بقلم الناقد : محمود عبد الوهاب
" البحث – في غرفة مقبضة – عن ريشة من طائر البهجة "
في المجموعة القصصية " قطعة ليل " للكاتب أحمد الخميسي شخصيات وأماكن وعلاقات يصورها الكاتب غالبا في إضاءة واقعية وديكور واقعي ، ويرسم ملامحها بخطوط وألوان واضحة ومحددة : فهو في معظم قصص المجموعة يحص على كتابة عناوين الشقق وأسماء القرى والشوارع ومحطات المترو والأحياء السكنية ، كما يحرص على أن نتعرف على شكل ولون قطع الأثاث وإطارات الصور وأطباق الطعام وأقمشة وزخارف الستائر والزهور التي تزدان بها الفساتين . وبنفس الكاميرا ذات الإضاءة الكاشفة لأوضاع وظلال واقعية يصور لنا دنيا المقابر حيث البوابة الحديدية العالية ونباتات الصبار وأسماء الراحلين المنقوشة على الشواهد الرخامية ، وحيث يتجمع أطفال وشحاذون ومقرئون .
ولكن بعض هذه القصص ذات السمات الواقعية تنبثق منها مشاهد ذات طابع خيالي يحمل في طياته شحنات من انفعال مكتوم .. مشاهد تتحول فيها الشخصية الرئيسية في القصة إلي عمود من دخان يتصاعد ويتفرق حتى يتلاشى ، وتواصل الشمس حضورها المبهر الجحيمي خلال كل ساعات اليوم دون أن تسمح لسكان المدينة بقطعة ليل واحدة ، وتهاجم أسراب القطط حجرات البيت وأسرة النوم وتطفو كالزبد على الأسفلت . وربما يتساءل القارئ لماذا تخلى الكاتب عن واقعية التصوير والتناول إلي ذلك النهج الخيالي ؟ وما هي الرؤية الكلية التي يمكنها أن تجمع بين قصص واقعية مثل " السند " و " قرب الفجر " و " نتف الثلج " ، وقصص أخرى يمتزج فيها الواقعي بالخيالي مثل " موج أبيض " ، و " وقت آخر " ، ثم قصص خيالية مثل " قطعة ليل " ؟ وما سر ذلك اللون الرمادي القاتم الذي يخيم فوق عالم القصص ويتسلل إلي خيوط نسيجها ويهيمن على إيقاعها الفاتر الغائر الحزين ؟
أظن ، وبعض الظن حلال ، أن قصص المجموعة لن تكشف للقارئ عبر انطباعات القراءة الأولى عن أبعادها وآفاقها ودلالاتها إذا لم يصنع لها بخياله وبصيرته فضاء فلسفيا وفكريا وسياسيا ونفسيا .. فضاء تتنفس فيه وتبوح بأسرارها عبر علاقات التناسب والتفاعل والتناغم بين حضورها الدرامي والفني والجمالي وذلك الفضاء .. علاقات أشبه ما تكون بعلاقة الكتلة بالفراغ ، وعناصر اللوحة بالمساحة الخلفية ، والأنغام بفترات الصمت . وفي هذه القراءة سوف أقدم للقارئ اجتهادي الخاص في صنع ذلك الفضاء عبر ترتيب محتويات المجموعة ترتيبا أراه مناسبا للكشف عن علاقة القصص بذلك الفضاء المفترض .
وسوف أبدأ مقاربتي للمجموعة بقصة " قرب الفجر " التي أظن أنها حجر الزاوية في البناء المعماري الذي تصنعه كل القصص مجتمعة . في تلك القصة ، ثمة شخص مهيب تتطلع إليه كل العيون وتناجيه حينا وتناديه حينا آخر ، فهو من الغنى والجاه والنفوذ بحيث يمكن أن ينفع كل المنتسبين إليه أو يمكنه على الأقل أن يحميهم ويدفع عنهم الأذى، فإذا لم ينتفع جيل من نفحاته فسوف تغمر الجيل اللاحق بعض عطاياه . يسافر ذلك الشخص إلي كل أنحاء الكرة الأرضية ، لأن أشغاله تملأ الدنيا ، لكنه مهما غاب عن أحبابه لا يقطع معهم الود . يظل راوي القصة في حالة ترقب دائم لرؤية ذلك الشخص ، لا طمعا في كرمه ، ولا أملا في خير قد يحصده من لقائه ، لكنه الشوق إلي التعرف على حقيقته خصوصا وأن أصدقاءه يخلطون تلك الحقيقة بتصوراتهم الذاتية ، ويصبغونها بلون قاتم من مشاعرهم الذاتية . تتعدد الفرص التي يتوقع فيها الراوي أن يرى ذلك الشخص رأى العين ، لكنه في كل مرة لا يأتي ، ولا يعتذر عن الغياب . حدث في مرة واحدة أن لمحه صديق وأشار للرواي نحوه .. كان ذلك في زقاق ضيق ومزدحم بالبضائع ، يتذكر الراوي انفعال الصديق وتهدج صوته وهو يشير نحو الآخر ، دون أن يتذكر ملمحا واحدا من ملامح الشخص المهيب .
اعتاد الراوي أن يحيا سنوات عمره زاهدا في عطايا ذلك الشخص ، مستقلا عنه ، متباعدا عن فكرة الاستعانة به أو الانتفاع بخدماته أو الاعتماد عليه . لكن " الشخص " ظل مهيمنا على حياة أهله وأصدقائه وأفراد أسرته . وأخيرا يدعوه خاله وعيناه تدمعان بوجد وفرح لزيارته في اليوم الذي حصل فيه الخال من ذلك الشخص على وعد أكيد بالزيارة . توافد الأهل على السرادق الكبير الحافل بالأضواء الذي جهزوه لاستقباله . وتمضي الليلة كلها حتى تشرق أنوار الفجر دون أن يأتي الزائر المرتقب ، يخلو السرادق إلا من الخال الذي لم يقطع الأمل ، ويقاوم الراوي النعاس إلي أن يغفو على مقعده ، وفي حلم قصير يراه .. يراه وقد راح يهمس لخاله ، وما أن تنتهي الإغفاءة ويصحو ويتلفت حوله فلا يرى سوى نفس المكان الشاغر . ينثر أحمد الخميسي في ثنايا القصة ومضات تنير للقارئ معالم الطريق إلي استكناه ملامح ذلك الشخص الغامض .. المجهول المعلوم والحاضر الغائب ، الذي يشمل بعطفه كل من يعاني من ضائقة ، المحبوب من الجميع ، لا يكرهه إلا من يخافونه لدناءة في نفوسهم . في المرة الوحيدة التي لمحه فيها الصديق ، كان الموت هناك في موكب جنازة صغير يخترق الزقاق الضيق . وفي تقديري أن ذلك الشخص رمز للمطلق أو لذلك الكائن الميتافيزيقي المتعدد الأبعاد والصفات والذي يضم عباده جميعا في عباءته الكبيرة ، وهناك يتصوره كل منهم بقدر ما يملك من خيال وفكر وعاطفة .
لقد كشف الراوي أن هذا الكيان الكبير المهاب قد صنع من دخان وكلمات وآمال ومخاوف ، ولذا فقد محاه من ذاكرته ، ولم يبق من صوره سوى ذيول من ظلال تغيب في الظلام . لقد استطاعت نفسه الكبيرة مكابدة رحلة الخروج من تلك العباءة الكبيرة ، وأمكنه بقدراته الذاتية أن يحيا فوق أرض بلا سماء ، رغم ما كانت تزدان به تلك السماء من البهاء والاتساع والرحابة ، ورغم ما كانت تغدقه عليه من مشاعر الطمأنينة والأمان، ورغم ما كانت تمنحه له من دروع تحميه من الشر والمجهول ، ورغم ما كانت تخلع على إحساسه بالموت من الألفة والإيناس باعتباره مجرد جسر للعبور من عالم الفناء الزائل إلي عالم البقاء الخالد . ما أن خرج الراوي من تلك العباءة حتى داهمه الموت في قصة أخرى هي " غيمة " عاريا من أي منطق وبلا أسباب يتعزى بها العقل، وفيها تموت الأم فجأة ، فيرصد الراوي ما يجري بعينين اعتادتا مواجهة الحقائق من دون أقنعة أو كذب ، ومهما بلغت تلك الحقائق من قسوة أو صدق جارح .. يرصد موتها الأول حين تلفظ أنفاسها الأخيرة ، وموتها الثاني حين تغيب عن البيت مع كل قطعة أثاث تنتمي إليها ويتخلص منها الأبناء ، ثم موتها الثالث حين يعتقلون روحها الهائمة في إطار مذهب .
يتربص الموت بالراوي مثل وحش قابع في نهاية الطريق ، فيخرج الزمن من كهوف الذاكرة ناشرا أجنحته السوداء فوق الحياة كلها . وفي قصة " نقطة عابرة " سيدمن الراوي تأمل وقع الخطوات الوحشية لذلك الموت وهي تدوس بلا رحمة على مظاهر المجد والعز والأبهة . في تلك القصة كانت ستائر القطيفة القرمزية الداكنة تنفرج عن كوكب الغناء ، فتقف أمام عشاق صوتها بفستان ازدان بحبات الماس ، هي تنحني بامتنان للجمهور الذي استقبلها بعاصفة من التصفيق والترحيب والشغف ، فإذا هدءوا جميعا وتهيئوا لسماع صوتها الساحر طار بهم غناؤها إلي سماء من النشوة والطرب والانسجام .
مضى زمان على موت المغنية الشهيرة ، وخطر للراوي أن يلقي نظرة على المسرح الذي اعتادت الغناء عليه ، فماذا وجد ؟ . لافتة تهرأ ورقها من التراب والمطر ، وباب كان مكسوا بالجلد بهت لونه ، وصالة سكنتها رائحة الغبار ، ومصابيح محطمة ، وكراسي تشققت جلودها ، وستائر انطفأت فيها لمعة شرائط القصب . في قصة " تصادف أنني " ، سوف نقرأ تنويعة أخرى على نفس اللحن ، يعزفها الكاتب بنفس النغمات المفعمة بالأسى على عالم كان عامرا بالدفء والود والمحبة طواه الزمن بين أمواجه الهادرة . في تلك القصة يتعرف شاعر على شابة جميلة خلال دراسته الجامعية ، ويظل يكتب لها القصائد ويرسلها إليها من كل البلاد ومن وراء أسوار المعتقل . وكان لتلك الشابة عينان واسعتان تغدقان على الناظر إليها شعورا حادا بالقوة والوضوح ، وقد ظل لعينيها عبر السنين نفس الألق ونفس القدرة على إغناء الناظر إليها بالطاقة والحيوية . لكن الزمن كان يترك بصماته على جسدها وروحها وإن ظلت العينان متوهجتين وكأنهما تستمدان نورهما من نجوم انطوت في زمان بعيد ولم تعد موجودة . سوف يأتينا الحزن في قصص هذه المجموعة كأنه كل ألوان الطيف ، ربما تتغير هنا أو هناك درجة كثافته ، وربما يتغير إيقاعه ، لكنه يظل هناك جاثما ، يتربص بطائر من الفرح النادر ما أن يرفرف في قصة " نبضة " حتى ينقض عليه .
في قصة " نبضة " يفرح الراوي وزوجته إذ أكد لهما الطبيب أن بذرة تنتمي لهما معا قد نمت في رحم الزوجة ، وقد شاهدا معا صورة تلك البذرة على الجهاز وهي تتشكل جنينا بالغ الضآلة لكنه حافل بالوعود . لكن الزوجة كانت نادمة لأنها حملت في توقيت لا يتناسب مع بطالة زوجها وبحثه الخائب عن عمل . وكان الزوج يحاول تهدئة مخاوفها بابتسامته ، ونبرة صوته ، ولمسة يده الحانية ، وكان يقنعها – دون جدوى – أن الطفل- رغم كل الظروف – قد أتى في موعده ، ولكن ما قيمة كل ما يحاوله والبيت فارغ من الأثاث والصالة باردة وبيوت الأهل والأصدقاء قد نفد منها كل ما بها من محبة ولم يبق سوى الترحيب الفاتر ؟ . لقد فرغت جيوبهما من النقود ، وشرعا في بيع ما يملكان من الذهب والأجهزة المنزلية ، وحل عليهما زمن القروض الصغيرة يطلبانها من الأهل والأصدقاء مع وعد بسدادها في زمن قادم مجهول . والآن هل أن تلك البطالة وذلك الفقر هما كل أسباب الحزن ؟ . إن الحزن قادم حتما في ركاب الاغتراب عن الوطن ومعاناة الحنين إلي أرضه وشمسه وهوائه ، وفي الإحساس الذي يشتعل في القلب كالجمرة بأن الموت في جحيم مصر أبقى من حياة الجنة خارجها . هذا ما نعرفه في قصة أخرى هي " نتف الثلج " ، وفيها يتعرف الراوي على فتاة روسية في مدينة موسكو حيث نمت بينهما علاقة من الصداقة والود ، لكن شعوره بالاغتراب عن مصر ورغبته الجارفة في العودة إليها كان يحول دون نمو هذه العلاقة إلي مستوى الحب أو العشق أو الزواج . يلتقي الراوي بصديقته ، وشعور بالأسى يخامره ، فهو يشهد علامات الذبول في علاقة كانت تنطوي على قوة ووعد . وفي هذه القصة يضع الكاتب بطلي قصته في كادرات واسعة حيث محطة المترو والسلالم الكهربائية وحراس الأمن ، وحيث الأنفاق المظلمة والقطارات الهادرة وحيث تلاحظ عين الراوي بعض ركاب القطار من النساء والأطفال والرجال كبار السن . وبهذا التكنيك في التصوير واختيار الزاويا كانت علاقة البطل بصديقته تبدو مثل شمعة تذوي في فضاء يجلله الحزن ويشيع في أرجائه ضباب رمادي، وتتساقط على أرضه نتف الثلج مثل شرارات متلاحقة تلمع لومضة قبل أن تلقى مصيرها في عتمة الانطفاء.
على درجات ذلك الحزن الذي نقرأ تنويعاته المختلفة في قصص المجموعة سوف نرقى في قصة " إغفاءة " إلي مستوى من الحزن لا يعرفه أو يعانيه أو يدرك أبعاده سوى ذوي النفوس الكبيرة الذين هاجروا بعيدا عن ذواتهم الفردية وطموحاتهم الصغيرة واندمجوا وربما توحدوا في ذات جماعية كبيرة تعلو فوق الذات الوطنية والذات القومية إلي الذات الإنسانية التي تضم كل البشر . في قصة " إغفاءة " كان الراوي ووالده من هؤلاء الذين يحملون لكل البشر بالعدل والحرية والكرامة ويعضون بالنواجذ على ذلك الحلم رغم توحش القوى المتكتلة لوأده ، ورغم تفكك وتهافت القوى التي كانا يأملان في انتشالها من حياة تضاءلت إلي مستوى الكدح للحصول على خبز الكفاف . لقد استطاع الراوي ووالده في تلك القصة – أو كان بإمكانهما - الإرتفاع بروحيهما الكبيرتين فوق أسوار السجن ، وكان بإمكانهما رغم القيد الحديدي اقتناص الابتسام بل والضحكة بذكاء العقل ونبل القلب وغنى الأحلام ، لكن المستقبل الذي كانا يأملان أن يحقق لهما أحلامهما الكبيرة لا يأتي أبدا ، وتتسرب إلي عيني الأب نظرات الشك والتعب ، ويحاول كل منهما بإخلاص حماية ما وعته الذاكرة من وقائع زمان كان يشد بعضه بعضا إلي الأمام .. وقائع كانت تشكل وجودا ملأ القلب قبل أن يعتريه الشحوب والذبول وكأنه كان وهما .
تنحسر الأحلام الكبيرة عن الوجود فيبدو العالم في القصة المسماة " قطعة ليل " وقد استحال إلي نهار جهنمي دائم بلا قطعة ليل واحدة صغيرة ، بكل ما يستدعيه الليل من راحة البدن والنفس والعقل ، وبكل ما يستدعيه من ألق النجوم وبهاء القمر وحنو الخيمة السوداء على البشر المرهقين . تنحسر الأحلام الكبيرة فيبدو العالم وقد فقد ملمحا جوهريا من ملامح اتساقه وانتظامه وتوازنه ، وتحول إلي عالم مختل تهاوت بعض أعمدته فأصبح آيلا للسقوط .. عالم يدور وفق قوانين عمياء يعيش فيه الراوي أيامه ولياليه في قصة " وقت آخر " وكأنه ظل لحقيقة أخرى سرعان ما تزول ، وكأن الراوي يعيش حياة بالية من زمن سابق لرجل آخر استنفدها ثم خلعها لأول عابر طريق.
لقد استولى على الراوي إحساس بأن كل ما يراه في حاضره قد سبق له أن رآه من قبل ، وأن كل ما سيراه في مستقبله قد رآه أيضا . وقد ظل يسأل نفسه إن كان ما يدور حوله حقيقة أم موجا من الصور يظنه حقيقة ؟ ، وما سر تلك الصور التي يراها أمامه تتناسل وتعيد خلق نفسها ؟ وقد دفعته هذه الحالة للظن بأنه مريض ، وأنه في حاجة إلي استشارة طبيب ، لكنه يعود إلي سؤال نفسه : أي طبيب يمكنه أن يجد علة الشعور الذي يتخلله والذي يوحي إليه بأنه يذوي وحده مئات المرات في فضاء عريض أصم خال من كل شئ ؟ . مجموعة " قطعة ليل " قصص صاغها الكاتب أحمد الخميسي في سرد يتدفق بسلاسة وانسيابية وبساطة ، سرد حافل بمفردات من الصور والمواقف والحوارات يتوالى في إيقاع منضبط ورصين ، وفي توازن دقيق بين الواقع والخيال ، وبين الفكر والعاطفة ، وبين الحكي المألوف والتجريب المشروع ، وبين دوائر تتسع لهموم البشر الصغار ولهموم الوطن ، ولهموم الإنسان في كون واسع مجهول .
:محمود عبد الوهاب ناقد وقصاص مصري . مواليد 1942 القاهرة . صدرت له " حكايات من عصر الفرسان " مجموعة قصص عام 1998 ، و " قراءة في إبداعات مصرية " نقد عام 1994 ، و " مقالات نقدية عام 2000 " ، و" فنون روائية " مقالات نقدية عام 2005 عن نادي القصة .