عائد من خلوتى المحببة فى حديقة النادى.كنت أقرأ كتابا عن "الجسد"يحوى بحوثا علمية ونفسانية لكاتبات وكتاب من تونس ولبنان والسودان واليمن.فى طريقى الى بوابة الخروج عبر ممر محاط بالشجيرات والزهور،فوجئت بها قادمة تعترض بجسدها الرشيق طريقى وتتوقف أمامى مباشرة وهى تغرس نظراتها فى وجهى ، مثلما انغرست فى جسدى قطعة من حديد العربة التى دهستنى!..بعد فترة صمت متسائل من جانبى صاحت فى دهشة استنكارية: -غير معقول! -أفندم؟! -ألا تعرفنى يا أستاذ صبرى؟!
أرهقنى الكون.كلما غصت-مدفوعا بعشق الحياة-فى حقيقة من حقائقه، تبين لى حين أطفو منها أنها كانت وهما ، كلما غفوت صحوت لأجده حلما..وإذا بعين بصيرتى تنفتح على الكشف بأن حصيلة كل الحقائق قبض الريح. -يخيل الى أننا التقينا من قبل،ولكن معذرة فأنا لا أتذكر -لايمكن..أنا لاأصدق أنك نسيتنى، وأنا التى أعادت الحياة الى جسدك ضاعفت عبارتها الصاعقة من ذهولى، فمن ذا الذى بمقدوره أن يعيد الحياة الى جسد قد أنهك واستنزف من شدة الإشباع لحد فقدان الذاكرة!
1-قراءة خاطئة لعينيها: القصر واسع كبير، تحف به جنان ملونة تتناغم فيها موسيقا الزهور مع عطر الأنفاس وأهازيج الطيور، والماء ينساب فى جداوله الصغيرة صارخا بخصوبة الحياة،تطرب لخريره الآذان..حول حوض السباحة الوردى الأنيق تتناثر المقاعد والأطباق والزجاجات والكؤوس ومجموعة من الخلق لم يجمع شملهم إلا الرغبة العاشقة فى الارتشاف بنهم من رحيق الحياة الساحر.موسيقا راقصة تنبعث من الكاسيت،يتمايلون لها فى نشوة وانسجام وقد ملكوا الدنيا بأسرها.
تخرج من الماء.تأكل قليلا وتشرب وتنتشى وتشعر بأن رأسك خفيفة وروحك طائرة وقلبك يرقص فرحا، فتعاود النزول الى الماء، ثم تعود لتأكل وتشرب وتنتشى وتنزل الى الماء..وكيف أنول لذة حبك مالم ألتذ بحب مخلوقاتك الرائعة، اللاهية فى الرقص والطعام والقبلات والموت والشراب والجنس والمال والصولجان والمرض والعمل والغناء واللهو والسهر والطرب والغفلة وقوة الإيمان؟!.. تعاود الخروج من الماء وأنت تضحك ملء فمك وقلبك من شىء لاتعرفه ولاتهتم بأن تعرفه..هى السعادة بعينها تشرق على روحك..يا ألله!.. -سامحينى.ذهنى مكدود وروحى مرهقة..من أنت؟ عربيد أنت فى عشقك للحياة.لاينقصك شىء وينقصك كل شىء.كلما شربت ازددت عطشا، ولكنك مقضى عليك بالعشق ، فلا فرار منه – فيمايبدو- حتى الموت.
على حافة الحمام تنام على بطنك. ترتكز هى من فوقك على ركبتيها حتى تستطيع التمكن من جسدك.تصب الكريم السائل على ظهرك وتدلكه بأصابع خبيرة وكف مكهرب بالقوة والرقة.تبدأ من رقبتك وتنتهى عند أصابع قدميك..خدر جميل..نعيم غارق أنت فى لجته يازول.صحة وحيوية وفتوة ومال وجاه وزوجة وبنين وبنات وأصدقاء محبين ، فماذا تريد ومتى تشبع؟..تضع فمها فى أذنك وهى ضاغطة على ظهرك وتهمس: - جسمك جميل تتطاير صيحات العابثين ويعلو صفيرهم مثلما تتطاير الأبخرة فى دمك الساخن حتى تكاد ترتطم بسحب النشوة العالية التى يتسامى لحنها الى الأفق الأعلى.تمر بأصابعها ضاغطة على ظهر الفخذ طالعة نازلة، وقد تزوجت مرتين طلقت فى الأولى وترملت فى الثانية فقررت ألا تخوض تجربة ثالثة، وعاشت لمتعتها المتاحة دون أن تكتنفها شبهة الحرام. -ذكرينى ببعض أسماء أصدقائنا المشتركين -كيف أذكرك بغيرى وكان جسمك أمامى عاريا كيوم ولدتك أمك؟!
أجسام كثيرة تفرقت ولن يجىء اليوم الذى تجتمع فيه من جديد،وإلا ماكان للزوال سلطانه الطاغى.حين كان الجمع لم يكن أحد يفكر فى الفرق،فلا موت ولاسفر ولا مرض ولا معايش،وإنما استقطار لنشوة اللحظة حتى الثمالة،وكأنها آخر لحظات العمر،وما أسهل العرى والتعرى حينذاك،حيث لامعنى للخفاء أو التخفى أو الإخفاء..أيعقل أن يلتقى الجسدان يوما فيتحدان فى نشوة روحية مقدسة هى لب الحياة، ثم تندثر حميمية اللقاء فينكر أحدهما الآخر؟..وكيف تجمعنا تلك اللحظة السرمدية الإلهية التى لاتنسى ثم تنسى،فيتساوى شبق الحياة بسكرة الموت؟..وكم هو مؤلم أن تنام ذاكرتى-التى كانت شديدة اليقظة-هكذا فجأة أمام كائن انسانى قادم من زمن ليس ببعيد.إن كانت صادقة بحق فيما قالت،فأين راح هذا الوقت من عمرى وكيف أدركه الفوت ثم أعقبه التلاشى وأنا لم أتجاوز بعد الخمسين؟..
الذى حدث أن جسدى قد تحول بفعل أناملها الذهبية الى جمرة من نار،فأصبحت أسيرا لتلك اللذة الملتهبة المتسامية ولو حدث ذلك أمام الجميع..قرأت فى عينيها نفس الرغبة إن لم تكن أقوى وأكثر سحرا وغموضا،وكنت واثقا من صحة قراءتى. كانت أكثر منى جرأة إذ سبقتنى الى إحدى غرف القصر بعيدا عن العيون اللاهية.رغم ذلك ترددت طويلا،إذ لايقبل عقل أن يتم ذلك تحت أبصار كل هؤلاء وأسماعهم،وكيف يكون الأمر حينئذ لو اقتحم أحدهم-من باب المداعبة الثقيلة-خلوتنا؟.. تحينت اللحظة المناسبة حتى أروغ منهم وهم فى غفلة من اللهو والضحك والمجون.فتحت الباب الذى دخلت منه..كانت تصلى..هل هى؟.. -هاه..هل تذكرت؟ -أبدا فى رقة أم حانية قالت لى وقد أوشكت أن تربت على ظهرى ثم تراجعت: -تعال.انى أدعوك للغداء معى بالمطعم.لعل ذهنك مرهق قليلا،لكنى لن يهدأ لى بال حتى تتذكرنى من تلقاء نفسك. -هو العبث بعينه أن أقبل دعوة للغداء مع سيدة لا أعرف حتى اسمها
دخلنا المطعم وأنا فى غاية من الخجل من نفسى،إذ لم يسبق لى أن تعرضت فى حياتى لمثل هذا الموقف،والحق أننى أهوى العرى من حيث أنه قرين الصدق ودليل الوضوح وحنين النشأة الأولى وفطرة الطبيعة، فالزهور لاترتدى مايستر جمالها، والحيوان لاعورة له رغم أن له عقلا يميز به بين ما ينفعه وما يضره، ومن أسف أن هذه الحسناء المتألقة تركت كل ما فى هذا الكون من حقائق ورقائق ودقائق، فلم تذكرنى منه إلا بالعرى.. تتساقط المياه على جسدى لتزيل رغوة الصابون المعطر.أرانى فى المرآة بطولى وعرضى وتناسق أعضائى فأتذكر البعد الذهبى والأنثى المقدسة وأذكر الله وآدم وحواء والجنة والدنيا ، وما تحمله الرأس من خواطر شتى. أتعجب كيف أنه محكوم على هذا الجسد المتفجر بالحيوية أن يدفن يوما تحت التراب ليستحيل من بعد زمن محدد الى تراب هو الآخر. غير أنى أكون أكثر ذكرا وقربا حين أغوص فى ماء البحر بعينين مفتوحتين على العشب والصخور والأسماك الملونة الهائمة والأصداف القابعة فى أوكارها وصخورها، والحياة المائجة بأجسام أكثر جمالا من مخلوقات الأرض، لاتعرف الظلم أو القسوة، وإنما تخضع بالفطرة لقانون الحياة. -اسمحى لى أن أكون صاحب الدعوة -لن أقبل بذلك إلا اذا تذكرتنى الآن 2-شجــرة الخلــد: قالت لى انها خائفة لدرجة الرعب أن يراها أحد من معارفها أو معارفى بصحبتى.أوضحت لها أن هذا الخوف المرضى سيفسد علينا متعة اللقاء.قالت فلنذهب الى مدينة أخرى،وذهبنا بعيدا عن مدينتنا بأكثر من مائتى كيلو متر.حجزت غرفة بأحد فنادق المدينة.لحظة أن أغلقنا الباب من خلفنا بدأت ترتعش.امتزج الخوف بالرغبة فانبعثت من الجسد موسيقا الإنسان الأول.تعانقنا ودفنت رأسها فى صدرى وانهمكت فى بكاء مثير..المرة الأولى التى..."أتوسل اليك أن تحمينى من نفسى.لنكتف بالعناق.دعنى أبثك همومى وأشجانى واستمع الى بقلبك.لو تجاوزنا ذلك فسوف نخسر أنفسنا ونخسر كل شىء"..هل هى؟..أم أخرى؟!.. انكمشت رغبتى وارتخت أوتارى.هل هى؟..رحت أربت على ظهرها وأتحسس شعرها كما لو كانت طفلة أنجبتها من صلبى.قبلتها فى رقبتها فتهيأت روحها لجسدى حين قتله الوهن فسارعت بتغطية جسدها لأطفىء النار وقلبى ينتفض بالرحمة..ولاتقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين. ونحن منهمكان فى الطعام، وأنامرتبك، وهى مصرة على أن أنشط ذاكرتى بنفسى،قالت: -إذن فأنت مصر على إنكارى رغم أنى مازلت أحتفظ بهديتك -أنا أهديتك شيئا؟!.. -نعم، ديوان لنزار قبانى
3-الذكر والأنثى: الخلق مرآة الحق،والحق مرآة الخلق،وحب الجسد الذى أنهكنى ماكان إلا حنين الجزء الى الكل،واشتياق الفرع الى الأصل،والتجرع من الكأس المقدسة،والانتقال من غربة الوجود الى قلبه وبؤرته،ومن اللذة الظاهرة الزائلة الى اللذة الباطنة المخلدة،ورغم اشتهائى العنيف،إلا أن عبقرية رأسها أعمتنى عن سحر جسدها الزاعق بفتنة خفية غامضة،لايستطيع أن يسمع همساتها إلا من اقترب وفهم وأحب وأخلص وذاب وفنى..وقال لى الهاتف فى حنان: -تعال -الى أين؟ لم يجب عن سؤالى وإنما قال بنبرات تقطر محبة: -لاتأت بدونك فحملت نفسى على كاهلى حتى ناء بها،وما أن اقتربت-منهوك القوى- حتى ألقيت بحملى كله أمامه وقلبى غارق فى مقام الخوف،وعيناى يقطر منهما الرجاء،وقد تذكرت فى التو واللحظة أن ممثلة أوروبية شهيرة قد دفعت لإحدى الشركات مبلغا خياليا للتأمين على مؤخرتها،وماهى الا مخلوق من حرفين كانت بالأمس أثرا بلا عين، فهنيئا للديدان بكنزها الثمين. -فهم وحب وفناء..كل هذا دفعة واحدة؟..إنه المستحيل -أنا أحبك وأريدك،وثقتى كبيرة فى أنك مؤهل للفوز بى -كيف؟ -البداية أن تنظر الى كذات لا كموضوع -الحق أنك جديرة بذلك،فعقلك يزن عقول عشرات من الرجال -هذا مجرد كلام..انما العبرة بالنتيجة -أما كفاك ألغازا؟ فوجئت بها تقوم أمامى بفعل جنونى مذهل،بينما تقول فى تعقل شديد: -سوف أخلع عن ذاتى كل الحجب،ولكن احذر من الاقتراب
عقلها يشدنى اليها بقوة مغناطيسية هائلة لاأرغب فى مقاومتها،فالإنسان فى حقيقته حيادى عالمى لاجنسى.لايهم إن كان ذكرا أو أنثى.ولئن كانت المرأة هى الصورة السلبية للتكامل مع الرجل،فهى التى تهب الحياة وتخلق الوجود من قطرات من الماء هنا وهناك..والليل إذايغشى والنهار اذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى. قبلت التحدى فتماسكت مسيطرا على أعصابى الملتهبة بكل ما استطعت من قدرة حتى يعود تنفسى الى الانتظام.لكنها فاجأتنى بجنون جديد حين قالت بجدية ووقار: -افعل مثلما أفعل، حتى يجمعنا مجال متجانس كان من الطبيعى بالنسبة لمجنون مثلى أن أستجيب لطلبها،إذ استبدت بى رغبة وجودية طاغية أن أخوض تلك التجربة الغامضة حتى نهايتها المجهولة..أو ربما المتوقعة!.أشعلت سيجارة وقالت فيما يشبه المحاكمة: -أنت ترانى مريضة شريرة متلقية دونية سلبية خبيثة مجنونة، محرضة على إثارة الفتنة والشهوة المحرمة.أنت ترى المازوكية منقوشة فى ماهيتى، وأننى لاأشبع ولا أرتوى حتى الموت.قل الحقيقة.أليس الأمر كذلك؟! -لست أرى فيك-وأنت بصفة خاصة- مثل هذه الصفات -قد تكون صادقا،ولكن ألا ترى أن مجتمعنا يحكمه تراتب جنسى وطبقى ومذهبى ودينى،وأنه يصادر حقى فى المتعة أسوة بأى رجل؟..ألا ترفض وأنت زميلى فى الانسانية أن أكون صاحبة رغبة ذاتية حرة نابعة من صميمى مثل الرغبة التى تنبع من ذاتك؟! -ان الذى أراه حقيقة هو أنك تعذبين نفسك بلا مبرر
اقتربت منها فابتعدت فى عصبية. -لاتجعلنى أفقد الثقة بك كلية -لكنى لن أستطيع تحمل هذا العبث طويلا -اذن فلنرتد ملابسنا وليذهب كل الى حال سبيله..اننى أكرهكم جميعا الجسد برزخ الخلود.لغة الروح.عناق الأسرار.تجليات الصعود الى عالم الملكوت..لذعته الساحرة تتفجر ذروتها لتمتص رحيق الحياة فى لحظة إلهية خاطفة،فهل كتب على أن أعيش متأرجحا بين المتعة والعجز؟..وهل هى؟؟..هل هى هذه المجنونة أم أنها أخرى غيرها؟..الذاكرة مقتولة ورغم ذلك فهى تقتلنى. -من أنت بحق الله؟ -أنا الدكتورة ثريا مجاهد
قالتها وهى على يقين من انفراج الأزمة وصحوة الذاكرة من سبات عميق، وقد صدق يقينها إذ انبعثت من ذاكرتى أسوأ أيام حياتى، يوم أن أمسكت ثريا بالمشرط لتستأصل لى رجولتى حتى أستطيع أن أعيش..الواقع أننى تذكرتها منذ اللحظة الأولى للقاء،لكن قوة البقاء حذفتها لى من الوجود. توقفت عن تناول الطعام وقد فقدت شهيتى للحياة.قالت لى: -مازلت أذكر تفاصيل جسدك المثالى بأعضائه المتناسقة المتناغمة المرسومة بدقة الصانع الجليل..وكنت فى خدرك تمثالا فرعونيا مخلدا بالقوة والشموخ.
الاسكندرية15/5/2006