فى بداية الخمسينيات من القرن الماضى ، كنت مسجونا سياسيا فى سجن مصر. لم يكن مصرحا لنا بقراءة الصحف ، والمجلات . أحياناً كنت تقع بين أيدينا صفحة أو قصاصة من جريدة لف فيها أحد المسجونين باكو من الدخان ، أو قطعة من الجبن ، أو رغيفا من الخبز الملكى .
كانت هذه القصاصات تحمل إلينا ، أشياء متفرقة عما يدور خارج الجدران : إعلانا ، أو صورة ، أو خبرا ، أو حادثة ، أو جزءا من مقال . أشياء قد تبدو بلا أهمية ، لكن بالنسبة إلينا كانت إحدى وسائلنا فى اختراق العزلة ، والحصار المضروب حولنا . كنا نفحصها بأهتمام ، ونعيد قراءة كل كلمة فيها مرات ، ومرات ، كأننا وقعنا على كنز ثمين .
وأتذكر أنه فى أحد الأيام ، وقعت على صفحة مقطوعة من جريدة الأخبار فيها صورة لعدد من الرجال . كانوا يرتدون ملابس عسكرية قديمة ، وكابات . وكانوا قد أطلقوا لحاهم السوداء لتنمو دون تهذيب . تحت الصورة ، قرأت عدة كلمات تقول ما معناه أن هناك عصابة مسلحة مكونة من سبعة رجال هبطوا فى جزيرة " كوبا " . وكان الخبر منقولا عن وكالات الأنباء .
لم يلفت الخبر نظرى ، أو يثير فى رغبة لمعرفة ما هو أكثر عن هؤلاء الرجال. كورت الورقة ، وألقيت بها فى جردل الفضلات المستخدم كمرحاض فى الزنزانة . لكن بعدها بسنين ثلاث زحف " فيدل كاسترو " ورفاقة ومن بينهم " تشى جيفارا " على العاصمة " هافانا " ، على رأس جيش شعبى مسلح بعد أن حرروا مختلف أقاليم البلاد . أسقطوا حكم " باتيستا " الموالى للأمريكان ، وأقاموا دولة اشتراكية فى الجزيرة التى تفصلها عن أمريكا ، مسافة لا تزيد عن مائة وعشرين كيلو مترا .
عادت إلىَ هذه الصورة وأنا أشاهد فى التليفزيون ، الزحف الشعبى الذى قاده نائب "الكوماندان ماركوس" ورفاقه الثلاثة والعشرون على مدينة " ميكسيكو سيتى " عاصمة المكسيك يوم 11 مارس الماضى . كانوا يرتدون أيضا ملابس عسكرية قديمة . أما وجوههم فلم تظهر لأنهم كانوا ملثمين . لم تكن معهم بنادقهم . جاءوا بلا سلاح . وفى الميدان الكبير خاطب نائب " الكوماندان ماركوس " الملايين الذين احتشدوا فيه مطالبا بحقوق الهنود .
الأحداث التى تقع فى البقاع البعيدة والمحدودة من العالم لا تثير انتباهنا ، ولا ندرك ما يمكن أن تحدثه من تغيير ، ثم نكتشف بعدها بسنين ، أنها فرضت نفسها على العالم ، وعلى مسار التاريخ . وهذا ينطبق على الحركة التى نشأت منذ سنة 1993 بين الهنود الذين يعيشون فى جنوب " المكسيك " على حدود " جواتيمالا " ، والهنود هم سكان المكسيك الأصليون . عاشوا فيها قبل الغزوات الإسبانية ، قبل وصول الاستعمار القديم إلى أمريكا الجنوبية . إنهم يعيشون الآن فى منطقة مغطاه بالغابات الاستوائية ، والمستنقعات المحاطة بالجبال . يعانون من أقصى درجات البؤس ، والفقر والحرمان . منطقتهم اسمها "تشياباس". السكان فيها من أصول عرقية مختلفة . لكنهم جميعا بنتمون إلى حضارة قديمة ، لها تاريخ طويل . عددهم ثلاثة ملايين يشكل منهم السكان الهنود نسبة الثلث ، أى مليون نسمة . هذا بينما منطقة " تشياباس " تحتوى على أهم حقول البترول ، وعلى أكبر احتياطات الغاز فى المكسيك . كما توفر 40% من الطاقة الهيدروكهربائية فى البلاد .
الحركة التى يقودها ماركوس ورفاقه اسمها " حركة تحرير الزباتستا " نسبة إلى القائد الوطنى القديم " إيميليانو زباتا " ، الذى قاوم الغزاة فى القرن التاسع عشر وقتل سنة 1912 . لكن الحركة الجديدة بدأت منذ سبع سنوات ، بعد سقوط سور برلين سنة 1989 ، وانهيار الاتحاد السوفيتي فى 1991 ، أى بعد أن أخذت الرأسمالية تفرض عولمتها ما بعد الحديثة على سكان الأرض .
فى ظل هذه الظروف العالمية أدرك " ماركوس " أن عصر الكفاح الشعبى المسلح الذى انتشر فى أمريكا اللاتينية أثناء النصف الثانى من القرن العشرين انتهى ، وأن القارة ، والعالم دخلا فى عصر جديد ، لم تعد فيه القوى السياسية فى البلاد المختلفة هى التى تحرك ، وتوجه مسار الشعوب ، وانما قوى أخرى ، هى القوى الأقتصادية الرأسمالية النيوليبرالية المهيمنة على السوق العالمى .
لذلك أختارت " حركة تحرير الزباتيستا " يوم 4 يناير 1994 للظهور على الساحة السياسية فى المكسيك . فهو اليوم الذى وقعت فيه حكومات الولايات المتحدة ، وكندا ، والمكسيك ، اتفاقية السوق الحرة فيما بينها . وحركة الزباتستا ، رغم أنها تحمل السلاح لم تستخدمه إلا مرة واحدة للدفاع عن نفسها ، عندما شنت جيوش الحكومة ، والفرق المرتزقة للملاك الإقطاعيين هجوما مسلحا على مناطق " تشياباس " بهدف سحق هذه الحركة تماما . ولما فشلت هذه المحاولة ، أعلنت الحركة أنها ترفض اللجوء للسلاح ، ولن تستخدمه أبدا إلا دفاعا عن نفسها أمام أى هجوم مسلح . إن أسلوبها هو التعبئة الجماهيرية على أوسع نطاق ، فى منطقتها ، وعلى نطاق المكسيك كلها ، وخلق روابط واسعة مع الحركات الشعبية التى تقاوم العولمة الرأسمالية الموجهة ، لصالح حفنة من الأفراد ، والشركات ، والدول المهيمنة على شئون العالم .
ولانجاز هذه الغاية وتحقيق الهدف المنشود ، تستخدم " حركة الزباتستا " وسائل الأتصال الحديثة ( الإنترنت ) على أوسع نطاق ، وتتحرك كفيلق من فيالق الصراع ضد العولمة . إنها جزء لا يتجزأ من التحركات الشعبية المختلفة التى حدثت فى " سياتل " ، و " دافوس " ، و " جنوا " و " واشنجتون " و " براغ " و "بانجوك" ، و " بورتو اليجرى " وغيرها .
الزحف على عاصمة المكسيك
0000000000000000000000000
بدأ الزحف الشعبى على " مكسيكوسيتى " يوم 24 فبراير 2001 ، خرج "ماركوس" ورفاقه الثلاثة والعشرون من غابة " لا كوندون " فى منطقة " شياباس " ، وساروا فى موكب سلمى غير مسلح مسافة ثلاثة آلاف كيلومتر . انضم إليهم الناس طوال الطريق إلى أن وصلوا العاصمة . أنه زحف يذكر بزحف " غاندى " ضد ضريبة الملح من مدينة " أحمد أباد " إلى شاطىء بحر البنغال ، التى أندلعت بعدها حركة عارمة ضد الاستعمار البريطانى فى الهند .
أنضم إلى زحف " الزباتستا " شخصيات عالمية مثل " جوزى ساراماجو " الكاتب البرتغالى الحاصل على جائزة نوبل سنة 1998 وعضو الحزب الشيوعى ، والمخرج السينمائى الأمريكى " أوليفرستون " ( مخرج فيلم اغتيال كينيدى ) والنقابى الفرنسى "جوزى بوفيه " رئيس اتحاد المزارعين الذى قاد مظاهرة فى جنوب فرنسا لإغلاق محلات " ماكدونالدز " ، والممثل الأمريكى " روبرت ريد فورد " ، والكاتب " مانويل فازكاس موننتلبان " ، و " دانيل ميتران " أرملة رئيس جمهورية فرنسا ، وأعضاء من البرلمان الأوروبى ، وغيرهم .
وفى طريقة إجتاز الزحف اثنتى عشرة ولاية من أفقر ولايات المكسيك ، وعندما وصل إلى " مكسيكوسيتى " امتلأ الميدان الضخم الذى يتوسط المدينة بأكثر من مليون شخص من الرجال ، والنساء ، والشيوخ والأطفال .
قال " ماركوس " فى وصف هذا الزحف : " هذا ليس زحف ماركوس ، ولا زحف حركة الزباتستا . إنه زحف الفقراء جميعا ، وزحف جميع الشعوب الهندية فى العالم . زمن الخوف انتهى . إن هناك معركة كبرى تخاض فى العالم هى بمثابة حرب عالمية رابعة . حرب بين أنصار العولمة المفترسة ، وبين كل الذين يقفون بشكل ، أو آخر ضدها. فكل الناس ، والقوى ، والأشياء فى العالم ، التى تحول دون أن تفرض هذه العولمة سيطرتها الكاملة ، ودون أن تتوسع إلى أقصى مدى مهددة بالفناء . إن نظم ، وقيم ، وثقافة السوق تريد أن تفرض نفسها فى كل مكان . إنها تفرض نفسها ليس فقط على الحكومات ، ولكن أيضا ، على الإعلام ، والمدارس ، والأسرة . أنها لا تترك مكانا فى المجتمع للإنسان إلا بمقدار قدرته على الإنتاج ، والشراء لصالحها . إنها تخرج من حسابها الجزء الأكبر من البشرية التى لا تستطيع الرأسمالية الانتفاع بها . وهذا ينطبق على السكان الأصليين فى أمريكا اللاتينية وعلى الهنود فى تشياباس ، وغيرهم من القوميات ، والأعراق المحلية . فالمطلوب هو القضاء عليهم . لذلك نحن مع جميع الفقراء فى العالم . مع كل القوى المناهضة لهذه الرأسمالية المعولمة " .
من كتاب " فى الأصل كانت الذاكرة " 2002
فقراء العالم يزحفون
بقلم: شريف حتاتة - في: الاثنين 13 فبراير 2023 - التصنيف: مقتطفات
فعاليات
مناقشة رواية النباتية لهان كانج الحاصلة على جائزة نوبل للأدب
نوفمبر 08, 2024
تمت منااقشة رواية النباتية يوم الجمعة 8 نوفمبر 202...
Art Auction: Support Palestinian Families in Gaza
أكتوبر 18 - 20, 2024
Join us on October 18th for Art for Aid, an online...
مناقشة نصف شمس صفراء لشيماماندا نجوزي أديتشي
سبتمبر 28, 2024
تمت مناقشة رواية نصف شمس صفراء للكاتبة النيجيرية ش...
إدوارد سعيد: الثقافة والإمبريالية
يوليو 27, 2024
تمت مناقشة كتاب الثقافة والإمبريالية لادوارد سعيد...