قرأَ الإخباري منذ نعومة أظافره في الكتب القديمة أن ثمة كائناتٍ خفيةً تُدْعى الملائكة عادتها الرقص في الهواء، كانت القصة المدونة بكتاب مقدسٍ أصفرَ معتقٍّ ضمته مكتبتُه بمنزله المهجور تتحدث عن الرقص في الهواء، تنحدر هذه الملائكة من السماء إلى الأرض دون أن يراها البشر وتحمل رسائل شفهية تتحدث فيها لمن تختاره من الناس، بتوجيه من آلهةٍ عُليا تسكن السماء، وكانت تلك الكائنات تروي قصصاً حول الموت والحياة وتُضْفي الخلود على من اختارته من البشر، فيصبح المختارَ خالداً للأبد ولكن ليس برتبة الآلهة، لم يعدْ يذكر ما إذا كان الفرد المختار يظل في الأرض أم يصعدُ للسماء، ولكنه علِم من ذلك الكتاب بأن الإنسان المختارَ باستطاعته الطيران في الهواء، بل خُيل إليه أن ثمة رقصة يرقصها المرء عندما تأتيه الملائكةُ تلك، وتُسَلمه الرسالة فيضحي من المختارين. تركت تلك الرواية السماوية في نفسه تأثيراً ظلَّ ينساه ويذكره بين فينة وأخرى كلما ادلهمَّت الأمور، لم يسهُ عن تلك القصة لكنه تجاهلها لشدة ولعه بالحياة والترفيه واللهو، ثم تكالبت الأوضاع في المملكة على بعضها وانزلق في بوتقةِ القصر ودوامته ثم العشق الجنوني ولم يعد يَسْعى للمجون كما في حياته من قبل. انصرمت الأيامُ والسنين إلى أن فوجئ بنفسه واحداً من أولئك المختارين الذين حلت عليهم نعمة الرخاء والرفاه فَأضحى مأخوذاً بالسلطة والنفوذ ثم وَلج في الخوف والهلع من الوجهِ الآخر للنفوذ، حتى بعد أن أدرك ثمنَ السلطة الفادح لم يقدر على الانسحاب، كان قد كُبِّل بقيودٍ من الحب والمال والبذخ إلى أن اشتعلت ثورةُ الغوغاء، ولاحت له نهايةُ الطريق الطويل الذي مر سريعاً كأنه حلم.
وُزَّع عقله في ومضة خاطفة بين أفيين التي ينتظر وداعها بخوفٍ من المجهول معها، وبهجته بالأعور الذي باغته باحتفائه فيه كرد جميل ووفاء على تفانيه معه في إبداع تحفته الخيالية، وبهجته العابرة بما تفوه به نيشان وبَثَّ فيه وميضَ الأمل بالسيطرة على الانتفاضة. تدفقت هذه الأفكار وهو في طريقه لتلبية دعوة الملك السائح الذي ينتظره بشرفة قصره المطلة على وادي الأحراش بقمة الجبل. كان الوقت مساءً قبلَ أفول الشمس، والأجواء رغم الغيوم الكثيفة الملبدة لم تسفكْ السماء رذاذها بعد. ارتدى ملابسه الرسمية، قميصاً أبيض زهريَّ الأطراف مع سترة حمراء فاتحة اللون وسرح شعره الذي شابه البياض بأطرافه، انتعل حذاءه الأسود الجلدي ودفق رشةً سريعة من عطره المفضل التي يحمل نكهة الوادي الأخضر، وضع وردة صفراء حادة اللون على صدر سترته وراح يقطع خطواته داخل أروقة القصر متلقياً تحيات كل من يصادفه وقد بدا الوجوم على وجوههم، لم يترك ذلك يؤثر عليه، فقد أشبع فضوله من الأخبار بما ورد على لسان الفتى نيشان واحتفظ بهدوئه متناسياً كل ما من شأنه تعكير مزاجه، فهذا يوم الاحتفاء مع الملك ومن غيره المحظوظ الذي تتاح له فرصة مجرَّد لقاء الملك في مثل هذه الأوضاع السيئة؟ لكنه الحظ وحده جعله يملأ مساءه ببهجة أقْسَم في سريرته ألا يدع ما يعكرها، حتى حين التقى صدفة بصبيه الخاص زيان الذي رُقِّي وأصبح حاجباً، لم يترك خبر استيلاء أتباع ذَهَل الشيبان على قصر الأعور القديم بالعاصمة أن يهز ثقتَه، روى له الصبي الخبر الذي ورد للتو وانتشر بين أرجاء البلاط باقتحام قصر الخورنق القديم ونهب ما فيه وتحطيم ما رغبوا في تدميره، لفت انتباهه خبر اكتشاف سجون الأنفاق تحت الأرض وانتشار شائعات حول إطلاق سراح مئات المسجونين بينهم نساء وشخصيات مرموقة. كان الصبي يثق بسيده وهذا ما حتَّم عليه أن يروي له ما سمعه، لم يُفاجَأ الإخباري بهذه الأنباء، فهو يعلم منذ سنوات بوجود كهوف وسراديب تحت الأرض بعضها تعود للأميرة أفيين، وقد سبق له والتقى بأفيين مرات عدة في أماكن سرية تحت الأرض، ولا يستبعد أن تكون تلك الشائعات صحيحة، لكنه قلقٌ بشأن بلوغ الانتفاضة حد الوصول إلى تلك المناطق السرية، بل إن مجرد احتلالهم للقصر وجَّه ضربة قاصمةً لجهود الأميرة التي وعدت بالقضاء على التمرد. ودَّع صديقه ومضى في طريقه بعدما سأله الصبي إن كانت له رغبة في شيء فرد السنمار بنبرة امتنان.
"أريد رؤية الشمسِ قبل أن تغيب"
"إذن الحَقْ قبل أن تأفل"
مضى الاثنان كلٌّ في منعطف، وأسرع هو الخطى وداخله شعور بالسعادة لم يعرف مصدره، حافظ بشدة على ذلك الإحساس كما لو كان سيفلت منه، وحين بلغ صالة المراسم الصغيرة الملحقة ببهو الملك الخاص المشرف على مدخل سفح الجبل، استقبله ثلاثة من رجال الملك وقادوه لغرفة التشريفات، ووضعوا أمامه منضدة صغيرة مطرزة باللون الذهبي وسطح محشو بالفسيفساء، كان عشقُه للفسيفساء لا حدود له، فما يكاد يقع بصره على أي قطعه مهما كانت مرصعة بالفسيفساء حتى يُمْعن النظر فيها، ويظلُّ يُحدَق فيها ويبحث عن جودتها أو فسادها، تذكَّر أول يوم حل فيه بالقصر القديم الذي احْتُل للتو، بحسب ما ذكر الصبي زيان، حين لمح تلك الساعة قبل سنواتٍ مضت تَلَفُ بعضَ قطعٍ منها، ولم يذكر ما إذا باح لأحدٍ ما طوال هذه السنين عن ذلك الخطأ الفادح في رَصِّ الفسيفساء بقصر الملك. حين ابتعد عنه الرجال الثلاثة من المراسم راح يُحَدق بالطاولة التي رُصد عليها عدد من القناني المتنوعة بين النبيذ والخمر القوي والعصائر مع المياه الصافية، فكر في سكب كأس له لكنه تردد فيما إذا كان من اللائق أن يَحْتَسي الخمر قبل أن يلقى الملك، عاد يسأل نفسه لو لم يكن متاحاً له الشرب لما قَدَّمَت له المراسم تلك المنضدة أمامه.
"يجب أن أسترخي وأُبعد شبح الوساوس، هذا يومي السعيد ولا يجب أن أفسده، عَلَيَّ أن أنسى همومي وكلَّ شيء سيجري ببهجةٍ كما أتمنى"
قهقه مع ولوج الملك السائح فجأةً المكان، كان بهيبته المعتادة مرتدياً زياً خاصاً بالمساء بعيداً عن التكلف، تصافح الاثنان وأمره الملك بمرافقته للشرفة المطلة على السفح ذات الحوائط الزجاجية الشفافة المكشوفة على الفضاء، جلس بتوءدة وأشار له بيده اليمنى التي لمع منها خاتمه الماسي! بالجلوس وصرف كل من كان بالمكان وظل الاثنان وحدهما.
"أعشق العزلة سنمار وأخلد لها، ولولا شئون الحكم اللعينة لوجدتني في عزلةٍ دائمة وهي سبب تولي أفيين الحُكم لتتاح لي فرصة الاسترخاء في عزلة"
حار بالردِّ عليه فهو ذاته يعشق العزلة ولولا وجوده في القصر وانشغاله بمهام تصميم بناء قصر أفيين لظل في عزلته التي كانت وسيلة متعته منذ طفولته المبكرة، ربما يعود سبب عزلته لتوحده بالقمر وطبيعته المتوحشة كما هي أفيين ذاتها، وهنا خطر بباله سؤال داخلي، هل يعلم الملك بتوحد أفيين زوجته بمرض القمر؟
"العزلة سنمار يا صديقي الحميم تتيح لَكَ التفكير بصفاء، وتجعلك تحكم على الأمور المعقدة والجسيمة بحنكةٍ عكس الصخب والضوضاء، ولو أني أنغمس كثيراً في الضوضاء التي تجلبها رغبتي في الترفيه لكن سرعان ما أنكفأ وأعود لكوخ العزلة، وحسناً فعلت سنمار بتصميم هذا المكان الرائع الذي طالما حلمت به لسنين لَكأنَك أدْرَكت بسريرتك شغفي بهذه الواحة السماوية ذات الأفق الجبلي"
لم يلفت انتباه الإخباري خوض الملك في حديث خاص بعيدٍ كل البعد عن الرسميات وعن شئون الحُكم والبلاد، فقد بدا بمزاجٍ رائق وسكينة تلوح على سماته التي برزت هادئة ما شجعه على الانفتاح معه في الحديث، ولكن بمجرد أن أراد الكلام حتى فاجأه الملك بمبادرته وهو يفتح قنينة النبيذ ويسكب له وللإخباري كأسين، وفاجأه ثانية حين قدم له الكأس وقال بابتسامة صافية ونبرة مرهفة.
"في صحة العزلة سنمار"
"في صحتك سيدي السائح"
"وفي صحة الأميرة أفيين"
وثب قلبُه من مكانه بغلظة وتورد وجهه تحت وطأة شعوره بطيف أفيين، خشي أن يفضحه لون بشرته التي احتقنت لدى ذكر اسمها في هذه الليلة المميزة بالذات، لم يقدر لحظتها على وضع عينيه في عيني زوجها الذي كان محدقاً فيه ثم صرف نظره عنه، شغل نفسه باحتساء كأسه إلى أن انتزعه الملك من انشغاله المتعمد.
"أخبرني بحق سنمار هل تشعر بالوحدة؟ وكيف تتغلب عليها؟"
صمتَ لوهلةٍ ورفع كأسه وخبطه بكأس الإخباري وأردف موضحاً بصوت ودي لم يخلُ من الشجن.
"لا أعني الوحدة دون الناس، وحدة القلب"
"بلى سيدي السائح، ونادراً ما أفلت منتصراً منها إلا بالكأس"
"والمرأة"
ابتسم وكرر وراء الملك.
"والمرأة"
"أحسنت، لهذا السبب الوجيه أنا أحبك سنمار، أنت تتفق معي في كثيرٍ من الأمور، وتنسجم معي تحديداً بتناغمٍ في العزلة والوحدة والمرأة، أخبرني سنمار ما رأيك في الأميرة أفيين؟"
بدأ يلمح تغييراً في نبرة الملك التي بدأت بالعزلة والوحدة ثم قفزت للمرأة والأميرة، تكهَّن لوهلة أن السائح ثملٌ من الكأس الذي تجرعه بسرعةٍ خاطفة ثم لحقه بكأس آخر، لم يفهم بعد لم هذه السرعة في احتساء الخمر ولم يبدأ بعد المساء والاحتفاء به، تغير لون الملك تدريجياً وبدأت تحمر عيناه كما هي عادته في الصباح بمجلسه، وزاغت نظرته ولكنه خمن أنها الحرب التي تشغل باله والدماء التي تُسْفَك ومصير المملكة بين يديه، مع الشكوك التي تنتشر بعجز الأميرة أفيين في حسم الحرب مع المتمردين. أفاق من حججه التي ساقها للملك حين لمحه يلقي بظهره على الكنبة وترمق عيناه سقف المكان كما لو كان يحلّق في فضاء واسع. ساد صمت رتيب لوهلة لم ير خلالها السنمار ملامحَ الاحتفال الذي توقعه من الملك إلا حين احتسى السائح كأسه دفعة واحدة، كان واضحاً أنه ثمل وبدأ على مشارف التأرجح، هل ثمة ما يؤلمه من الداخل أم مجرد تعبٍ تسرب منه؟ كان وجهه يشبه الغابة مساء خريف حين تكتسي بالشحوب، انتصب فجأة وهو يقترح عليه.
"ما رأيك سنمار نحرر أنفسنا الساخطة من عتمة المكان ونعتق مشاعرنا من الظلمة، تعال نستنشق خلسة هواء الجبل من شرفتك التي صممتها كما لو هي قصيدة شعر غزلية؟"
"هواء الجبل ملاذي سيدي كلما ضاقت نفسي"
"إذن اتبعني نحلق في الهواء ونعلو في السماء"
****
بزغَ القمرُ ساخطاً بقوة ضوئه الذي شق كتل السحب السوداءَ الداكنة، نثر ضوء خيوطه من السماء منحدرة كأنها نسيج عنكبوت ظلل الفضاء، كان ثمة موجة برد قارصةٌ سرت في بدن الإخباري رغم سترة القطن التي ارتداها، وانزلق رأسه يترنح بحدة النبيذ الملكي الذي تجرعه من الأمسية الرتيبة التي لم يلمح خلالها ما وعد الملك من احتفاء به، كان يرنو ببصره نحو السماء التي شطر ضوء القمر المكتمل وسطَها، وشعر من دون توقع بقطرات من رذاذ تلطخ وجهه، رفع رأسه نحو الأعلى فرأى سلسلة من الرذاذ تتدفق وتبلل ثيابه، التفت نحو الملك الذي شُغِل بتأمل السماء وكأنه مسافرٌ بخياله نحو أفق بعيد.
"هل هي الحرب التي تشغله؟"
تساءل في داخله إلى أن انتبه للملك الذي توجه نحوه قائلاً وقد عاد من رحلة التأمل والتحديق في السماء.
"هل يزعجك المطر سنمار؟"
"أبداً سيدي هو مجرد رذاذ يُنْعشنا ويُزَخْرفنا بفسيفسائه، لكن أخشى عليك سيدي من البرد"
سكب الملك للإخباري كأسه واحتسى هو نصف كأسه بشدةٍ ومرارة ثم انتصب واقفاً، تحرك بضع خطوات في المكان، تأمل السماء والأفق وسرح مع القمة الجبلية المطلة على الوادي، عاد أدراجه مترنحاً قليلاً وخاطب المعماري قائلاً.
"ماذا لو أُتيح لَكَ تصميم قصرٍ آخر بذات الإبداع لغيري هل تفعل؟"
ابتسم الإخباري وأيقن بحدسه أن الملك ثمل، لقد خشي أن يأتي بقصر آخر غير هذه التحفه لغيره؟ ليته يعرف أن القصر صُمِّم للأميرة أفيين وكل نفسٍ تنفسه وهو يرسمه، وراءه طيف الأميرة أفيين، لو يعلم الحقيقة؟ كان ذلك همْس سره المدفون في أعماق قواعد هذا القصر، تخيل لو تبوح الدماء التي سالت في بناء القصر، والضحايا الذين صُرعوا خلال تشييده، لو كل هذه الأسرار تنفرط من عقالها وتبوح لانفجر بركان السماء.
"لا سيدي"
"من يعلم غيرك بسرّ حجر الرخام الذي يَتَحَكم في هذا القصر؟"
"أنا وأنت سيدي"
"وأفيين"
"احفظ سرك الجلل واخمد نار غيرتك واستعن بالآلهة لتمنع سقوطك من حافة الغيوم، لا تفضح حبك ولا تخض في غابة الأحراش الرمادية التي تكمن بداخلك، صلِّ للحب الذي جنيت ثماره طوال السنين كحقل قصب من تلك الحقول السرية التي رافقتك وأنت تجمع حجر القصر وترص الفسيفساء وتركن قناني النبيذ وتنبذ الموت وسفك الدماء، تأمل الآن حروفك وزِن كلماتك وتابع بقية السهرة الملكية ذات الأفق المفتوح على الهواء والليل، حدد وجهتك واغتنم فرصتك واهرب. انهبِ الأرض ركضاً وتخفَّ ما وسعَك الدرب، فالمجهول يلاحق خطواتك المتعثرة، تَخَفَّ في الأحراش أو انضم للغيم وذرْ روحك في الهواء، فأنت نادل السماء التي تنتظرك مع الغروب، احرق سفنك وأوراقك واكسر قلمك الآن قبل أن تحاصرك الريح وتكسر مراكبك وتمزق أشرعتك، اهرب قبل الأوان"
قهقه من تلك الخواطر الجياشة التي قذفت به لوهلة غاب خلالها عن الوعي ثم استعاده، وانتبه فجأة على صوت رياح شديدة الوطأة تهب من الجهات الأربع وتحول رذاذ المطر إلى وابل من البَرَد والثلج، كأنما الدنيا انقلبت رأساً على عقبٍ، وزفرَتِ السماء بخلع معطفها، وقطعَ البرق حديث الشجن، حلَّ الصمتُ برهة، لحقَه توجس وخوف وهلع ساد المكان، كان البرق إيذاناً بتغير الطقس، ما حث الملك بعد تردد اقتراح الولوج للداخل، لكن الإخباري ركض وراء مصيره المحتوم حين تمسك بالمكان وفضل المطر والهواء والبرد على الانصياع لإرادة الملك التي بدت كما لو تراجعت عن نية مصير الثرى.
"هل تتوقع أن نفلت من هذه المحنة العصيبة؟ أنت معماري ومهنتك الهندسة والتشييد وتعرف بغريزتك أسرار الهدم والبناء كيف ترى مستقبل هذه المملكة؟"
رأى وجهَ الملك وقد بلله المطر، انزوى الاثنان في ركن واقٍ عن زخات الماء، جلب الملك قنينة الشراب وحمل الإخباري كأسي الشراب، وركنا بعيداً عن المطر الذي هدر مدراراً.
سكب الملك كأسين ناول أحدهما الإخباري وراح يحتسي من الآخر، حين أفرغ الكأس اعتدل في جلسته، واستعاد رباطه، وقال بنبرةٍ باردة شابها الغموض.
"إذن أنت وحدك من يعلم بسر القصر"
استغرب المعماري اجترار السؤال هذا المساء لأكثر من مرة، لكنه أرجع الأمر إلى الخمر التي لعبت بعقل الأعور، استدار نحوه ورد بنبرةٍ مؤكدة.
"نعم سيدي"
تربع الملك على قدميه فوق الكنبة المحاذية لسطح الشرفة، نظر للمطر بالخارج ثم سرح بعيداً وبدا وجهه كما لو يأسف على أمر ما قام به أو يزمع القيام فيه، خمن الإخباري بأنه قد يوشك على عزل الأمير نهار الصباح أو إبعاد الأميرة أفيين، كان حزيناً إلى حد أن شعر هو بالرأفة تجاهه، وأمِل أن يسعفه بالكلام لكنه خشي أن يكون ذلك تطفلاً عليه، لأول مرة منذ عرف الملك تأخذه الشفقة عليه، فقد نفذ الحزن من عينيه ولون بشرته، لم يلمْه على ما هو فيه من أسى على ما تمر به مملكته من محنة.
"لماذا لم تطلع الأميرة على السر؟ أليس لديك ثقة فيها؟"
حار بأمر الملك الليلة الذي راح يناوره فيما يتعلق بالقصر والأميرة، رفع كأسه واحتسى منه رشفة وأجاب سؤال الأعور بقوله.
"لدي ثقة سيدي بالأميرة"
"إلى أي مدى سنمار؟"
تردد في الجواب إلى أن لحظ الملك حيرته فبادره بنبرة باردة باغتته؟
"متى عَلِمت سنمار بحمل الأميرة إفيين؟"
لم تعدْ الأمسية الدافئة التي وعد بها الملك الإخباري بالاحتفاء فيه كرد جميل على إنجازه القصر، لقد أضحت أمسيةً باردة ثقيلة كنبرة الملك الآن وهو يحشره في حمل أفيين، ما الذي يسعى إليه في هذا الوقت الشاق؟ ساد الهدوء المكان إلى حد سمع فيه الإخباري صوت دقات قلب الملك،كان يشعر بضربات قلبه تتصاعد وفسر الأمر بأنه النبيذ وبرودة الطقس.
"علمت سيدي من خلال ما تردد في القصر، أظن منذ شهرين أو أكثر"
"أخبرني هل تحب الأميرة؟"
فزع من السؤال المباشر، لم يدُر بخلده ماذا رمى إليه الأعور من ذلك؟ هل قصد أنه يحبها كولاء مثله مثل كثيرين غيره؟ أم عنى عشقها وهو ما خشيه وأرعبه، أثار فيه السؤال حنينا للأميرة التي لا يعلم وضعها في هذا الوقت بالذات، وما تواجهه من عسر الوضع، أحس بأنها وحدها تصارع موجات التمرد والتدخل الخارجي وشكوك الملك والشعب وفي قدرتها على حسم الأمور، وفوق ذلك حَمْلها الذي أوشك أن يبلغ شهوره الأخيرة، شعر نحوها تلك اللحظة بعاطفة جياشة ولم يعد يعبأ برأي الملك أو شكوكه أو ما يعنيه ويرمي إليه من ألغازه التي تُشْبه الطلاسم وهو يلقيها عليه، تجرَّع كأسه بحدة مرة واحدة وأعاد الكأس مكانه فارغاً ما دعا الأعور ليسكب له المزيد.
"أراك متجهما سنمار؟"
قاطع حديثهما صوت خطوات قادمة من على بعد، التفت الملك فرأى أحد الجند ومعه وزيره السابق للأمن ومستشاره القريب الأمير امرؤ القيس، تقدم ببطء من الملك ووقف على مسافة كما لو يستأذنه في الأمر قبل أن يتحدث إليه.
"نعم يا امرؤ القيس لا تخبِّئ شيئا فالإخباري من العائلة ولا نُخْفي عنه سرّاً تحدثْ"
"سيدي السائح لابد وأنك علمت باقتحام قصرك القديم والخبر..."
قاطعه الملك قائلاً من غير اكتراث.
"إنه قصر مهجور ولا قيمة له، لقد هجرناه حتى إننا لم نشدد الحراسة عليه، إلا كتيبة صغيرة يبدو أنها لم تصمد في وجه موجة الغوغاء"
لمح في وجه الوزير السابق للأمن امرؤ القيس ومضةً غامضة ذات مغزى، بدا الرجل خلالها متردداً بالكلام فيها ما حث الملك على القول بنبرةٍ من لم يعبأ بشي.
"أخبرني ما تضمره وافترض الإخباري غير موجود معنا"
ابتسم الإخباري الذي يعلم ما يكنُّه الوزير امرؤ القيس من عداء للأميرة أفيين التي وراء إقصائه، وما يضمره من كراهية لها، رأى ذلك في وجهه لحظة وصوله المباغت، أزاح نظره عنه فيما تقدم الوزير السابق خطوتين من الملك الذي أشار له بالجلوس، فيما صوت المطر يهدر عبر الحاجز الخارجي يرافقه وميض البرق.
"سيدي ليس الأمر اقتحام القصر فحسب، بل ثمة خبرٌ جلل، إذا أذنتَ لي قبل أن يصل لمسامع الشعب، ما قد يُوْقد ثورة ثانية علينا، سيدي السائح لقد أفرج المتمردون عن سجناء ومحتجزين وجدوهم في سراديب وسجون داخل القصر، منهم الوزير أوس الأسود والوزير الوزان وبعض القادة من الشرطة والأمن، بل وعثروا بين النساء على جارية تُدعى نسيم الليل التي قيل إنها اختفت"
صمتَ الوزير السابق لدى رؤيته وجه الملك وقد شُطْر وانبثق منه شبحُ طوفان يوشك أن ينفجر، لمح الإخباري وميض بهجة في ملامح الوزير السابق، وأثر شماتة لم يستطع إخفاءها، أدرك أن ثمة من يتصيد للمرأة التي تقاتل الآن بشراسة لإنقاذ المملكة، لكن بالوقت نفسه صعق بوجود الجارية نسيم الليل محتجزة بسردابٍ تحت القصر، شعر بغصة وانقباض وأدرك أن وتيرة الأنباء التي ترد مع تسارع الأحداث ينبئ بانقلاب قادم لا يملك تكهناً بمداه ولا أين سيضرب؟
"إذن كانت نسيم الليل طوال الوقت تحت الأرض التي يدوس عليها يومياً دون أن يعرف عنها، لعنة على الغيرة التي تولد هذا الهوس، ليس الحب ما يدفع لهذا الجنون بل هوس الامتلاك"
في الوقت المدلهمِّ الذي جرى فيه صوته الداخلي يشيع في نفسه التكهنات والوساوس، ورغم وجعه الضاري في أعماقه مما سمعه عن حبيبته الجارية التي لم يكن ذنبها سوى أنها أحبته بجنون، إلا أنه لم يرد للأميرة أفيين أن تَلْقى من جراء ذلك مصيراً دموياً، كان يشعر بدنو نهايتها يتلمسه فيما يجري حولها، وتيقن أن الجميع تخلوا عنها بمن فيهم الملك ذاته، وها هو عدوها الأمير امرؤ القيس يكيد لها مستغلاً ما قامت به من فاجعة في حق أوس الأسود الذي كان بمثابة صديقه، وما ارتكبته من فجيعة في حق جاريته نسيم الليل "هذه هي أفيين" هذا ما توصل إليه من قناعة.
حين همَّ امرؤ القيس بالمغادرة متخذاً من وعد الملك له بالتصرف حجة، أدرك الإخباري من ملامح وجه الأعور أنه حسم أمره مع الأميرة وهذا ما أفقده صوابه رغم صدمته منها تجاه ما ارتكبته في حق فتاته نسيم الليل بدافع الغيرة.
قبل أن يتوارى وزير الأمن السابق ومستشار الملك عمرو بن امرؤ القيس مسرعاً، التفت نحوه الأعور وقال بنبرةٍ باردة كالثلج.
"انتظر أمري بعد ساعة في قصر الحُكم ومعك الوزير صفد والقائد نعمان الهزل واعتقلوا المدعو نيشان حالاً"
خرج الآخر ورمق الأعور سنمار بنظرة مبهمة وقال بنبرةٍ أخفت ما في نفسه من مرارة.
"كل هذه الفوضى سببها هذا الفتى المدعو نيشان، فقد لطخ أيدينا بدماء أصدقائنا والموالين لنا"
سرح برهة وعاد مستدركاً.
"أين كنا سنمار؟ آه لم تجب على سؤالي العفوي، هل تُحْب الأميرة أفيين بعدما سمعته عنها للتو؟"
أدرك متأخراً أن نهاية الأميرة حلت وأن حفلته التي توقعها مكافأة له على تصميمه القصر الأسطوري قد أفسدها أخيراً الوزير عمرو عدو عشيقته اللدود، شعر بأن لابد له من رؤيتها بعدما يخرج من هنا حتى لو تطلب الأمر منه التضحية. كان حبُّه لها في تلك اللحظة قد فاجأه بمداه، عزم أن يقف معها حتى لو أدى به الأمر للتضحية بحياته من أجلها، لكن بذات الوقت أشفق على الملك القابع أمامه وهو يلعق جراحه ويمتعض بمرارته التي ظنَّ أن أفيين هي من أوصلته لهذه النهاية، ثم ساورته رغبة بشغفٍ جمٍّ في الوصول إلى جاريته نسيم الليل فقط لو يعلم بمكانها وسط فوضى المدينة الغارقة في الدم. اختلطت الرغبات بداخله وكانت أهمها مغادرة المكان للاطمئنان على أفيين، لم يبلغْه خبرٌ عنها منذ يوم غادرها ولم تتصل به لمعرفة أخباره، تذكر على حين غرة مبعوثها الذي أبلغه منذ يومين بتأجيل لقائه بالملك تحت أي ظرف حتى لو استدعى الأمر الاختباء عندها، لم يهتم بتلك الرسالة منها التي شددت ألا يذهب للقاء الملك، وتجاهلها لاعتقاده بأنها ستفرض عليه ألا يفشي سر الحجر الرخام للأعور، ربما رغبة منها في الاستحواذ على السر أو الهيمنة على القصر بامتلاكها وحدها القوة السرية التي تهدم القصر لو شاءت. كان يعي مدى شغفها في الاستحواذ على السلطة بدليل نهر الدم الذي سُفِك من دون أن يطرف لها جفنٌ، حتى الملك نفسه الذي اشتهر بالعنفوان والبطش، خرَّ في النهاية ورضخ للضغوط وبدأ يساوم ويحاول ويستجدي الوساطات الخارجية لوقف نزيف المملكة التي بدت ممزقة الأوصال ومهشمة الأطراف، حيث سيطرت كتائب المتمردين على اختلاف مشاربهم على مدن وقرى وشوارع وطرق وميادين حتى بدت سيطرة الجيش تتفتت وتنهار فرقُه، ورغم ذلك ظلت متشبثة بما تبقى من بعض الأطراف وجزء من قلب العاصمة التي بلغه للتو أنهم اقتحموا قصر الأعور القديم وأفرجوا عن سجنائها السريين الذين اعتقد بأنهم رحلوا أو ماتوا في ظروف غامضة.
حين توقف هطول المطر بشدة واكتفت السماء بالرذاذ، اقترح الملك قبل المغادرة احتساء الكأس الأخير معه على حافة قمة الجبل بالشرفة المطلة على الوادي السحيق لاستنشاق نسيم الغابات، أبدى الإخباري سعادته بتلك الرغبة الملكية واعتبرها في سريرته مدعاة للتفاؤل بتحرره أخيراً من قبضة الأعور الناعمة التي لم ير منها المكافأة، بل قضى المساء بالليل يحتسي الخمر معه وينصت لمناوشاته الغامضة ذات الطلاسم التي لم يحل شيئاً منها سوى أسئلته عن الأميرة أفيين وعما إذا كان يحبها؟ هل كان ذلك بدافع الشك أم مجرد خيالات انتابته بعد احتساء الخمر والنبيذ مما جعله يثمل ويندفع في طرح الترهات؟
انتصب الأعور ولحقه الآخر، سارا نحو خارج الصومعة حيث ما زال الرذاذ ينسكب بتوءدة، فيما ظل قرص القمر رغم الغيوم القاتمة الكثيفة يقاوم بضوئه الذي أراقه في هيئة خيوط غليظة تسللت عبر الغيوم، تقدم الملك ووقف بطرف الصخرة المحاذية لحافة الجبل ما دفع الإخباري للتقدم منه خطوتين.
"حذار سيدي السائح أن تنزلق فالأرض رطبة من المطر"
التفت الملك نحوه وكانت ابتسامته حزينة وكئيبة ولم يسعف الوقت سنمار لتفسير مصدر الشجن في ابتسامة الملك الذي راح يتأمل الفضاء من حوله، وراح الهواء البارد يداعب خصلاته البيضاء فيما لمعت قمة رأسه التي بدت للإخباري صلعا.
"هل تخشى عَلَيَّ سنمار؟"
"من لي غيرك سيدي فأنت ولي نعمتي"
"حقاً؟"
تقدم الإخباري من الملك ووقف بمحاذاته يتطلع للسماء وكأنه يستمد منها جسراً يوصله لحافة القمر الذي لاح له مكتملاً حينها، تحركت جذوةُ شغفه واشتعلت أطرافه حين تذكر فجأة جسد أفيين الملتهب فأوقدت فيه الذكرى شعورا بنزوة خاطفة لولا صوت الملك الذي أيقظه بنبرةٍ غامضة مفعمة بالحزن.
"وهل تخشى على أفيين أيضاً؟"
"نعم سيدي"
"أنت تحبها سنمار"
أخيراً أدرك بعد عناء مفتاح اللغز، وفك عقدته لوهلة وخُيِّل له فضح علاقته كل الوقت الذي أمضاه مع الأميرة فيما الأعور على علم بما جري بينهما. ما كاد يرفع رأسه ويرمق عيني الأعور الملتهبتين الساخطتين حتى باغته الآخر بعبارة قضت على أنفاسه.
"أظن سنمار أن من ينمو في أحشاء أفيين هو طفلك وأنت تعلم وهي تعلم والآلهة تعلم، فهل تظن أن هذا الفعل الخطيئة يرضي الآلهة؟ صحيح الأميرة وثنية ولكن الخطيئة تظل خطيئة حتى لو كانت الآلهة ذاتها هي الزانية"
صوتُ رذاذ المطر على الصخور الجبلية يرنو كأنه موسيقى السماء، رنا الإخباري نحو الأرض ورأى السفح مكتظاً بالأحراش وبعض شجيرات وأشجار الشتاء، وهو يودع نهاياته مع هذا البرد والمطر والهواء العليل الذي حمل نسمات مشبعة بأريج الأزهار في السفح، لحظ حينها وهو يجول بعينيه في المكان بعضَ الأعشاب الخضراء وورود صفراء صغيرة نبتت بين شقوق الصخر بحافة الجبل الذي يقف عليه ما أوقد في أعماقه إحساسا بالخيلاء حين داهمته قوة خفية خارقة جعلته يؤمن بحبه للأميرة ولا يخجل من بعد اللحظة الجسمية الراهنة من البوح بعشقه الإلهي لها.
"نعم سيدي السائح، أعشق سيدتي أفيين صوتها يرن في مسمعي الآن، وطيفها يغمرني بوشاحٍٍ من وحي هذا القمر الساطع في السماء رغم ركام الغيوم التي لم تتمكن من إطفاء نوره"
التقط أنفاسه وتنهد واستنشق الهواء ونظر في بؤرة عين الأعور بجأشٍ وقال بنبرةٍ جريئة وهو يشير للقمر بأصبعه.
"أنا الليلة سيدي السائح مثل هذا القمر الجريء الذي لم تخفِه الغيوم، لا أستطيع أن أُخْفي عشقي بعد الآن"
"إذن اصعد السلم إلى القمر"
دفعه من فوق قمة الجبل.
"عانِق القمرَ يا لص القمر"
لفظ الأعور عبارته الأخيرة بمرارةٍ، كما تلفظ النارُ لهيبها وقد دفع بيديه المتورمتين سنمار الإخباري من فوق قمة الجبل.
رقصٌ في الهواء
على تخوم شرفة السحاب ومن نافذة القمر طار الجسد، حلق السنمار كالحلم المتعثر على رصيف البرق أسيراً بين الغيوم كفارسٍ خجول يتوق لامتطاء خيله بجسارةٍ على جسر السماء، نزع ملابسه وتعرى في الهواء ليتطهر من رواسب الأرض. أخيراً تحرر من ندوب البشر والحجر وظل يصعد من الجبل إلى السماء بينما كانت تناديه الأرض، لم يستمع لها، سد أذنيه وأغمض عينيه وأطلق جناحيه بلا روع أو هلع فقد فك قيوده التي أدمته طوراً من الزمن. حان له الوقت ليعبر المسافة التي حلم بها نحو آلهة السعادة الأبدية، حمل معه الذكريات والخطايا والذنوب ليغتسل بليل المطر، أضحى الهواءُ قصرَه الخالي من الضغائن وملاذه من القبر، لن يستيقظ من الحلم فالهواء منحه صكاً أزلياً لن يخشى بعد الموت، فقد بنى له قصره من عناقيد الفسيفساء التي ستغني له نفحةً من شهوةٍ وهو يرقص بنشوة العشق الذي لن ينازعه عليه إله أو بشر، حلق في الهواء ورقص وغنى وسبح بعيداً عن الأرض.
"طلفك يا سنمار، عروسك يا إخباري، جاريتك ومنزلك المهجور وحديقتك اليابسة، فسيفساءك التي تركتها على الأرض، كلها أخذتها معك وانتقمت من ذنوبك وأضحيت حراً طليقاً"
كان يغني وهو يسبح في الهواء ويهوى منحدراً نحو السماء بعيداً عن الأرض التي نادته ولم يصغِ لها، الآن سيحلم بلقاء نسيم الليل بعطر امرأة من دون أن تغضب أفيين، وسيزرع بويضته فيها وينجب طفله منها ولن تزعل أفيين، فهو في الهواء الطلق للأبد ولن يخشى الحرب ولن يقشعر من سفك الدم، ولن يلوذ بالفرار، فقد سافر للسماء كسفينة صغيرة تسبح في الفضاء، فثمة ضوءٌ يدله على الطريق حيث يصعد للأعلى رغم محاولة الأرض اليائسة جذبه لها، لكنها الموسيقى السماوية تحلق به تجاه النجوم التي تختبئ وراء الثقوب السوداء، ليعبرَ منها إلى حيث آلهة الأزل.
"طفلي وجاريتي وأميرتي، بيتي ولوحاتي وحديقتي وسفري المؤجل كلها أخذتها معي في رحلة العودة للحياة عبر الجرف السماوي، تركت ورائي الدم والقتلى والعشق الجسدي، خلفت هناك النوم الطويل وهربت من القبر إلى حيث أرق حراً دون حدود ومن غير فضول يلاحقني، تركت القصور كلها والبحار والمدن والقرى وأخذت طفلي وجاريتي وأميرتي وها أنا أرقص صعوداً للسماء"
كانت تلك أغنية سنمار الإخباري وهو يصعد من فوق الجبل إلى عكس اتجاه الرياح، فبينما قذفت يد الأعور به نحو السفح لم يشعر حينها بأنه يهوي للأرض ولم يجتحْه الخوف من السقوط، لم يترنح رأسه ولم يأخذه ثقل الجثة إلى بوتقة الهلع، ظل يسبح في الطريق وهو صاعدٌ للسماء يرقص في الهواء معه أحلامه وذكرياته، ربما هي فتنة النبيذ أو قصعة الخمر، ربما هو عطر نسيم الليل يفوح، ربما هي أفيين سبقته للسماء، لعله الخدرُ تسرب إليه أو المنحدر صعد نحوه أو اليأس من الأرض، لعله الهروب من الحرب وسفك الدم، ربما كل هذه ومعها سكرة الموت الأخيرة تولد فيه حياة أخرى ينسلخ من ذنوب وأدران الأرض وخطايا البشر إلى حيث السديم الأبدي.
كالسلم المزخرف بفسيفساء الخيال، ومثل سطوة الأبدية التي تملأ الفضاء بزخارف إلهية، كالفراشة التي زخرف الإخباري هيئتها بفسيفساء زهرية وطبعها بواجهة القصر تحت اسم قصر أفيين. كالريح والطوفان والحجر المتدحرج، كنسمة هواء الجبل تشبه مذاق طعم شفتي الأميرة الفاتنة، كهذا الكون بسمائه وسفحه، بالهواء الفارغ المترع في الفضاء الفسيح. طار الإخباري كفراشة الفسيفساء في الهواء.
علِق خياله فيما هو يسبح طوال الوقت الذي امتد زمنا سحيقا في نسيم الليل ومصيرها لمن تركه، شعر بأنه خذلها ولم يبحث كفاية عنها، لم يبذل ما بوسعه أكثر، فقد استسلم للمجهول يختطفها بينما كانت بقربه طوال السنين السالفة، بل كان يسير فوق الأرض كل يوم بينما هي تقبع بالأسفل لم يسمع أناتها، كيف فاته أن يدرك أن غيرة المرأة الأخرى الجائرة قذفت بها في دلهمِ الظلمة وسحقت روحها، ولم يضع في باله أنها ضحية عشقه الأخرى؟ كانت ترزح تحت الأرض بجحيم الصيف وصقيع الشتاء وجفاف الخريف من غير أن يكترث بها كأنها قطعة خرقة رماها في قاع الأرض.
"كان بإمكاني البحث والتقصي، كان يُحتم عليَّ أن أخوض حرب البحث عنها، قبل أن أستسلم كان يحتم ألا أنساها، ألا أهملها"
انتابه الألم واعتلى موج الندم وهو يسبح للأعلى ومعه ذكريات الجمال واللذة والحب الذي احتساه من ثغرها وامتصه من جسدها النحيل الرهيف الذي يشبه النبيذ، زرع شعورُه المُبّرح بالذنب في نفسه الوله الدامي لها، فاستحضر صورتها وأخذها معه وهو يسبح في الهواء الطلق، وَلَج معها السماء.
"آهٍ جاريتي نسيم الليل، سامحيني تَرَكْتُك بالأرض تنوحين لكن روحك السامقة معي وأنا أصعد للسماء"
ثم ما لبث أن انعطف وهو يعبر الهواء أن تزاحمت ذكرياته بالأميرة أفيين التي خلفها وراءه من دون أن يعلم كيف ستتدبر أمرها مع التمرد وتنتقم له؟ كيف ستستقبل رحيله عنها؟ وهل ستلومه على تركها والرحيل؟ هل ستؤنِّبه لأنه لم يسمع كلامها؟ هل ستلومه لأنه عصى أمرها وأَفْلَت لسانه؟ لماذا تأخر عن موعده معها وأجل الرحيل خلف الحدود؟ هل ستزجره على كل ذلك أم ستقبل بمصيره وقد تلحق به إن لم تسبقه حتى الحين؟
حرب البنفسج
رواية صدرت عن دار الفارابي - بيروت
تقع في 510 صفحة من الحجم المتوسط تصدر قريباً عن دار الفارابي في بيروت عبر تقنية ترتكز على المونتاج وتنطلق مع بداية شرارة حرب الرق في القرن الثامن عشر في الخليج العربي وعصفت بالمنطقة وأحدثت شرخاً اجتماعياً وسياسياً وقبلياً.
تتناول الرواية الشريحتين الاجتماعيتين الغنية والفقيرة المدقعة التي تعيش قاع المدينة والبحر واليابسة وانعكاس الأحداث عليهما من خلال صراع اجتماعي وسياسي قبلي واستعماري وانتشار السحر والشعوذة ويتجسد في علاقات عدة بما جرى عبر الأحداث التي مرت وخاصة ما وقع منها من محاولة غزو البحرين من قبل تركيا وقطر حينذاك وقد أعلنت الحامية البريطانية حالة الطوارئ، فيما على الضفة الأخرى تنتشر العلاقات العاطفية وصيد النساء والاتجار بالرق.
تتناول تلك الحقبة التي ولد فيها الصراع وتنامي مع منتصف القرن التاسع عشر وفيه تبرز الشخوص منذ طفولتها لتشكل نسيجاً للمرحلة التالية التي انفجرت فيها الأحداث الدامية.
تغوص الرواية في زمن الرق بين البحرين وبقية الساحل العربي المتصالح، تبدأ الأحداث مع انفجار الحروب واشتداد تجارة الرق وما رافقها من مظاهرات واحتجاجات وما تلاها من تداعيات دموية ارتبطت بالرق والنفوذ وحروب القبائل وقراصنة البحر والصراع على السلطة.