دق جرس التليفون وأنا جالس على مكتبي. جـاء الخريف، وأصبح الجو صحوا. أتـانـي الصـوت مـن الجانب الآخر للخط، صوت صحفى شاب يسـد رمـق حياته ، عن طريق العمل فـي إحـدى تلـك الصـحف المتشابهة التي تنشر على صفحاتها صور "جمـيلات" المجتمع وهن تتضاحكن، وترقصن في حفلة من حفلات أصحاب المـال، والحكـم، أو تعرضـن أجـزاء مـن أجسامهن الناعمة البيضاء التي لا تتعرض للشمس، أو للجهد، وتنشر معها صفحة دينية بالطبع، ثـم تشـغل صفحاتها بكل أنواع الفساد التي يمكن تصورها باسـم الفضيلة وطهارة اليد، وباسم المعارضة والنقد. بينمـا النظرة والآراء، والقيم التي تروجها هي في جوهرهـا دفاع عن النظام الذي تتظاهر بمعارضته.
قال : " أريد أن أسألك في موضوع أعده للنشر. ما رأيك في الدعوة التي تقول أن هناك أعمالا أدبية في الرواية، والقصـة، والشعر تتعرض للجنس بطريقة تخدش الحياء، ولا تتفق مـع تقاليدنا، وأن أمثال هذه الأشياء يجـب ألا يقرأهـا الشـباب ، والشابات في كلياتنا، وأنه على وزير التعليم العـالى أن يـأمر بإزالتها ؟ " .
سألته ما هي المساحة التي ستخصصها لكلامي ، فقال عشرة أو خمسة عشرة سطراً، فأجبته على سؤاله بسرعة، وعـدت إلى ما كنت فيه . لكن بعد أن انتهيت من عمل اليوم، ورقدت في سریری ، عدت أفكر في السؤال الذي طرح علىّ فـي الصـباح. فالأسئلة التي تطرح علينا في الحياة، ويسألها الناس ، نادراً ما يترك لنا الوقت للإجابة عليها، أو نادرا ما نعطى لأنفسنا الوقت لنتأملها.
تذكرت أنني وأنا طالب في كلية الطـب وبعـدها ، عنـدما تخرجت ، كنت أحب الطب الباطني، ولا أميل إلى الجراحة كعلم، رغم أن أمي في بعض اللحظات كانت تمسك بيدي، وتنظر إليها ثم تقول : " أصابعك أصابع عازف بيانو أو جرّاح ماهر" . ، ورغـم أنها ظلت طوال حياتها ، تحلم بـی جراحـا مشـهورا يتـزاحم المرضي على عيادته، ويكسب مالا وفيرا، لكن كانت خيبتهـا كبيرة ، لأنني بدلا من أن أصبح جراحا مشهورا ، أصبحت نـزيلاً في سجن مصر.
الطب الباطني في ذهني ، كان يتطلب أعمال الذكاء والحـس ، إلى حد أبعد بكثير من الجراحة . فالداء مدفون في الجسم ، قد لا تظهر منه إلا أعراض قليلة على السطح، وأحيانا يكاد لا يظهر شئ خصوصا في البداية. إنه يتطلب معرفة مـا هـو خـفـی العمق. يعتمد على الملاحظة الدقيقة، والصبر في الفحص ، و على الربط بين الظواهر والأعراض الخاصة بالـداء الذي يسعى الطبيب إلى تشخيصه، علىّ الإنصات باهتمام إلـى ما يقوله المريض، وطريقته في التعبير عنه، علىّ معرفة ما حدث له من قبل، وسؤاله عنه . فالصحة والمرض لهما تطـور تاريخي في الجسم ، و علّىّ دراسة الاحتمالات بعقل مفتوح بـدلا من الاصرار على أول انطباع ، إذا كانـت هنـاك أشـياء تثيـر التساؤل. ويتطلب قبل كل ذلك موقفاً إنسـانياً، أن أرى فـي المريض كائنا متكاملا له عقل، وقلب، وعواطف تحركـه ، لـه ماض، وآمال وأحلام تؤرقه، وليس مجرد كبد، أو طحـال، أو مرارة، أو مصران. فالطب مثل الفـن موضـوعه الإنسـان، والحياة، والموت.
لكن الجراحة كانت بالنسبة لى ، تمثل المشرط يقطـع فـي اللحم. كانت تمثل فتح البطن، واستئصال الورم، أو الجـزء أو العضو المصاب. فيها عنف، ودم. كنت ألاحظ أن الكثيرين من أساتذتي في الجراحة يتميزون بالتعالي، والغرور، والميل إلـى التسلط على منُ يعملون معهم، والغضب منهم. وكـان صـغار الأطباء المعجبين بهم يقولون عنهم برهبة المفتون "ده بيضرب بالشلوت". أما أنا ففي كثير من الأحـوال لـم تـكـن تعجبنـى شخصياتهم.
لاأريد أن أبدو كمنُ يصدر أحكاما على عواهنهـا. لكـن طبيعة المهنة والطريقة التي تُمارس بها ، تتـرك أثرهـا علـى الإنسان الذي يمارسها. لذلك في رأيي لا يمكن أن يستقيم الطب طالما أنه مرتبط بالتجارة، والعيادات الخاصة والأجر. التجـارة تتعارض مع كل ما قلته عن الطب. وهذا ينطبق بالذات علـى الجراحة ، لأن كل فتحة بطن، أو ضربة مشرط ، يـدفع مقابلهـا آلاف الجنيهات. والجراحة يمكن أن تتحول عند البعض إلـى عملية خطف، أو سطو على المريض ، وهو لا يعلم عـن أمـره شيئا. هذه مشكلة لا حل لها الآن ، عندنا أو عند غيرنـا. أنهـا إحدى تشوهات النظام الرأسمالي الذي نعيش في كنفه.
لكن ما كنت أريد أن أصل إليه ، من ذكر ما ذكرته ، " فالشـئ بالشئ يذُكر" كما يقول الناس ، هو أن صديقي الصحفي أثار كراهيتي القديمة للجراحة ، لأنهـا مبنيـة فـي الأصـل على الاستئصال والبتر. هي دليل على الفشل . وكلما تقدم العلم ، كلما تقدمت المعرفة، وأساليب التشخيص، والعلاج، كلمـا طبقـت الأمـواج فـوق الصـوتية، وأشـعات الليـزر والأشـعات الكهرومغناطيسية، والعقاقير المنتجة للمناعة، والتأثير على الجينات وغيرها، قل اللجوء إلى الاستئصال والبتر. فهما سلاح العاجز الذي ليس لديه شئ إيجابي يقدمه.
تشبهه حجج الذين ينادون باستئصال الفقرات المكتوبة عـن الجـنس في الروايات، أو القصص، أو قصائد الِشعر. هم لا يدركون أن العمل الفني مثل الكائن الحي ، عندما تقطع منه إحدى ذراعيـه أو أصبع، أو طرف الأنف ، يصاب بالتشوه ويفقـد اكتمالـه. إن المنادين بهذا الرأي ، مثل المنادين باستمرار عادة ختان الإنـاث ، لأن البظر في النساء هو موضع اللذة، والشهوة تقود المـرأة إلى ممارسة الجنس دون ضابط ، ولذلك يجب أن نكبح جماحهـا بهذه العملية الضارة، والمؤلمة إلى أبعد حد . بينما لا أحد ينادي بقطع رأس العضو الذكري في الرجل ، بينما وظيفته مثل البظـر في المرأة تماما. هما موجودان ليقبل الناس في المعاشرة حفاظا على استمرار الحياة، والنسل. الحرمان، والمنع، والاستئصـال والقطع / هي سياسة تقود إلى العقم الفكري والبدني والابـداعي ، عند الرجل والمرأة على حد سواء، هـى فلسـفة الجلاديـن والطغاة، وأعداء الحياة. فالحياة تجربة، ومعرفة، وفهم. الحياة حرية ، بالقدر الذي نمارسها نتعرف عليها، ونفهمها، ونصـبح مسئولين في اختياراتنا ، لأنه أصبح لدينا وعى.
وفي عصر المعلومات، والأقمار الصناعية والفيـديو، والتكنولوجيا المتقدمة ، تصـبح الآراء التي لا تفكر إلا في الاستئصال والمنع مثيرة للسخرية. فلمـاذا ترنو العيون القلقة إلى النصوص الأدبيـة مصـدر التهـذيب الإنساني، والفكر، مصدر الحب والجمال بكل أنواعه ، بما فيهـا من جمال العدالة والحرية، ومقاومة النفاق، والكذب اللذين يحيطان بحياتنا، بينما يتركون أرصفة المدينة مغطاة بزبالة الفكر؟ .
صوت للمستضعفيـن في الأرض
......................................................
أتساءل أحياناً ماالذي جعلني أتحول من مناضل سیاسـی في اليسار ، إلى كاتب روائي ؟؟. لا شك أن هناك أسباب متعـددة لهذا التحول. لكن عندما أقرأ ما يكتبه الكثيرون من أصحاب القلم، والفكر لتحليل، أو تفسير، أو تبرير ما يحدث في بلادنـا ، أدرك أن هذا التحول كان مهما بالنسبة لى ، حتى لا أتخلى عن الدوافع التي جعلتني أترك المهنة الطبية ، لأبحـر فـي الخضـم المضطرب ، لما كنا نسميها في تلك الأيام بالحركة الشيوعية فى مصر .
وأنا أكتب أحيانا في السياسة . لكنني أفعل ذلك لأن فـرص النشر للأشياء التي أريد أن أقولها ، تتقلص باستمرار في العهد الذي نعيشه. وأنا لا أريد أن أقتل بالصمت. أريد أن أعبر عـن ذاتي، عن الأشياء التي تغضبني، وتفرحني. أن يكون لـى دور في الحياة، واسم.
مع ذلك أجد نفسي أكثر عندما استغرق في الفن. فالـذين يكتبون الرواية، ويعبرون بلغـة الفـن ، يـدركون أن كتابـات السياسة، والتاريخ والفكر، خصوصاً في هـذه المرحلـة مـن الردة، قائمة في أغلبها على ادعاءات الحكام، ومستمدة منها. فالتاريخ كتب من قبل، ومازال يكتـب حتـى اليـوم، وكـذلك السياسة والفكر ، على أيدي الغالبين الذين يظـل هـمـهـم الأول ، إسكات صوت المغلوبين في الأرض، وعلى الأخص صوت ذوى الموهبة، أو الكفاءة منهم.
لذلك ما كان موضع تمجيد في أحد الأيام ، قد يؤول إلـى رماد تذروه الرياح ، ليكتب الكتاب ما حدث بالفعل. إن تزييفـات الذين يتحكمون في حياتنا ، يمكن أن تبقى حقائق راسخة، صلبة إلى حين، يخاطر منُ يتعرض لها باسـتقراره، وحريتـه، أو حتى بحياته إذا حاول أن ينفذ إلى جوهر فسادها، إلى الرؤوس التي تقيم حكمها، ودولتها، ومؤسساتها على أساسها. الروائي يدرك ذلك ، فيضع على لسان أبطاله ، ما لا يستطيع أن يقولـه الناس.
الرواية هي مملكة الشك، والخيال الخصب. هي إمكانيـة قول ما لا يسمح به الحكام. هي رؤية، وومـيض المستقبل والحقائق التي لم تولد بعد. فالروائي يستطيع أن يقول للنـاس ، هذا الذي تدافعون عنه كذب وادعاء. أن يكتب ضد افتـراءات السياسة، والتاريخ التي صنعها أقطاب الفكر الرسمي ، يقبعـون في الأدوار العليا لمؤسساتهم.
اليسار أصبح مغلوبا في العالم وفي بلادنا، أو اسـتؤنس لكي يصبح جزءا من تجميل الوضع إن كان يمكن تجميله. لكني مثل الكثيرين مازلت أبحث عن الجمر يختفـى تحـت القـش. فاكتشفت في الفن ، وسيلة للتعبير عن أفكاري بصـدق. كانـت الكتابة الروائية، والفنية ، تجاوزا للهزيمة التي أصابتنا، للفشـل الذي عانيت منه، وكانت استمرارا في الطريق الذي اقتنعـت بسلامته. كانت في الوقت نفسه وسيلة للابتعاد عن التعامـل السياسي المباشر مع الحكم وأجهزته، عـن القـائمين علـى مؤسساته، وعن الخضوع الذي تتطلبه ، ممـنُ يعملـون تـحـت وصايتها حتى في الهيئات التي يقال أنها معارضة لها.
من كتاب " يوميات روائى رحّال " 2008
من كتاب يوميات روائي رحال للدكتور شريف حتاتة
فلسفة المشرط
بقلم: شريف حتاتة - في: الأربعاء 29 يونيو 2022 - التصنيف: مقتطفات
فعاليات
مناقشة رواية النباتية لهان كانج الحاصلة على جائزة نوبل للأدب
نوفمبر 08, 2024
تمت منااقشة رواية النباتية يوم الجمعة 8 نوفمبر 202...
Art Auction: Support Palestinian Families in Gaza
أكتوبر 18 - 20, 2024
Join us on October 18th for Art for Aid, an online...
مناقشة نصف شمس صفراء لشيماماندا نجوزي أديتشي
سبتمبر 28, 2024
تمت مناقشة رواية نصف شمس صفراء للكاتبة النيجيرية ش...
إدوارد سعيد: الثقافة والإمبريالية
يوليو 27, 2024
تمت مناقشة كتاب الثقافة والإمبريالية لادوارد سعيد...