بقلم : حسين سليمان - هويستن - تكساس جهة الشعر - فبراير 2005
الكتاب الأخير - العام 2004- للشاعرة المصرية فاطمة ناعوت "فوق كف امرأة" قدمت فيه ما يقرب عن أربعين قصيدة أغنت أسلوبها وأوضحت رؤيتها الشعرية. ولقد كشفت المقدمة ذلك حين استهلت كتابها بكلمة البير كامو: من العدل أن يأتي الفرح بين وقت وآخر على الأقل. ثم نقرأ تعقيب الشاعرة على كامو بقولها" في انتظار العدل إذا." لقد أوصلتنا الشاعرة بتعقيبها هذا إلى المراد. وإلى الطريقة التي تنظر فيها إلى الحياة.
إنها طريقة مغايرة. إن الرؤية التي حملتها جملة"في انتظار العدل إذا" هي رؤية سوداوية فيه سخرية وعدم قبول لمجمل كلام كامو. فهو لم يخبر الحياة كاملة كما خبرتها الشاعرة. ذلك لأنها تجتاز عتبة تفكيره وترفع سؤالا ليس عن الفرح الذي ينتظره كامو بين الآن والآخر بل عن العدل الذي تشك بأنه سيأتي. إن المسألة كلها تحولت إلى العدل. لقد أزاحت فعل يأتي وجعلته مرتبطا بالعدل وليس بالفرح كما عند الأديب الفرنسي. إذا الجملة تقول حال الشاعرة: ما أبعد الفرح، فكأنه مستحيل. في مخيلة كامو كان يقبع العدل الذي سيفسح الطريق من آن إلى آخر للفرح أن يأتي لكن فاطمة ناعوت تبحث عن الفرح فلا تجده ثم تقفز باحثة عن العدل فلا تجده أبدا: فليأت العدل إذا.
القصائد فيها غرابة ما جعلني أصاب بالخشية من قراءتها كلها بإيجاز وصفحات قليلة تهمل بالتأكيد المغزى الشعري التي فيها. هناك في القصيدة الواحدة عدة وجوه. ولقد شغلتني المقاطع وكيفية الوصل بينها ولم أجده من النظرة الأولى. لقد أكدت لي القراءات المكررة بأن هناك قصيدة أخرى متخفية في الفراغات التي تفصل المقاطع وتكسرها عن التتابع. هناك في القصيدة الواحدة قصيدتين وهذا هو المحرك والدينمو الشعري عند فاطمة ناعوت. لا تكتب قصيدة واحدة بل تكتب قصيدتين وتمزج بينهما محاولة للصهر وما يخلفه من نتوءات نحتية حتى تظهر لنا قصيدة واحدة جنية البحر بجسدين بل بأجساد متعددة.
اقرأ في هذه المقالة قصيدتها المتعب وهي الثانية في المجموعة. إن القلب المخفي النابض والذي حرك القصيدة هو "يقولون ليلى في العراق مريضة" ثم الإطار العام وركيزة العمل يقوم على مقطع جعلته الشاعرة في وسط القصيدة: نعت... ناعت...ناعوت نصر...ناصر...ناصريون ريم... ظبي صغير. أقرأ قراءة فضائية لا حشو مدرسي فيها. وقبل القراءة أريد أن أوضح بأن القصيدة بشكل عام هي صور محمولة على تيار مازال الجدال يدور حوله واعتمد هنا بأنه تيار لا أرضي يخلصنا من الأثقال. إن الشعر للشعراء هو في لحظات الإلهام الحقيقي ليس إلا هدية من الجنان تنعكس فيها الحالة الأولى ذلك من دون عَود مرسيا إليادْ الأبدي. لا أعرف كيف أدخل إلى هذا العمل الشعري المتخلل والمتشابك، فهو فوضى فضاء تنقلنا إليه الشاعرة بصدق وبشجن. القصيدة لريم وليلى! ريم هي العصر العربي الحاضر الذي يكسره الصير. تفتتح الشاعرة قصيدتها المتعب بهذا البيت: " ريم لن تعود فالحوذي مات والحصان يتأمل الحال الجديدة." *
هذه الافتتاحية تنقل لنا خبر القصيدة كلها. فتضعنا في زاوية فاقدين الحيلة كي نسكن فيها من دون وعي. ريم لن تعود إذا! فهذا هو الفقد والذي يشي من جانب آخر بربح تعويض نتوقع أن نجده في مكان ما من القصيدة. يجب أن تعوض القصيدة عنه لأن الشعر هو ربح معادل للفقدان ذلك لتوازن الكينونة كيلا ينقلب أو يتشظى نظام الكون النفسي. والفقد الافتتاحي يحضّر لنزول مبطن يوضحه لنا المقطع الثاني معبرا عنه بالحصان الذي يبحث عن كوة نجاة.
"تدبر أمرك إذاً ثمة سبيل للنجاة بغير الحاجة إلى البرابرة أو البكباشي طويل العنق." والنزول أو النجاة هنا لن تتم عن طريق الاستعانة بالبرابرة أو عن طريق الحصان الناصري طويل العنق. وكنت قد شكلت البكباشي كمرادف للبرابرة لولا إضافة طويل العنق إليه فتحول بهذه الإضافة إلى حصان جموح إن لم نستعن به فإنه سيبقى معادلا يرقد في شبه الواعية يرفع ثقل البرابرة عنا. ( إنه هنا- البكباشي الحصان- كأنه يريد أن ينجو ويتخلص- ويخلصنا!) وهنا تبرز أمامنا مشكلة التمييز: فالاختيار بين البرابرة أو البكباشي يهدي إلى بينة أقرب إلى دليل الشعر منه إلى عدم الاختيار. فعدم الاختيار بين الطرفين ( السالب أو الموجب بالمعنى العامي) كما تريد القصيدة يقرب الرؤية إلى حالة غير متوازنة (هذا إن افترضنا أن البكباشي معادل نقيض للبرابرة) إذا فالقصيدة تقول أن الخلاص هو خلاص بين بين (من دون الاعتماد على الآخر!). هذه الصورة تعكس لنا حالة هروب لها طريقان فإما الخلاص باكتشاف إمكانية النفس وإما الوقوع في شرك الذاتية العنيدة قليلة الخبرة. فالنجاة إذا ممكنة من دون معونة أحد. ومثال النجاة يأتي في المقطع الثالث. " لو أمكنك مثلا التسلل من برواز الردهة قبل سقوطه الحتمي..." هذا مثال واحد للنجاة من عالم متصدع آيل للسقوط. هكذا يموت الحوذي وتغيب ريم فيبقى الحصان وحيدا! فمن هو الحصان يا ترى؟ إنه السؤال الصعب، سؤال القصيدة، ربما تكشف جوابه المقاطع القادمة.
في المقطع الرابع تتداخل البنى ويتعذر سكب المقطع في رؤية واحدة. لهذا سأفكر بأن العالم حاد التناقض ولا يقوم على صيغة واحدة واضحة. فقوانين الكلاسيك بما فيها الحديثة منها ضئيلة الحجم هنا أو أنها لا مكان لها بالمرة. وتطويعها كأداة لرؤية العمل يخلق تشويشا وخلطا. وهنا تأتي ظاهرة الاضطراب الذي هو الفضاء يفتح ذراعيه للفوضى، نحسبها فوضى لكنها ما هي إلا ضيق عبارة وقصر تفسير لجريان هائل مائج. هذا إذن " الحصان يعلم أن استبدال مجموعة قصصية بأربع عجلات خشبية متصدعة، أمر مضحك..." هذا الحصان الذي فقد ريمه يضحك من الاستبدال الذي يذكرنا بالاستبدال الطروادي؟! حصان وعجلات خشبية! وهذا الموقف غير المقبول يحيل المحللين إلى عمل آخر فتقول الشاعرة "لهذا رأى المحللون أن إزاحة الطاولة، مليمترا كل يوم عن مكانها الأصل، طبيعي مادام الكون يتقلص...سيما وقد أفلت المجرم من الدرك بعدما خبأ ريم في جيبه."
أجد هنا صعوبة لصق ظاهرة الحصان مع الطاولة وجمعهما مع تقلص الكون وهروب المجرم وفي جيبه ريم. إلا أن الدخول إلى هذه الفقرة عن طريق الحصان الذي يسخر من كلاسيكيات طروادة في البحث عن الغاية، والغاية هنا العثور على المجرم الذي اختطف ريم، يأخذ بيدنا إلى رصيف الأمان. فالكون يتقلص ولا بد إذا من لملمة المكان إلى حيث يصير إلى نقطة، إلى ريم. وهذا التضاد في المفهوم للحقيقة النظرية والتي تقول بتمدد الكون ينقلنا إلى مكان الحصان، بل إلى واعية الحصان نفسه الذي يكاد يكشف أوراقه هنا. فالكون لا يتمدد بل يتقلص ويصغر في عيني الباحث الدؤوب. إلا أن انفلات المجرم هو ظاهرة تمدد واتساع من جهة أخرى، فبينما الكون يتقلص يتحقق للمجرم الفرار، وهذا ما يؤكد صورة الخروج الكوني للمجرم. لقد تخطى حدود الكون وأصبح في عالم آخر لا يكاد يفقهه الشعر! ولا يبقى علامة دالة تقودنا إلى تصييغ الرؤية سوى إزاحة الطاولة مليمترا وحدا عن مكانها الأصل. فالإزاحة هنا هي ند للتمدد الهارب وبها سيتم حل العقدة. لكن الحل هو حل مليميتري بطيء.
لقد برزت هنا الطاولة كعامل مساعد يقتفي أثر المجرم- أو يماثل هروب المجرم- وهذا الاقتفاء هو اقتفاء كوانتومي ينتمي إلى فيزياء عالم الصغائر حيث القوى ليست أرضية والجاذبية الكونية معدومة تقريبا. هكذا يقرأ الأدب على أنه عبارة ميتافيزيقة متنقلة بين الواقع والتخيل الرياضي. ودخول عالم الصغائر والكوانتوم لا يدل إلا على محاولة القبض على تصور عام تحرره الأرض ويلفظه الفضاء في الوقت ذاته. واقتفائي للصور هذا الاقتفاء هو الطريق الذي أجده مناسبا لكشف أفضية التخييل وإلا فالسؤال يقول فمن أين جاءت الصور إذن؟ الطاولة على سبيل المثال! تقرأ هذه القصيدة قراءة توافقية أي أن انزياح القراءات يجب أن يتوافق مع اختلاف الرؤية إلى نصوص العمل ولهذا فإن التفسير يحتمل أكثر من وجه.
إنها قصيدة حلم لها تفاسير غير منتهية. وهنا في هذه الحالة تبرز أمامنا خطورة كتابة هذا النوع من الأعمال حيث أن التيار فيها هو تيار غير واع ولا يسّير بالعقل بقدر ما يسير بالوحي أو بالنفس التي تقدر القرار وتأخذ ناصية القيادة. إن أي تدخل للعقل سوف يضعف تماسك النصوص ذلك إن لم يدمرها. وأرى بأن العقل وقد تدخل في هذا العمل وتشابك مع عالم غير واع حيث أن نمط التفسير لا ينطلق على أرض ذات رموز واحدة معرّفة على طول المقاطع بل على أرض تختلف فيها الرموز بين النصوص بل وقد تتعارض- المقاطع لا ترتبط بنسيج واحد! لكن البقاء في عالم غير واع للحفاظ على نسج النصوص هي مشكلة كبيرة تتواجه بتكوين الإنسان الذي يغلب عليه الوعي والعقل. إن الاقتراب الشعري إلى هذا النوع من الكتابة يحتاج في الواقع إلى جنون أو هذيان وشطط عقل يلغي العالم الحسي ويلقي غطاءه كي يكشف المابعد. إنها محاولة لرؤية كامل الدنيا- الأسرار القادمة والمستقبل الذي يجيش في الصدور ذلك قبل بروزه إلى العيان.
تحتاج هذه القصيدة إلى قراءة مطولة حيث المقاطع التالية بعيدة كل البعد عن وهلة المقطع الأول والذي اجتاح وجدان الشاعرة فأغرقها في ولهه. تقول القصيدة في إحدى المقاطع: بوسعنا -نحن الذين لا نجيد الحساب- أن نسلي انتظارنا بالجلوس إلى التلفزيون ومراجعة لسان العرب: نعت…ناعت…ناعوت نصر…ناصر…ناصريون ريم…ظبي صغير.
فنحن الذين لا نجيد حساب الحاضر والمقبل علينا أن نتسلى بالتلفزيون وبمراجعة لسان العرب لعل الذكرى تنفع: تجمع الشاعرة هنا ( الناعوت والناصريون وريم- الظبي الصغير، في مقطع واحد محير يكشف نبض القصيدة الصادق والذي يتعارض مع: ثم سبيل للنجاة بغير الحاجة إلى البرابرة أو البكباشي طويل العنق! في هذه المقطع يبرز لنا واضحا الغضب العارم الذي يجتاح الشاعرة فهي لا تريد النجاة على يد البكباشي لكننا إن أمعنا النظر قليلا لاكتشفنا بأنها ليست سوى البكباشي! وهنا تواز آخر: أما ريم لم تعد مريضة فقد ذهب العراق ونشر الرجل بنطلونه على الحبل بعد عصره جيدا من بقاياها. فالعراق قد ذهب وهذا الذهاب هو ذهاب إرادي- فالعراق لم يغتصب أو يحتل بل ذهب يبتعد عنا بعيدا... كي ينشر الرجل بنطلونه نظيفا من بقايا ريم التي أخفاها في جيبه!
إنها قصيدة تحتاج أكثر من وقفة وأكثر من قراءة- قراءة مشبعة- كي نلم بتفاصيلها. ومن الممكن أن تفشل قراءة أو أخرى وهذا الفشل يبرره التعقيد الذي يكتنف القصيدة- والتعقيد الذي ينسرب في العمل ليس هو بالغامض إن رأينا أن الغضب العارم قد أحال المنطق والشعر والعالم إلى شظايا لا تعبر عنه اللغة والحروف بل تعبر عنه قوة الوهج ولجوته في قلب القصيدة.