الدكتور سمير أمين كاتب ومفكر مصري مرموق، وإن كان معروفا خارج مصر وخارج العالم العربي أكثر مما هو معروف في بلده ووطنه. فهو منذ بدأ الكتابة قبل خمسين عاما ظل يكتب أساسا بالفرنسية، ثم تترجم أعماله إلى الانجليزية والعربية. والترجمة العربية لكتابات سمير أمين، والحق يقال، كثيرا ما تكون صعبة الفهم، وإن كانت كتبه الأخيرة أفضل في لغتها العربية مما كانت الكتب السابقة، وقد لاحظت تحسنا ملحوظا في لغة كتابه الأخير الذي صدر منذ أسابيع قليلة عن دار العين في القاهرة، ويحمل عنوان «في نقد الخطاب العربي الراهن».
سمير أمين مفكر ماركسي، منذ بدأ الكتابة وحتى الآن، بل إنه يروي في سيرته الذاتية أن أمه قالت للمفكر الاشتراكي الشهير أندريه جندار فرانك، عندما سألها «متى أصبح سمير أمين اشتراكيا؟» أن ذلك حدث وهو في السادسة أو السابعة من عمره!
ومنذ بدأ سمير أمين الكتابة وحتى الآن لم يحد قيد أنملة عن الماركسية، وما زال يؤمن بمبادئها ومقولاتها، وقد حقق شهرته العالمية على هذا الأساس، إذ إنه قدم مساهمات كثيرة قيّمة لفهم العالم المعاصر في ضوء الماركسية، بينما اكتفى معظم الماركسيين الآخرين بترديد الشعارات والمقولات القديمة، دون تقدم يذكر. ولهذا السبب أحرص على قراءة كتب سمير أمين ومقالاته وحواراته، ومع ذلك فإني أشعر دائما بشيء من عدم الارتياح كلما انتهيت من قراءة كتاب له أو مقال أو حوار، وهكذا شعرت عندما انتهيت من قراءة كتابه الأخير.
فعلى الرغم من أنه، ككل كتابات سمير أمين، مثير للفكر ويحتوي، على الرغم من صغر حجمه (؟؟؟ صفحة) على أفكار كثيرة يندر أن يضم مثلها كتاب واحد، فإن الكتاب يعاني، مثل كتب سمير أمين الأخرى، من أنه لم يغادر دائرة الفكر الماركسي بالدرجة الواجبة، في نظري، وما زال سجين أفكار ومصطلحات وتصنيفات سياسية واجتماعية، كانت معقولة جدا منذ قرن ونصف، ولكنها لم تعد ملائمة لظروف العصر الذي نعيش فيه.
الكتاب يناقش، في ثلاثة فصول أساسية: الخطاب الليبرالي العربي، والخطاب القومي، والخطاب الإسلامي، بالإضافة إلى مقدمة قصيرة، وخاتمة بعنوان «ضبط المفاهيم»، يناقش فيها بعض المصطلحات الماركسية كالبروليتاريا والبورجوازية، وبعض المصطلحات الحديثة نسبيا كالمجتمع المدني والعدالة الاجتماعية.
نعم، سمير أمين يذهب دائما بضع خطوات أبعد مما يذهب إليه بعض الماركسيين الآخرين، ولكنه ما زال حبيس الماركسية لدرجة تدعو في رأيي للأسف. نعم، ما زالت المشكلة الطبقية مشكلة حقيقية في كل مجتمع في العالم، وما زال من الممكن تفسير كثير من الأمور بما يوجد بين مصالح الطبقات الاجتماعية من تضاد.
ولكن الأمر الآن لم يعد أبيض وأسود مثلما كان في وقت ماركس. لقد تعقدت الحياة الاجتماعية كثيرا، وتغيرت صور الاستغلال والقهر، فأصبح المستهلك أكثر خضوعا للقهر من العامل في المصنع، واتسع نطاق العولمة اتساعا مدهشا منذ ماركس، وتقدمت بشدة وسائل الاتصال ونقل المعلومات والأفكار، فاشتدت قدرة المتحكمين في الإعلام على غسل عقول الناس.
تغيرت بالتالي طبيعة الطبقة الخاضعة للاستغلال، بل من المشكوك فيه أن من المفيد تسميتها «بالطبقة» أصلا، وانضمت شرائح واسعة من العمال إلى شرائح المستفيدين من النظام، بل وإلى ممارسي القهر والاستغلال، إذ لم يعد النموذج المثالي «للعامل»، هو ذلك العامل اليدوي البسيط الواقف وراء الآلة، بل تحول في كثير من الأحيان إلى موظف ذي ياقة بيضاء، وقد يصل إلى المصنع في سيارة صغيرة.
لم تعد أهم صور الانقسام في المجتمع هي انقسامه بين طبقة تبيع قوة عملها لأنها لا تجد سبيلا آخر لكسب الرزق، وطبقة تعيش على استثمار رأس المال، بل تعددت صور الخاضعين للقهر فشملت كثيرين ممن يملكون أسهما وسندات، وتعددت صور ممارسي القهر فشملت من يمارس القهر باستخدام «قوة عملهم»... الخ. والاستغلال الاقتصادي لم يعد بالضرورة أهم صور القهر، فهناك أيضا القهر الثقافي، كقهر الهوية وقهر اللغة القومية. ولم يعد الفقر أفظع صور الاغتراب، بل أصبح الإفراط في الاستهلاك صورة مهمة لهذا الاغتراب.
حكى لي أبي مرة القصة الطريفة الآتية، والتي أجد لها مغزى عميقا، وقد تذكرتها بعد انتهائي من قراءة كتاب سمير أمين الأخير: ذهب طفل صغير إلى المدرسة لأول مرة، فسمع المدرس وهو يشرح للتلاميذ حرف الألف وكيفية كتابته ونطقه. وأعجب الطفل بهذا الحرف وشكله، وظل مدة طويلة يفكر فيه. ثم انتقل المدرس إلى الحرف التالي: الباء، ولكن الطفل ظل يفكر في حرف الألف ولم يستمع إلى ما يقوله المدرس عن حرف الباء، ولا عن أي حرف آخر. استمر حرف الألف يسيطر على ذهن الطفل فمنعه من استيعاب أي شيء آخر.
عندما أدرك المدرس عجز الطفل عن استيعاب الحروف الأخرى، طرده من المدرسة، فسار الطفل في الغابة، وهو لا يزال يفكر في «الألف»، ورأى شجرة فإذا به يرى فيها حرف الألف، وإن كان قد لاحظ اختلافا طفيفا بينها وبين شكل الألف، في أعلى الشجرة. ثم رأى نهرا فرأى فيه أيضا حرف الألف، وإن كان ممدودا أفقيا بدلا من امتداده رأسيا. وهكذا أخذ يفسر كل ما يراه بحرف الألف، حتى ذاع صيته واعتبر من أكبر مفكري عصره.
خطر لي أن هذا هو حال سمير أمين: لا يريد أن يتخلى عن هذا الحرف الوحيد، لمجرد أنه استولى على إعجابه وتقديره في أحد الأيام، فلم يستطع أن يرى العالم الواسع إلا صورا مختلفة لحرف الألف.