تشير" فرجينيا دانيلسون" فى كتابها عن أم كلثوم إلى دور الأغنية في تنمية الوعي الوطني ، هذا الدور الذي تنامى في الفترة ما بين الحربين الأولي والثانية ، لقد تأثر المطربون بالتدهور الاقتصادي الذي أصاب الجميع ، فنشطوا إلى تنظيم رحلات إلى الريف ، وغنوا فى الساحات والنوادى والمقاهى ، أدى هذا إلى دمج الفنان في الحياة اليومية التي يعيشها العامة ، ومن ثم التفاعل معها ، قدم سيد درويش وبديع خيري نموذجاً رائداً لالتحام الفنان بالجماهير ، عندما التفتا إلى المآسي التي عاشها الناس ، فاستلهموا أغانيهم من الشارع وبلغته عبروا عن مشاعر الصنايعية والفلاحين والفئات المهمشه في المجتمع ، وعرف الغناء ـ آنذاك ـ لونا جديداً يقال له (الأغنية الوطنية ) ثم تطور هذا اللون وبلغ ذروته في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى مواكباً ومؤازراً لثورات التحرر الوطني في كثير من البلدان العربية ، فسمعنا من يغني للجزائر ودمشق وبغداد وصنعاء وبيروت وفلسطين، هكذا لعبت الأغنية دوراً في نمو الوعى القومى وتأكيد مفهوم العروبة وإبراز معنى وجدانى للوحدة العربية يتجاوز بها معنى الشعار السياسى ليصبح سلوكا ومشاعر، وساعد على هذا انتشار الإذاعات العربية من المحيط إلى الخليج على نحو ماجسدته إذاعة صوت العرب .
كما أن دور الأغنية لم يقتصر على المعنى القومى فامتد إلى معانى إنسانية وعاطفية واجتماعية عملت على تقويم الشعور الحضارى للإنسان العربى وقامت بدور كبير فى التربية الوجدانية والثقافية له ، مثال ذلك أن أغانى أم كلثوم أعادت للعامة علاقتها بالشعر العربى القديم ، فغنى الناس وراءها حمامة الأيك ، وأراك عصى الدمع، ناهيك عن رباعيات الخيام ونهج البردة وغيرها من الشعر الفصيح المضمخ برائحة التراث .
اسمعوا أم كلثوم وهى تغنى :
معللتى .. بالوصل والموت دونه إذا مت ظمآن فلا نزل القطر
انسوا الكلمات الرائعة لأبى فراس، واستشعروا بحة العطش والتهدج فى صوتها وهى تغنى الشطر الأول، واتساع الصحراء وصرخة اليأس في المقطع الثانى.
(ياسلام ياست .. عظمة على عظمة )
ومعروف أن أحمد شوقى استثمر صوت محمدعبد الوهاب لينتشر شعره بين الناس ، لكن عبد الوهاب ـ الذكى ـ غنى لشعراء آخرين مجددين ومن مدرسة متمردة على مدرسة شوقى، فغنى لجبران خليل جبران (سكن الليل):
سكن الليل وفى ثوب السكون تختبى الأحلام
وسعى البدر ، وللبدر عيون ترصد الأيام
فتعالى يابنة الحقل نزور كرمة العشاق
علنا نطفئ بذياك العصير حرقة الأشواق
أسمعى البلبل مابين الحقول يسكب الألحان
فى فضاء نفحت فيه التلول نسمة الريحان
لاتخافى يافتاتى فالنجوم تكتم الأخبار
وضباب الليل فى تلك الكروم يحجب الأسرار
لاتخافى فعروس الجن فى كهفها المسحور
هجعت سكرى وكادت تختفى عن عيون الحور
ومليك الجن إن مر يــــــروح والهوى يثنيه
فهو مثلى عاشق كيف يبوح ؟ بالذى يضنيه
غير أن الأغنية اشتهرت أكثر بصوت فيروز، حيث لحن عبد الوهاب الأغنية خصيصاً لصوتها الذى يشبه رنين الذهب، وربما رأى أن صوتها أقدر على تمثيل شعر ابن بلدها جبران ، كما أحيا صوت فيروز الموشحات الأندلسية وتذوق الناس معها مآثر الجمال فى شعر عنترة الذى كنا نتصوره ـ قبلها ـ مجرد قصائد من الفخر البطولى والحماسة الملتهبة على نحو ما صورته لنا الكتب المدرسية، فإذا به دفق من العذوبة والرقة :
فلقد ذكرتك والرماح نواهل منى
وبيض الهند تقطر من دمى
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم
( غريب أمرك يا عنترة، كيف ذكرك بريق السيف بابتسامة عبلة؟ ربما فكر في أن الموت أقرب إلية في تلك اللحظة، فآثر إلا يغادر الحياة، إلا ومعه ابتسامة عبلة، التي أصبحت خالدة في الثقافة العربية، خلود ابتسامة الجيوكاندا)
بحبك يا لبنان علشان خاطر عيون فيروز
من المهم أن نتوقف عند تأثيرات الغناء على تطور الشعر ، فن العربية الأول ، إذ يمكن القول إن الشعر بدأ في الانتباه إلى قصور التعبير الرومانسي عن مواكبة الفوران السياسي والاجتماعي من خلال الأغنية، فالتغيرات الموجعة التي أحدثتها الحروب سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة ،ونمو النزعة التحررية كان لهما تأثير قوي علي شعر ذلك العصر، ورغم ما كان للرومانسية من إسهامات متميزة فقد صاغت لغةً وصوراً بلاغية متعارف عليها بين أتباعها لا علاقة لها بعالم عربي كان يوجه وعيه المتنامي بعناصر واقعه السياسي والاجتماعي ، فطالت الانتقادات نزعتها الهروبية وعدم نضجها وانفصالها عن الواقع وافتقادها إلى معني يشكل جوهراً ثابتاً لها ، وطالت إبهامها الشديد وافتقادها إلى الدقة وإفراطها في مخاطبة العاطفة وعبارتها المعسولة المدغدغة للحواس .
وعلي نحو مفاجئ شرع الموسيقيون والمطربون والشعراء – في الأربعينيات من القرن الماضى – في تكوين رصيد فني يهدف إلي التحدث موسيقياً ولغوياً بطريقة أقرب إلى الناس مما كانت عليه أشعار الرومانسيين ، كما نهضت الموسيقى من مجرد السلطنة والتطريب إلى نوع من التعبير الجمالى عن الشعور العام للمجتمع ومواكبة تغيراته ، وقد جسد التحالف الجديد بين أم كلثوم وزكريا أحمد وبيرم التونسي باكورة هذه النهضة التى استمرت وبلغت أوجها فى الخمسينيات والستينيات ثم بدأت فى الانخفاض شيئاً فشيئاً حتى وصلنا إلى عصر أغنية الفديو كليب وتضاءل دور الكلمة فى الأغنية ، وفقدت الموسيقى هويتها العربية ، وتقلص دور الأغنية إلى مجرد مداعبة الغرائز ومغازلة الحواس ، وراحت تدور فى معانى أكثر سطحية وسذاجة ،كما أنها فقدت ـ أيضاً ـ رصيدها العاطفى والوجدانى ، وليس أدل على انحطاط الأغنية العربية فى عصرنا وتخلفها عن مواكبة لحظتها التاريخية ، من اختفاء الأغنية الوطنية والاجتماعية فى وقت نحن فيه أكثر ما نكون إلى إعادة شحن الشخصية العربية وتزويد رصيدها القومى والحضارى ، وهكذا فالأغنية المعاصرة تكاد تكون منعزلة تماماً عن الواقع وتجسد حالة هروبية سقيمة .
هكذا يبدو لى أن نهوض الغناء وهبوطة مرتبط ـ بطريقة ما ـ بنهوض المجتمعات وهبوطها ، فالغناء ليس ترفاً وتسلية ، بقد ماهو التعبير الجمالى والملموس عن الشعور العام لمرحلة ما بسبب تأثيره المباشر فى الجماهير بمختلف مستوياتها ، وهو يختلف فى ذلك عن الفنون الأخرى التى تعكس ثقافة نخبوية مثل فنون الأدب وغيرها ، وإذا كان هذا النزوع الهروبى يمكن تمريرة فى الفنون النخبوية فهو غير مقبول ـ على الإطلاق ـ فى الفنون الجماهيرية التى أهمها الغناء ، وبسبب هذه الجماهيرية فإن الغناء يعتبر أحد أهم محددات الهوية لمجتمع ما ، فلكل مجتمع أغانيه وموسيقاه كما أشار الفليسوف الكندى (ت ـ 874 م) الذى أثبت أن الغناء العربى فن قائم بذاته ، لاهو بالفارسى ولا الرومى بالرغم من أن العرب اقتبسوا طرائق هؤلاء القوم فى الغناء كما أخذوا عنهم بعض آلاتهم مثل ، العود لكن العود فى يد المطرب العربى صار عربياً فلكل أمة فى آلة العود طريقة ليست لغيرها .
لقد عنى المثقف العربى منذ القدم بالغناء ، وحفلت المكتبة العربية بميراث هائل عنه ، فأقدم كتاب وصل من أسلافنا عن الغناء والموسيقى هو ( كتاب النغم ) الذى ألفه يونس الكاتب فى أواخر الدولة الأموية ، ثم جاء بعده الخليل بن أحمد الفراهيدى فوضع الإيقاع ، الذى بلور رؤيته الفذه عن فن العروض ونهض بالشعر نهضة بازغة ، ناهيك عن مؤلفات إسحاق الموصلى الذى كان مصدراً ثراً لأبى الفرج الأصفهانى ، ولقد ذكر لنا الأصفهانى ما يشارف الخمسين كتاباً عن الغناء والنغم وأخبار المغنيين .
لعل هذا النهوض البازغ للأغنية فى تاريخنا العربى يفسر لنا نهوض الشعر خاصة والثقافة العربية عامة ، ويفسر لنا تكون الرصيد الحضارى للإنسان العربى ، وفى المقابل فإن تدهور الأغنية يفسر لنا ـ أو على الأقل يعكس ـ ما نحن عليه الآن .
يلخص لنا ابن خلدون هذا المعنى فيقول : " إن أول ما ينقطع عن العمران عند اختلاله وتراجعه هو صناعة الغناء " .
سؤال أخير لا أجد له تفسيرا، كيف وصل الغناء بنا إلى سطلانا.. سطلانا؟.