لإن الحياة معارك، ربما يتوجب على الإنسان في هذا العالم، في معركته مع كورونا، أن يتخيل أنه جنديٌ تاه في الصحراء، ثم ألفى نفسه فجأة تحت رحمة لغم، فيجبره على المكوث واقفاً في مكانه، وحياته مرهونة بصبره وصموده.!!
هنا في هذه البقعة من الصحراء، تقرر إجراء مناورات وتدريبات عسكرية لكتيبة من الجنود الذين يؤدون واجب الخدمة الإلزامية، كانت هذه المناورات والتدريبات هي آخر ما توجب عليهم القيام به قبل حصولهم على إجازة.
أثناء توزيعهم في مناطق متفرقة في تلك البقعة من الصحراء، وأثناء احتدام المناورات التي استخدمت فيها الأسلحة، وحصل تبادل لإطلاق الرصاص الحي، مع الحذر من أي إصابات، ذهب كل جندي منهم في إتجاه وتفرقت أيديهم.
كان هنالك جندي من بين جنود تلك الكتيبة يحمل على ظهره حقيبة الاتصالات اللاسلكية، كان اللاسلكي هو البوصلة التي سيهتدون بها عندما يتفرقون في شعاب الصحراء وهضابها.
في الطريق الذي كان يسير فيه ذلك الجندي كان به وحشة مرعبة لشدة قفرة المكان وبؤسه، لقد أدرك أنه ابتعد كثيراً عن طريق المعسكر الذي كان يجمعهم، لقد تاه وهو لا يعرف الآن إلى أي اتجاه يسير.
ظل الجندي منهمكا بمحاولة الاتصال بجهاز اللاسلكي الذي يحمل حقيبته على ظهره، حاول مرارا وتكرارا لكن دون جدوى، لم يكن ثمة تغطية كافية لحصول استقبال أو إرسال.
ظل الجندي يتقدم ببطء وحذر وترقب، خطوة تلو أخرى، وهجير الشمس يلفح هيئته، لم يكن منشغلا بسوى محاولة أن يمسك خط الاتصال معه ويجد اجابة على اتصاله اللاسلكي بمعسكر رفاقه لارشاده وانقاذه.
تشاء الأقدار أثناء ذلك أن يتقدم خطوة أخرى تقرر مصيره، لقد أصيب بهلع شديد ورعب سرى في شوارع وأزقة روحه، لقد شعر بشيء ضغطت عليه قدمه في تلك الخطوة، شيء له حركة محسوسة احتكت به قاعة حذاءه، شيء له حساسية خاصة لا يعرفها إلا الجندي وحده، تصبب عرقا، فقد صوابه تماماً، لقد أدرك ذلك الجندي أنه تم أسره، لقد داس على لغم متفجر، إنه يفهم جيداً أنه إن رفع قدمه سينفجر اللغم وسيخسر حياته، وفي حركة مرتبكة حافظ فيها على رباطة جأشه، وحاول الاتصال مرة تلو أخرى وأخرى عبر جهاز اللاسلكي، وقلبه من الخوف كقلب أم موسى، كانت التغطية ضعيفة جداً بل ومنعدمة.
أقسى السجون وأمرّها تلك التي ليس لها جدران، كان حاله كمن سجن في مغارة وثمة صخرة كبيرة تسد بابها، ولن تفتح إلا بكلمة سر لولا أنه لا يعرفها أو لا يجدها.
القفرة هي المستبدة في الصحراء، وعلى تلك الأرض التي كان ذلك الجندي سالكا في سبلها، كل شيء بدا متشابها، الحشائش الصحراوية التي تتوزع في الأنحاء، وتنتمي لعائلة واحدة، والكثير من علب الأغذية الحديدية الفارغة، التي كوتها الشمس بهجيرها حتى استهلكتها تماما، وصوت الريح يعوي كذئب تخلى عنه إخوته في ليلة من ليالي تشرين القارسة، يصاحبه غبار كثيف يحجب الرؤية، وفي محيط المكان الذي شاءت الأقدار أن يكون نهاية مسير ذلك الجندي، لم يكن هنالك شيء مميز عدا وجود أكمة تبعد عن موقعه بضعة فراسخ، ولكم تمنى الجندي أن يكون ثمة شيء مُجدٍ وراءها.!
قبل أن يبدأ الجندي حديثاً مع نفسه، حاول أن يفعل شيئا مفيدا حيال ذلك اللغم الذي داس عليه، حاول أن يحسن من وضعيته، أخرج خنجره ثم حفر حول مكان قدمه حتى يخفف الضغط ويتقي بذلك عدم تسرب الرمال إلى موضع الصاعق، لقد أدرك أنه لا مناص من أن يهيئ نفسه للإقامة بذلك المكان، وجب عليه أيضاً أن يخفف الحمولة التي على ظهره، فبادر بخلع حقيبة الاتصالات وخلع جعبته، وما ذلك إلا ليتمكن من الصمود واقفا لأطول مدة ممكنة، ثم هدأ الجندي في لحظة وأصغى إلى صوت أعماقه، انسرب إلى ذاته متأملا فيما يحدث، فالرؤية في الداخل أوضح.
لقد كان في غاية الفرح لإن كتيبتهم ستحصل على إجازة، بعد ستة أشهر من التدريبات والأعمال العسكرية الشاقة، وفي غاية الابتهاج لإنه سيرى زوجته وطفله وأمه وأبوه، سعيدا لإنه سيتنفس حريته من جديد وينعم بالحياة وملذاتها، بعد أن كبلته الخدمة الإلزامية في الجيش، ثم فجأة حدث هذا الذي لم يحسب له حسابا، نعم الإنسان يخطط والقدر يضحك.!!
كانت حالته وهو مجبر على الوقوف وتحت قدمه اللغم تشبه حال من حياته مهددة بالإصابة بالعدوى من وباء قاتل يتربص في أنحاء المدينة، و ليس له مصل، فإن خرج من داره قتله الوباء، وثباته في مكانه هو الشرط الوحيد الذي سيمكنه من النجاة من الموت المؤكد إن التزم به لكنه مميت أيضاً، لكن ليس لديه أي خيارات أخرى غيره.
تأمل حوله، يتصبب العرق من جبينه، ويسيح على وجهه، فيختلط مع ذرات الرمال التي ترافق هبوب الرياح بين حين وآخر، فتتعفر بها هيئته وتفاصيل وجهه، يخلع قبعته العسكرية ويحركها أمام وجهه، فالحرارة في الصحراء أسوأ من جحيم الصيف نفسه، تفسد العقل وتتلف البصيرة مهما كانت ثاقبة، ثم سكن، أغمض عينيه، وبدأ حديثاً مع نفسه، عن سيرة حياته، لقد جعل ذلك الخوف من اللغم شريط ذكريات ماضيه يمر أمامه كما لو أنه مونتير بارع، يمرر الأخبار في شريط متحرك أثناء نشرة الأخبار الرسمية في بث مباشر على التلفاز، وعندما ينتهي مرور الشريط أمام عينيه تعود صورة ثابتة كأنها إعلان لراع رسمي هي صورة انفجار لغم تحت قدم جندي وفقدانه لنصفه الأسفل ثم فقدانه حياته!!.
مضت الساعات ثقيلة وهو لا يرى غير الخوف الذي يسكن أعماقه، مكبلا بعجزه مثقلا بجوانحه المكبوحة، كما تثقل المرء أعباءه المالية في الحياة فتعمى عيناه عن الابصار لما دون فقره، لم يجرؤ على التفكير في شيء غير محاسبة نفسه والحذر من الحركة، كان لوجوده في تلك البقعة عبرة لكنه لم يفهمها حينها؛ هكذا بدا، واقفا منتصبا، تحدثه نفسه عن أخطائه التي اقترفها، عما كان يخفيه عن زوجته من مخالفات لا تجوز لرجل متزوج، عن خذلانه لأصدقائه، عن نسيانه لحق ربه عليه، لقد تحولت تلك البقعة من الصحراء، بفعل الشعور بالذنب الذي غشيه، إلى قاعة محاكمة، بمدعٍ وقاضٍ ومحامٍ ودفاع وشرطة ومتهم ونيابة وشهود ولائحة اتهام!!
الوقوف على لغم هو الفصل الأول من يوم الحساب، قدم في الجحيم وقدم في الحياة، ولابد أن ينتصر أنصار أحد الفئتين لينضم المرء إليهم ويصبح منهم!!
حين جن الليل بدأت أوهام الصحراء تختلط بأفكار ذلك الجندي، وبدأت الهلوسات تمتزج بجواءات عقله، ألفى نفسه، فجأةً، وهو محاط بقطيع من الذئاب، تتربص بالمكان وتنوي أن تفترسه، فأخرج خنجره وقاتلها حتى انتصر، ثم نصب بندقيته ونام عليها واقفا.
في اليوم التالي شرب ما تبقى من قطرات الماء الموجودة في زمزميته العسكرية، وأمضى نهاره في حالة مزرية من الهذيان والهلوسة والإضناء والتعب، ظل ما بين اغماءة تارة، وإفاقة تارة، لقد توجب عليه أن يحاول الاتصال بجهاز اللاسلكي مرة أخرى لولا أنه كان يائسا، ومع ذلك فقد أجرى بعض المحاولات ولكن بلا جدوى، بكى وانتحب، وتوسل الله أن يرحمه مما هو فيه، كان بابه وصلاة التضرع إليه هي الباب الذي أدرك أنه الوحيد الذي لا يوصد؛ كان موقنا أن اعترافاته بكل شيء فعله في حياته خيرا وشرا، وطلب المغفرة هي السبيل الوحيد لنجاته من هذا المصير الذي آل إليه.
أغرورقت عيناه بالدموع التي ساحت على وجنتيه، رافعا رأسه نحو السماء منتحبا، حتى رقت له تلك الرمال من حوله؛ اعترف وتضرع وطلب المغفرة والسماح من الله، قال "يارب لقد منحت ابليس فرصةً ثانية حين طلب فرصة ثانية وهو الذي عصاك وكفر بعدالتك فامنحني أنا عبدك فرصتي الثانية لعلّي أعمل الخير وأكن من الصالحين" ثم أغمي عليه.
في صباح اليوم الثالث استيقظ ذلك الجندي وكان هنالك مفاجأة في انتظاره، فتح عينيه على مضض وأمامه طفلة صغيرة صماء في الثامنة من عمرها لها ملامح البداوة، كانت واقفة تشده من بزته العسكرية، وتهز جسمه المستبسل في الوقوف، في يدها تحمل مجسما صغيرا لجندي في وضع الاستعداد للقتال، وعلى وجهها ارتسمت ابتسامة بريئة ممزوجة بحزن وأسى على حاله حين أدركت أنه افاق، بادرت تريه المجسم الذي بكفها فبادلها الابتسامة، لقد كان مصاباً أكثر مما هو فيه بالحيرة مما تحاول هذه الطفلة أن تخبره به بايماءات أناملها وملامح وجهها، ودواليك حتى فهم أنه يقف حيث تخبئ العلبة الخاصة بالمجسمات التي تلعب بها، لم يصدق ما وصل إلى ذهنه، كان مدهوشا، استغبى وكان عليها أن تعيد الإشارات والإيماءات مرة أخرى وأخرى لتمكين المعنى الذي كان غير قادر على استيعابه في ذهنه. سقط على الأرض ساجداً لله، ثم استلقى على ظهره، فاردا ذراعيه يكاد يغمى عليه من شدة الضحك والبكاء لغرابة المفارقة.
ذهبت الطفلة بعد ذلك وأحضرت له الماء في زمزميته، ثم ابتعد زاحفا عن ذلك المكان ووقف على تلة صغيرة كانت بالقرب، وحاول مجدداً الاتصال باللاسلكي إلى قيادة المعسكر، وشمس الحياة تشرق في قلبه من جديد، فتمت الاستجابة وأصغى جيدا إلى التعليمات التي أمليت عليه، ثم مكث وقتا قليلاً حتى ظهر رفاقه وأخذوه محمولا على ظهر نقّالة يصاحبهم الضحك.