سامح مقار 9 مايو 2005
إنه الأحد 9 مايو 2005 ، لقائى مع الأديب العالمى نجيب محفوظ ، هذا الأديب الذى جعل أدبنا العربى لون معترف به بعد أن أوصله إلى بر الأمان ، إنه الرجل الذى قال عنه توفيق الحكيم "لولاه ما قامت للرواية العربية قائمة" ، وقال عنه يحيى حقى فى الثلاثية "كانت عين المؤلف عين جاسوس يتتبع أبطاله خطوة خطوة ، تلاحقهم أينما ذهبوا ، يرسم لوحة عريضة جدًا ، لا يعرف الأدب العربى كله عملاً يماثلها فى الاتساع .. خمس وخمسون شخصية على الأقل تمر أمامك فى طابور استعراض ثم تنقسم وتتداخل والأيدى متماسكة حتى يخيل إليك أنها يد واحدة" .. إنه لقاء مع أستاذ التواضع الذى قال عند سؤاله عن نوبل: "صاحب الجائزة الحقيقى هم أبسط الناس فى هذا الشعب الذين عاشرتهم وأحببتهم فألهمونى بشخصياته وموضوعاته فأنجزتها ، وأخذت أنا الجائزة" ..
إنه لقاء مع نجيب محفوظ الانسان الذى كتب نداء إلى المنحرفين بالأهرام يقول: "فإنى أوجه ندائى للمنحرفين من كل الأنواع والطبقات. أقول لهم إن الانحراف لا يحول بين المرء وحب وطنه وبخاصة إذا جاء انحرافه نتيجة لظروف سيئة قاهرة. وأذكرهم بأن قراصنة الانجليز قد أدوا أجل الخدمات لإنجلترا واستحق نفر منهم ألقاب الشرف من الملكة اليصابات ، أذكرهم بأن لصوص مصر ونشاليها تعاهدوا يوم عودة الزعيم الخالد سعد زغلول من منفاه على الكف عن ارتكاب أى جريمة فى ذلك اليوم ، ومر اليوم بسلام رغم خلو البيوت من سكانها واكتظاظ الشوارع بالعباد". ويخاطبهم أيضًا قائلاً "ومهما يكن من أمر فالحسنة بعشر أمثالها ، وسوف تجدون مكانًا لكم فى حضن أمتكم ، وسوف تذكره لكم ، وتغفر لكم سيئاتكم جميعًا. وما أنتم فى الأصل الا أناس طيبون يجرفهم تيار النكبات والأزمات وقدوات السوء ، ولتعودن يوم النجاة إلى أصلكم الطيب وسلوككم وتقواكم النقية" .. يا إلهى !! أى مسئولية على عاتقى أن أقيم حوارًا مع هذا العملاق الإنسان ، مارد الأدب الذى قلما يجود الزمان بمثله .. ماذا يمكن أن أضيف لقرائى وقد كُتِب عنه عشرات بل مئات المقالات !! .. ما هى الأسئلة التى يمكن أن أسألها من منظور جديد !! .. إن بدنى يقشعر عندما أتذكر رفضه أن يدعو على أعدائه الذين أرادوا قتله ويطلب لهم الهداية .. أى روح هذه الا روح مؤمن متسامح يدنو من طبيعة الملائكة !! .. إنه لقائى المرتقب مع رجل زاهد ، إبن السيدة زينب الذى لم تزده نوبل الا تواضعًا ، رجل قال عن مظاهر الحياة : "طوال حياتى الدبلوماسية لم أتأثر بأى مظهر من مظاهرها .. إن الاحساس الشعبى هو الذى جعلنى دائمًا أحس بإنسانيتى ، وإلا ما زدت عن كونى قردًا لابس سموكن" .. إنه لقاء مع فيلسوف يقول عن المال: "هو شىء ساحر ولكنه امتحان فى نفس الوقت ، لأن العلاقه به تكشف عن أحسن ما فى الإنسان ، وقد تكشف عن أسوأ ما فيه أيضًا ، وسياسة الانسان مع المال هى التى تحدد موقفه فى الدنيا والآخرة".
كل هذه الأفكار كانت تتراقص أمامى وأنا فى سيارة صديقى الدكتور أيمن صالح - أستاذ الفيزياء بجامعة القاهرة - ونحن فى طريقنا الى اللقاء .. كان عدد خفقات قلبى يتردد فى الثبات على معدل واحد كلما اقتربنا من فندق "شيبرد" حيث اللقاء المرتقب ، فهى المرة الأولى لى التى سأكون فيها فى معية أديبنا الكبير نجيب محفوظ .. دخلنا الأوتيل .. سألت عن القاعة حيث أديبنا الكبير .. أشار لى الأمن عن القاعة بالدور العلوى .. صعدنا السلالم لنجد على اليمين مكان خدمة المشروبات .. ويظهر بالقاعة المقابلة ذات الأضواء الخافتة رجل يجلس ويداه على ركبتيه كأنه ملك من ملوك الفراعنة العباقرة ، و يجلس بجواره الانسان الفاضل الدكتور فتحى هاشم يتجاذب معه أطراف الحديث .. تقدمت منه وقد خذلتنى دمعة وهى تسقط من عينى .. مددت يدى للمصافحة معرفًا نفسى له وأنا أقبله باحتضان شعرت خلاله أننى أحتضن كل مصر فى كرامتها الأدبية فى شخصه .. مرت أمام عينى فى لحظات صورًا مختلفة من الجمالية والحسين والسيدة زينب تتوسطهم الأهرام .. قال بصوت مصرى أصيل "أهلاً" .. جلست بجواره صامتًا لبضع لحظات ، ثم أخرجت من حقيبتى كتابى "أصل الألفاظ العامية – من اللغة المصرية القديمة" ، كتبت له : "إهداء إلى الأديب العالمى نجيب محفوظ .. الذى استوحى أولى رواياته من الهام التاريخ المصرى القديم" ثم قرأه له الدكتور فتحى هاشم .. وقد أهدانى سيادته نسخة من كتاب "أساتذتى" للأديب المبدع ابراهيم عبد العزيز وقد كتب عليه بخط يده "نجيب محفوظ 9/5/2005" والتى أعتز بها أشد إعتزاز. بدأت حوارى مع أديبنا الكبير بسؤالى:
- نعلم من سيرة كاتبنا العالمى نجيب محفوظ أن والدته كانت تحرص على اصطحابه دائمًا لزيارة الأماكن الأثرية ، حتى أن أولى رواياته التى كتبها كانت مستمدة من التاريخ المصرى القديم ؛ فهل أثرت هذه الفترة على كاتبنا الكبير؟ يصح ! أثرت علىَّ مفيش شك وفى كتاباتى. هكذا كانت أجابته مختصرة وواضحة – لا تسمح حالته الصحية بالتحدث طويلاً - فيقول فى كتاب أساتذتى للأديب ابراهيم عبد العزيز : كان للأم دور كبير فى حياة أديبنا الكبير نجيب محفوظ الذى كان له ستة أخوة كيحيى حقى ، ولكنه نشأ كطفل وحيد لفارق السن بينه وبين أصغر اخوته ، فيقول نجيب محفوظ "عندما بدأت الوعى فى سن السادسة كان هناك فارق كبير بينى وبين أخوتى وكانوا قد ذهبوا الى بيوتهم ، وطبعًا كنت أزورهم كثيرًا ولكن مثل الضيوف ، وكانت علاقتى بهم علاقة الصغير بالكبار ، أساسها الأدب والاحترام ، ولم أعرفهم كإخوة أعيش معهم حياتهم اليومية ، ألعب معهم وأضحك معهم. وقد ساعدتنى أمى كثيرًا من خلال حكاياتها وعشقها للآثار فأنا مدين لها بجانب من التكوين الفنى .. كانت أمى تحب الآثار وكانت تصحبنى وأنا طفل لزيارة المتاحف والآثار".
- إرتبط كاتبنا العالمى نجيب محفوظ بالمقهى والحارة المصرية بألفاظها العامية ، وبصفتى باحث فى مجال تأصيل الألفاظ العامية وردها الى أصولها المصرية القديمة وجدت أن كثير من الألفاظ التى تستخدم فى الحارة والمقهى ذات أصول مصرية قديمة (هيروغليفى) مثل (سى) الموجودة فى (سى السيد) مثلا فهى من الهيروغليفية بمعنى (رجل) ومؤنثها (ست) بمعنى (إمرأة) وكذلك التعبير (يادالعادى) بمعنى (مستورة) الخ .. ففى رأيك سيادتكم هل من المفيد أن نأصِّل الفاظنا العامية أم نتركها بعبلها؟ - أجاب أديبنا الكبير "ماذا تقصد بتأصيلها؟" .. أجبته : أى أننا لا نستخدم أى كلمات أعجمية فى أدبنا من شعر وقصة ورواية بل نتخلى عن كل ماهو دخيل على اللغة العربية سواء كان مصرى قديم أو فارسى أو تركى إلخ .. أجاب "سيبها .. سيبها زى ماهى .. ما هى دخلت خلاص". وهذه الإجابة جعلتنى أسأله سؤالاً آخر لم يكن فى حسبانى ، بل لقد قفز إلى زهنى وقتها ، حيث سألته:
- تفتكر يا نجيب بيه أصل كل اللغات أيه؟ - أجاب بصورة قاطعة : الهيروغليفية زى ما احنا عارفين .. أدهشتنى اجابته بشدة ولاسيما انها ستجد نفر من المعارضين ليس بقليل .. وأنا كباحث فى اللغة المصرية القديمة ليس لى رأى خاص فى هذه المسألة .. فربما أحتاج لسنوات عديدة حتى يظهر لى رأى فى هذا الموضوع .. ولكن إجابة مثل هذه من أديبنا الكبير تحتاج الى كثير من التأمل ولا يمكن بأى حال من الأحوال أن تأخذ ببساطة. كررت سؤالى له ولكن بصورة أبعد زمنًا قائلاً:
- يعنى آدم كانت لغته أيه؟ أجاب أديبنا الكبير بمنتهى التواضع : معرفش ، لكن اللى نعرفه ان أصل اللغات هو الهيروغليفية. وهذا ما جعلنى أطرح سؤالاً على نفسى وأنا بجواره – بعيدًا عن الأديان – هل كان آدم يتكلم لغة ما؟ أم كان حديثه مع الله عن طريق التخاطر الفكرى المباشر؟ هل بدأت اللغة بإشارات ثم أصوات أخذت تتطور من عصر آدم حتى أصبحت لغة للتفاهم تتطور بتتطور مجتمعها؟ أم خُلق آدم ومعه لغة ما؟ سؤال يحتاج لإجابة !!
- لو فكر اديبنا العالمى الآن فى كتابة رواية مستوحاة من التاريخ المصرى القديم ، ماذا يكون موضوع الرواية؟ - أجاب أديبنا الكبير : أنا كتبت وخلصت .. كررت سؤالى : ولكن لو فُرِض يا نجيب بيه تحب تتكلم عن مين من الفراعنة؟ .. أجاب : أخناتون .. أخناتون فى التوحيد.
- نعلم أن أولى رواياتكم قد نُشرت وأنت فى سن 39 ، هل كان هذا عن قصد ، أم أنها كانت ظروف النشر؟ أجاب أديبنا الكبير : ظروف النشر .. فأولى الروايات التى نشرت كانت "عبث الأقدار" ونشرها سلامة موسى فى كتاب ملحق بمجلة "المجلة" التى يصدرها. كانت قصص متفرقة فى الصحف والمجلات مثل مجلة "الرسالة" ومجلة "الرواية" و "الثقافة" وغيرها. ولكن النشر المنتظم بدأ مع لجنة النشر للجامعيين التى أسسها عبد الحميد جودة السحار والذى نشر فيها الثلاثية الشهيرة. نعم .. لقد إنطلق بعدها نجيب محفوظ فى النشر خاصة بعد أن نوَّه عنه النُقاد وأولهم سيد قطب الذى كان ناقدًا أدبيًا قبل أن يكون داعية .. وكان ذلك بعد حرمان طويل وتجاهل لمدة خمسة عشر عامًا ولكنه لم ييأس وظل يكتب دون انتظار لثمرة ابداعه سوى الابداع نفسه حتى انه كان يقول: لو أتى الأبداع بالفقر سأحبه أيضًا .. وذلك مما يدل على أنه كان يحب الابداع فى ذاته دون انتظار لثمرته حتى جاءت ثمرته بجائزة نوبل.
- قام البعض بطرح تأويلات وتفسيرات متعسفة لرواية "أولاد حارتنا" ، ولكنك قررت عدم طرحها للنشر إلا حينما يكتب لها المقدمة مفكر إسلامى كخالد محمد خالد .. لماذا حدث هذا الاختلاف فى التفسير للرواية ، ولماذا كل هذه الزوبعة؟ بعد أن أعددت هذا السؤال لأديبنا الكبير وجدت أن حالته الصحية لا تسمح بالأجابة عليه ، لما يتطلبه من جهد وحديث طويل لا تسمح به ظروفه الصحية فقررت الغائه. وبعد أيام وفى حديث تليفونى مع الاستاذ الاديب الصحفى ابراهيم عبد العزيز الذى يعمل بمجلة الأذاعة والتليفزيون ، كشف لى عن سر لم ينشره من قبل الا فى حديثًا فى كتابه "أساتذتى": حينما رحب خالد محمد خالد باقتراح نجيب محفوظ وطلب فقط معرفة الظروف والملابسات التى أحاطت بكتابة "أولاد حارتنا" ، والهدف منها حين فكر فى كتابتها. نقل ابراهيم عبد العزيز استفسار خالد محمد خالد الى نجيب محفوظ الذى رحب بالرد على استفساره شفويًا من خلال شريط تسجيل ، قال فيه نجيب محفوظ:
أبد كلامى بتحية الى الاستاذ خالد لأن له منزلة كبيرة فى نفسى من قديم الزمن ، وإجابة على تساؤله أحب أولاً أن أوضح شيئًا وهو أن الكاتب أحيانًا قد يقصد شيئًا ، والعمل الذى يكتبه يحقق هذا الشىء وأشياء أخرى ، ولذلك فإن أى عمل لى لم أعرف أبعاده كلها إلا بعد النقد ، وهذه حقيقة أحب أن أعرضها فى الأول ، وطبعًا الأستاذ خالد يدركها تمامًا لأنه من الكتَّاب ، وإن كان هو ككاتب ومفكر يعرف هدفه ويعرف كيف يصل إليه ، لكن الفن ليس هذا فقط لأنه يكون هناك جزء فى الوعى ، وأجزاء فى اللاوعى تطلع مع القلم. وعندما أسأل نفسى الآن : "أولاد حارتنا" كيف كتبتها ولماذا؟ الحقيقة أننى كنت فى ظروف سنة 1959 قد بدأت أشعر بشىء من الخيبة بالنسبة لثورة يوليو 1952 ، فهى قد جاءت وحققت أعمالاً عظيمة ، ولكن بدأنا نسمع كثيرًا : اليوم قُبِض على فلان ، اليوم يعذبون فلانا ، وفيه ناس بتستفيد فوائد كبيرة جدًا إلى أن أصبحوا أكثر من الإقطاعيين ، وأشياء من هذا النوع ، وبدأ الواحد بعد الفرحة الأولى يرمش "شوية" ، فصورت حارة مصرية تمامًا ، وهناك "وقف" ، وهذا "الوقف" لخير الحارة ، وقد وقع بين فريقين ، فريق فتوات تريد أن تنهبه ، وفريق آخر طيب يريد أن يحافظ على وصية "الوقف" .. وهذه كلها حاجات مصرية.
ومن الرؤية السياسية فى الوقت نفسه كنت أفكر فى مظلة من تاريخ الانسانية ، ففكرت فى الوصية الكبرى ، وفى هؤلاء الناس الذين حاولوا تحقيقها للإنسانية ، وكأننى أريد أن أقول من خلال هذا لرجال الثورة فى الآخر : أنتم مع أى فريق. فريق الفتوات ، أم مع فريق الرسل. وهذا هو الذى كان فى ذهنى عندما كتبت. هل هذا طلع بالضبط أم أن هناك أشياء أخرى طلعت معاه؟ هذه الحكاية كلها. والأمر الذى لا شك فيه أننى فى حياتى لم يأت إلى شك فى الله. ويضيف نجيب محفوظ الرواية طلعت وقرأها الناس ثم انهالت الاتهامات. والاتهامات كانت بناء على عريضة سيئة أرسلت للأزهر ، والأزهر بينى وبينك لا يقرأ روايات مسلسلة. المهم قرأ الرواية على أنها تاريخ وليس على أنها رواية.
- أخيرًا .. ماذا يقول أديبنا العالمى للأدباء الشبَّان. يطلب نجيب محفوظ من الأدباء الشبان أن يؤمنوا بالعمل ويؤمنوا بالصبر وأن الطريق طويل ، وفى حاجة إلى العمل وأن يحبوا عملهم أكثر مما يحبون نتائجه. وعن أديبنا العالمى يرى الأديب المبدع ابراهيم عبد العزيز تلك القدوة فيقول فى كتابه "أساتذتى" : التصق نجيب محفوظ بالفن والتصق بمجتمعه جيدًا ، فمنذ أن بدأ يكتب وهو يعبر عن الليبرالية ، حرية الرأى ، حرية التعبير ، الديمقراطية. لم يتحول عن هذا الخط فى أى وقت من الأوقات ، فهو ثابت ثبات الشمس .. وهو أيضًا من هذه الناحية قدوة ، واختار أحسن المبادىء ، فهل يجد الشباب أمامهم أكثر من ذلك قدوة؟".
*First Published at Arab 2000