المكان وخاصة مدينة تل بسطة وهي تعريف من الاسم الفرعوني بوست في الأسرة 21 و22 من العصر الفرعوني وهو اسم القطة (بس) وحتى الآن عند مدخل مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية نجد تمثالاً من الجرانيت الأسود لقطة والرواية تقوم على تجلي فضاء إبداعي يعبر عن مكان له خصوصية الطقوس والشعائر والعادات والتقاليد والموروث الشعبي المشترك، فهذا المكان ليس جغرافيا جامدة من تضاريس وتشكيلات تقع على مشرف الوادي والدلتا، ولكن تاريخ المكان أيضاً الذي له خصوصيته، والجديد في هذه الرواية أن انبعثت الأسطورة من المكان عبر حكاية تنزع إلى المخيلة الشعبية حين ينبعث القط الأسود، وهنا استلهم المخيلة وليست وقائع التاريخ لتسجيلها بوقائعها المسجلة لأني صنعت أسطورتي الخاصة وأصدم القراء منذ السطر الأول من الرواية، بأن الأستاذ دسوقي وزوجته سميرة يجلسان على مائدة الغداء والباب (موارب) فيدخل قط ويجلس على المائدة ويحدق في الزوجة طويلاً فيذهل الزوج من هذا التحديق ويقول من باب المداعبة (عجباك خذها) على أساس أن هذا من الاستحالة ولكن يفاجأ بالفعل باختفاء القط وزوجته في لحظه واحدة، وتقوم الرواية على بحث الزوج عن زوجته وهذه الرحلة بدأ من المعبد الفرعوني الذي تقيم به القطط إلى الشعوزة والدجالين إلى مسجد الحسين، وتدور أحداث الرواية.
بناء متكامل
* كيف تفسر تقسيمك للرواية إلى ثلاثة أقسام (غياب في التراب) والثاني (غياب في الرمل) والثالث (غياب في الغياب) مما يفقد العمل الوحدة والإخلال بالبناء ولماذا لم تكتبها بسردية واحدة؟ - الوحدة موجودة في الرواية وهي قد قامت على الفقد أو الغياب حين يفقد الأنسان شخصاً يعشقه ففي الجزء الأول غياب في التراب يقوم على الرواية التي سبق ذكرها وبحث الأستاذ دسوقي عن زوجته، والجزء الثاني (غياب في الرمل) عبارة عن الشكل القديم للرواية القائم على الرسائل المتبادلة وهنا الرسائل بين الزوج العاشق لزوجته الغائبة التي تعمل في أحد دول الخليج أما الجزء الثالث وهو (غياب في الغياب) وهو الذي تم فيه مزج الشخصيات الواقعية للكاتب والزوجة الغائبة وبين دسوقي وسميرة وصلاح وهم الذين عبر عنهم بشكل خرافي يقوم على الموروث الشعبي، والجديد في الأمر أن هذه المعشوقة ليست خارج الشرعية بل هي زوجته، فدائماً ما يهرب الكتّاب في رواياتهم إلى المعشوقة التي يقضي معها بعض الوقت دون أن تربطه به التزامات كي يبعد بها عن الزوجة، ولكن هنا المعشوقة في الرواية هي الزوجة التي يبحث عنها زوجها بعد اختفائها في الجزء الأول وكذلك هي في الجزء الثاني والثالث فحب الزوجة الغائبة سواء بالفقد أو السفر عامل مشترك في وحدة الرواية، والرسائل التي كتبت للزوجة في الجزء الثاني أتمنى أن تعلم الأجيال الحالية الحب وأن تكون هذه الرسائل مثل الرسائل التي يبعث بها الشباب إلى محبيهم وأن يكون موجوداً بمعناه الإيجابي وليس السلبي.
* وما ترمز باختيارك لاسم الرواية (عاشق الحي) وماذا تقصد به؟ - عاشق الحي تحمل المعنيين معنا فعاشق الحي بمعنى عاشق الكائن الحي والحي هنا ضد الميت وهو في الرواية الذي يخرج من عالم الموتى يحب زوجته وكأن قوة العشق هي التي أبعثته من العالم الآخر ليستعيد الحبيب وقد نجح في هذا وعاشق الحي هي أيضاً نزوع إلى التعلق بالمكان قد يكون مكان النشأة الأولى قد يكون الوطن فهو عاشق لشيء كائن في هذا المكان وهذا ما يتعلق بالمكان، وبذلك يكون الاسم متعلقاً تعلقاً شديد بالرواية.
* بماذا تفسر اختيارك لأسماء رواياتك بأسماء لها علاقة بالحب مثل عاشق الحي وتل الهوى وأعمال أخرى؟ - أنا عاشق من الدرجة الأولى وأنزع دائما إلى حالة العشق بمعناه المثالي وميل إلى حالة الحب في العشق والهوى من درجات الحب وأقصر من الكلمات التي تحمل معاني الحب والوله ففي تل الهوى كان اسم لمكان لكنه كان يقوم على حالة الهوى الذي أخذ بفتاة إلى أن ينال منها البطل فتسقط في تل الهوى وهنا أيضاً الهوى إي السقوط فأنا لا أختار عناوين أعمالي عبثاً.
* دور أحداث الرواية في نفس بيئة الأعمال السابقة ألم تتخلص من القرية بعد أن عشت بالمدينه 20 عاماً؟ - المدينه ليست بالعالم الحميم الذي يفجر أقصى حدود الطاقة الإبداعية لدي، فلكل مبدع مثير ما يدفعه لاستيطان أعماق ذاكرته في مشاعره في وعيه واقتحمت المدينه أكثر من مرة ولكن يهبط لضرورة ما ثم سرعان ما يعود إلى حياته الأولى وحدث هذا في القصة القصيرة، كما حدث في الرواية في المجموعة الأولى (الضحى العالي) برزت المدينة في قصتين إحداهما تحمل اسم (بقعة دم) والثانية تحمل اسم (مكان للنوم) وانظر إلى الاسمين هي في القصة الأولى المدينة حدث سياسي صدامي مرتبط لديّ بالوعي السياسي والثقافي والمظاهرات وعالم المثقفين ومقاهيها ومسرحها، كما يمثل نشاطاً ثقافياً فهي الوعي والعقل والقلب هناك بكل الدفء الأنساني فهو القلب محمل بسيمات شخصية هناك الجماعة البشرية أو ما يشبه العائلة فأنت تعيش في ونسها بامتدادك بصلة النسب بسمات الأنساب والأصهار، فبقعة دم هي إشارة إلى المظاهرات في الشارع والاصطدام المباشر بالسلطة بكل أدواتها الغليظة، حيث بدأت أول تعاملي بالحياة في المدينه فلسفة خاصة.
* هل هناك فلسفة خاصة تطرحها من خلال كتابتك؟ - هناك كاتب يبدأ بأفكار مسبقة ثم يبحث عن الوسيلة الفنية التي تعبر عن هذه الأفكار ويمكن إبراز مثال في هذا نجيب محفوظ لأنه أصلاً دارس للفلسفة وخريج قسم الفلسفة فعنده هم فكري في المقام الأول لذلك يبحث في الشخصية والواقع الذي يعبر عن هذه الفكرة بل وصل في مرحلة من المراحل إلى أن يبدع روايات هي مجرد أفكار خالصة الشخصيات تتحول فيها إلى رموز وأبرز مثال على ذلك رواية أولاد حارتنا. ولكن النوع الآخر يبدأ من الوقائع لا من الأفكار ثم يستنتج سواء المتلقي أو الناقد أن هناك سياقاً فكرياً بين محطاته الإبداعية المختلفة أو بين منجزه الأبداعي بشكل شامل وكامل وأظن أنني من هذا النوع أبدأ أولاً ثم تستنتج الفكرة فيما بعد. فأبدأ من واقع الحياة من نقطة ساخنة في واقع الحياة، من حركة شخصية أو حدث، وهناك بناء فكري لكل عمل إبداعي قد يكون واضحاً وراسخاً عند البعض وقد يكون غائباً وملتبساً وغامضاً عند البعض الآخر أو يكون نقطة البدء أو الانطلاق أو الكلام، وقد تكون منتهي الكتابة أو تالياً عليها. وهناك من يكتفي بسرد الوقائع والأحداث وهذا القالب الأعم في تراثنا وتنسج الأفكار ودلالات الأحداث وتتعدد قراءتها من شخص إلى شخص ومن زمن إلى زمن ومن متلقي إلى متلقي فهو سرد الوقائع وتستنتج منه ويدرس ويعمل عليه رسائل جماعية لقراءة الحدث الذي يستنتج منه الواقع الاجتماعي وشكل المجتمع المصري من طوائف وحرف ومهن وهناك مؤرخ آخر يفلسف التاريخ مثل ابن خلدون، ولا يسرد الوقائع ولكن يحاول أن يضع أطوار، وهذا نادر ونحن ننتمي إلى تراث من السرد فأنا أكتب الفكرة أو العمل الإبداعي وكلٌّ يقرؤه بطريقته على أن أبدع رواياتي أوقصتي مشحونة بكل إدراكي ومعارفي ومشاعري وأراعي فيها الأساليب الفنية التي قد يكون فيها جاذبية ومتعة، فأنا ليس عندى منظومة فكرية، ولكنها قد تكون هناك منظومة مخفية مختبئة في اللا وعي ولكني لا أضعها أمامي كإطار أكتب من خلاله، فكل فكرة هي نسبية ممكن أن تنقلب على ذاتي وأهدم النسق الفكري إلى آخره أو أعيد بناءه، ولي حرية الحركة.
* ولكن أين الثوابت والمتغيرات في أدبك؟ - هناك ثوابت هناك متغيرات بالطبع، ولكن أنا نفسي أريد أن يضع أحد يده على النسق الفكري الذي أعمل عليه لكي تكتشف الثوابت وما الذي تغير، ولكن أخشى دائما أن أضعها أمامي حتي لا أصاب بالجمود وينضب إبداعي.
* هل ترى أن هناك ما يشبه الوحدة التي تنضوي تحتها أعمالك؟ - بالفعل هناك ما يشبه الوحدة التي تشمل كل الأعمال بل لدي مجموعات قصصية لو تم تكملتها تصل إلى أن تكون رواية بصفة مختلفة المجموعة القصصية نفسها تحكي حكاية على بعضها فمنذ مجموعتي الأولى وحتى الأخيرة توجد وحدة عضوية، فهناك ما يجعلها حكاية متكاملة مثل (الضحى العالي).. فهناك من أول مدخل المجموعة في البدء كان النهر وأحكي حكاية نشأة القرية، مثل فكرة العهد القديم وكيف خلق اسمها وامتداد نسل الأب الأول لأبناء القرية، ثم تبدأ الرواية من أطفال تصيغ من عالم الطين عالماً موازياً لعالم الكبار يصاغ في قصة فل الطين والذي أعدت نشرها للصغار لأن النص يصلح أن يكون للصغار والكبار، ومن هنا شد انتباه النقاد فكرة الرؤية الطفولية للعالم وفي عكس الرياح المجموعة الثانية التي قال عنها أحد النقاد إن هذه رواية متكاملة لأنها تحكي حكاية واحدة شاملة لا يوجد بها تنافر. وأقول إذا كانت القصة القصيرة غرفة في بيت فالرواية هي البيت الواسع الذي يسمح بالبراح وتأكيد الشخصيات أكثر، وهناك نوعان من الكتاب الأول يضربون في كل موقع يغردون على كل غصن والثاني يظل مخلصاً لمنبع واحد يحفرون فيه عميقاً حتي يصلوا إلى منابع المياه فيه مثل نجيب محفوظ.