«طيّ الخيام» مجموعة قصصيّة للكاتب حمدي أبو جليّل صدرت عن «دار ميريت» في القاهرة.
حسن داوود نوافذ - الاحد 4 نيسان 2010
العم عطوة، الأكبر سنّا في قبيلته، أجرى على نفسه ما رآه مناسبا لمكانته الحقيقيّة، لا تلك المحمولة من الماضي في أذهان أقربائه ومخيّلاتهم. صار يكره إسداء المشورة مثلا، تلك التي تُعطى عادة لشيوخ القبائل إكراما لهم وتعويضا لهم عن كبرهم، إذ لم يكن يحتمل أن يطيعه الناس، هو العارف بأن لا شيء بقي على حاله. فبعد أن طوى الزمن حتى ما كان أبناء القبيلة يزدهون به بعد فوات زمنه، متذكرّين مجدهم «وعنطزتهم»، بات العم عطوة يرى أنّ عليه أن يزداد إمعانا في التقليل من شأن نفسه. ليس أنّه بات مكتفيا بطلب»السَتْر» في عيشه، بل إنّه جعل أولاده ينادونه بإسمه «عطوة»، هكذا مجرّدا من صفة أبي. زمن الغطرسة البدويّة فات وانقضى وسيكون على أهله أن يكيّفوا أنفسهم مع محيطهم وزمنهم الجديدين. أن يكيّفوا أنفسهم يعني أن يفعلوا ما فعل عطوة، مضيفين إلى ذلك أشياء أكثر تفصيليّة مثل نظر كلّ منهم، بمفرده، إلى ما ينبغي عليه أن يغيّره في لباسه وهيئته ونطقه. ذاك أن ما كان متشكّلا في الذاكرة، ممسرِحا بطولات الماضي، تضعضعَ، حتّى في قصّة الكتاب الأولى حيث ما زالت قبيلة مذعنة للعرف الذي يجعلها مذلولة أمام قبيلة أخرى. في هذه القصّة ( مراسم تسليم الديّة) يظهر هؤلاء وأولئك، المذِلّين والمذَلّين، أشبه برسوم كاريكاتوريّة أو كأنّهم أشخاص عتّقهم الزمن الذي توالى على صورة فوتوغرافيّة كانت قد أُخذت لهم. البأس الذي يوحي به صمتهم ونظراتهم «الصحراويّة» لا يبدو مصدَّقا في عيني الشاب، إبن رجل القبيلة المذلول. والشاب هذا، إذ تراوغ نظرَه البندقيّةُ المعلّقة على الحائط خلف رؤوسهم، مفكّرا أن يقفز إليها ويبدأ بإطلاق النار عليهم، يخطر له أنّه، بقتله لهم، يكون يقتل ذلك الزمن الذي قدموا منه. حمدي أبو جليّل يبدو في هذا الكتاب ساعيا إلى تصفية حسابه مع البداوة الباقية فيه. في القصّة الأخيرة يروي حكاية شابّين من البدو تعرّضا، في أثناء ما كانا يبحثان عن غزالة يصطادانها ليسدّا بلحمها جوعهما، إلى تاجر يجرّ وراءه عشرة جمال محمّلّة بالغلال. أحد الشابّين (معيوف) يقرّر أن يسطو على الجمال، متكّئا، لتبرير سطوه، على ذلك المثل البدوي: «الحرّ إذا جاع نهب». وإذ يواجهه رفيقه «عولة» بما يشاع من قيم البداوة: «لكنّه عابر وحيد في وطننا، ضعيف في حمانا، والحرّ لا ينهب سوى الأقوياء» ، يجيبه الأوّل، معيوف: «ما عليك من تخاريف الأجداد فما قالوها سوى لتضليل أمثالك. « وإذ يتقدّم معيوف إلى التاجر الذي لم يلبث، عن ظهر جَمَله، أن ضرب معيوف بعصاه الغليظة فشقّت رأسه وصرعته على الفور، ردّ رفيقه عولة، المختبىء خلف الأجمة، بإطلاق النار من البندقيّة التي معه ليردي بها التاجر، ولتحقّ له من ذلك الجِمال العشرة بما تحمله. هذه القصة الأخيرة هي أطول قصص الكتاب، إذ جعلها أبو جليل ما يمكن اعتباره تحليلا نصيّا لقيم البداوة، مقلّبا دوافع الشخصيّات على أوجهها المختلفة. من هو الأكثر حكمة، أو الأكثر مكرا، الشجاع أو الجبان؟ ما الذي يجعل من البدويّ بطلا؟ عولة ذاك، الذي حوّلته الحكاية المتناقلة على ألسنة البدو إلى بطل لقتله قاتل رفيقه، هل هو براء من النذالة التي أوصلته إلى الغنيمة؟ ثمّ كيف امكن للحكاية أن تستمرّ مبقية الرجال الثلاثة كلاً في الرسم الذي جعلته له، أي أن يكون عولة بطلا وعيوف قتيلاً والتاجر غريبا؟ حمدي أبوجليّل، فيما كان يقلّب أدوار الشخصيّات مغيّرا في دوافعها، اهتدى إلى» الإزدواج»، «القادر على إمتاعنا بالشيء ونقيضه في الوقت ذاته». أما من أهداه إلى فكرة الإزدواج فهو عولة، أو شخصيّة عولة، الحاملة في ذاتها الإختلاف: الشيء وضدّه. أما سامع حكايته، المزدوج، فليس ذاك االذي «خَبِر دروب الصحراء» لكن الذي ارتحل «الإرتحال النهائي، ليس في شعاب الصحراء (...) لكن لاستقرار نهائي على حواف المدن». الإستمتاع بالشيء ونقيضه، هو هبة أعطيت لمن بات يدعو للّه مخلصا بالستر لكي يقيه شرّ صاحب المزرعة بمجرّد بدئه في نهبها. وهو هبة لذلك البدويّ الذي يرفض زواج أخته من فلاح على الرغم من أنّه يعرف من أيّ زمن متقهقر أتاه رفضه ذاك. الإزدواج الذي يقول أبو جليّل أنّه المكتشف الأوّل لروعته، أو أنّه الأوّل الذي خبر انشقاق نفسه إلى نفسين، إحداهما تعتزّ برفض سليل الفلاحين الوضيع، وفي الثانية «أواصل السخرية من عادات البدو وتقاليدهم البالية». لكن ما يُظنّ أنّه اهتداء ليس إلا بداية التخبّط. ذاك أن الرحلة المضنية إلى ترتيب الأشياء ترتيبا جديدا دونها إجراء تغييرات ليس إنكار العم عطوة لمكانته وصفتِه أعظمها شأنا. فإذ يسعى، في قصّة أخرى، رجلٌ آخر ربما كان الكاتب نفسه، إلى أن يرفع من شأن معلّم الورشة الفلاح، الذي أحلّه في ظنّه محلّ أبيه وجعل يبدي نفسه أخرق أمامه مثل ولد، ليعيّن له مرتبة أعلى من مرتبته، يجد نفسه غير قادر على النطق باحترامه: «أردّد الكلمة في سري مرات عدة، وبعد أن أحسّ بسهولة وليونة حركتها فوق لساني أحاول بكلّ قوّتي زحزحتها إلى شفتيّ، ولكنّي أجدها ثقيلة كما الصخر، وقاسية كما السنوات الطوال، وأحس بها تندفع مرتدّة إلى أعماقي...» تلك العمليّة لتغيير الأشياء ستكون مستمرّة ولن تتوقّف. أوّل ما ينبغي تغييره هو الشخص نفسه، البدويّ، الذي، في إحدى القصص، ينهمّ بإجراء تغييرات متخيّلة على وجهه، بملامحه كلّها، ملمحا بعد ملمح، من الهيئة إلى النظرة إلى الإبتسامة إلى التجويف الذي في كلّ من الخدّين؛ ثمّ إلى الصوت واللهجة التي اكتشف آخر أبناء البدو أنّ «جفافها الصحراوي لا يناسب طراوة حواف القرى التي استقرّوا فيها إلى الأبد، فظلّوا صامتين متردّدين بين فشلهم في تغيير لهجتهم وخجلهم من ترديد لهجة أبناء القرى». ثمّ هناك الفم ذاته، الفم بمفرده، مستحقّا قصّة خاصّة به من قصص الكتاب حيث «كلمة واحدة تفضح الخطّة، وتجعل فمي يعود إلى مكان الصدارة المكشوف تماما في وجهي». ذلك التغيير، أو التحويل، بمعنى «المَسخ» بحسب ما اتُّفق على ترجمة metamorphose لن يوصل القائم به إلا إلى إدراك اختلافه وصعوبة التطابق مع النموذج أو المثال. لكنّه يظلّ عمليّة مستمرّة. وهو، من سلبيّاته أو إيجابيّاته، يجعل العالم مرئيّا هكذا في عين البدويّ: تفاصيل متفرّقة يصعب جمعها في قوام واحد. وهي تفاصيل متحوّلة على الدوام ترصدها عين البدوي حمدي أبو جليّل بدقّة نادرة، لتخليص النفس من وطأة ازدواجها الفاتن، ولمتعة الكتابة والتلذّذ بها أيضا، كما في ذلك التصوير البديع لما يجريه على شكله وهيئته الرجل المقبلُ على الإستدانة ( في قصّة مسألة بسيطة).