الفم ألذي يُقَبَّلُ لا يفقد عذوبته ، أنه يتجدد كالقمر
لم تحظ المساهمة البريطانية في الحركة الرمزية بنصيب كبير من إهتمام مؤرخي ونقّاد الفن خارج بريطانيا ، فحتى وقت قريب أُعتًبرت المدرسة الرمزية حركة اوروبية أساسا ، ذات أصول فرنسية ، أدبية ألطابع أكثر منها فنيّة ، وأقتصرت مساهمة الفنانين البريطانيين فيها على عدد محدود من أسماء معروفة ، في مقدمهم بيرن جونز و روزيتّي ، وأعتُبرت مساهمة معزولة على هامش الحركة التي استحوذت على أهتمام فنانين أوروبيين كثيرين .
لكن البريطانيين لديهم وجهة نظر أُخرى - أليسوا كذلك دائما ؟ - جعلتهم يبذلون جهوداً ومحاولاتٍ كثيرة من أجل تغيير تلك الصورة ، ومن أجل القاء مزيد من الضوء على حجم المشاركة البريطانية وتوجيه الانظار نحوها . ومن بين أكبر تلك المحاولات ، المعرض الذي أُقيم في ( تيت غاليري ) في لندن سنة 1997 ، وكان معرضا شاملا لفناني ألمدرسة الرمزية ضم اكثر من 130 عملا فنيا ، وعُرضت فيه لوحات نخبة من الفنانين البريطانيين مثل دانتي غابرييل روزيتّي ، أدوارد بيرن جونز ، جورج فردريك واتس ، وأوبري بيروسلي ، وذلك اضافة الى لوحات معاصريهم في بلدان أُخرى كالفرنسيين أوديلون ريدون ، غوستاف كوربيه وفردناند نوف ، مع لوحات لفنانين آخرين إستُعيرت من مؤسسات مختلفة ومجموعات خاصة .
سبق لي وأن كتبت عن الرمزية البريطانية في بعض المطبوعات وما يحفزني على العودة اليها الان هو المعرض المقام حاليا ، ومنذ شهر اذار هذا العام ( 2020 ) ، في التيت غاليري في لندن لاوبري بيروسلي ، الفنان الرائع الذي انتج ما يفتخر به الفن البريطاني رغم انه عاش حياة قصيرة لم تتجاوز الخمسة والعشرين عاما بين عامي 1872 و 1898 ، ولم أعرف حين إقامة المعرض مالذي وجده منظموه في فن بيروسلي لكي ينسّبوه للرمزيين ، بينما هو معروف برسم ألأنماط الغريبة والهجينة من سلوك الناس ومشاهد الأثارة الجنسية الصريحة والتهتك والإنغمار بالملذات ، ولعل ذلك كان مادة علاقته بما سمي ب ( الحركة الجمالية ) التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر ، وكان ( اوسكار وايلد ) ابرز أعضائها ، رغم اني أرى الاقرب تسميتها ( حركة اللذة ) ، عندما نتحدث عن بيروسلي ، لان ذلك سيقود بصورة أقل غموضا ، ربما ، الى ( حركة الانحطاط ) التي ارتبط اسمها لدى كثير من النقاد والمؤرخين ب ( الحركة الجمالية ) وتداخلا معا ، سوى أن هذا ليس موضوعنا الان وسنتركه الى فرصة اخرى .
رسم روزيتّي الشكل الاكثر تميزا لبورتريت الأنثى ذات الأيحاءات الجنسية الغامضة والذي سرعان ما انتقل الى عموم أوروبا كأحدى أيقونات (الفن الرمزي) - كما يدّعي البريطانيون - ضمن سلسلة من اللوحات التي أُطلق عليها اسم ( لوحات الغواية ) ، ولعل ابرز لوحات الغواية تلك هي ( عشتروت السورية ) ، وهي مبنية على بورتريت بالحجم الطبيعي لعشيقة الفنان يظهرها على هيئة عشتار آلهة الحب ، وبالامكان متابعة تأثير هذه اللوحة في أعمال رسامين آخرين باشكال مختلفة تصل أحيانا حد التطرف .
وجد الفنانون أنفسهم في ستينات القرن التاسع عشر طرفا في حوار جديد أساسه التشكيك في صلاحية الأعراف والتقاليد الفنية السائدة ومساءلة الأفكار والمفاهيم التي أطّرت ولعقود طويلة غاية الفن ووظيفته ، وطرح اسئلة جديدة عن معنى ألوجود وماهية الحياة وموقع الفن في كل ذلك ، مستهدين بنظريات علم الاجتماع الحديثة، وطرق النظر المستحدثة للعقل البشري ، وباكتشافات علم النفس حول دور وأهمية اللاوعي والدافع الجنسي وعالم الاحلام وقوى النفس الخفية . فقد أدى الدفق الهائل لسيل العلوم والمعارف الجديدة الى مراجعة القيمة الحقيقية للموضوعات الكلاسيكية والرومانتيكية الشائعة ، واعادة قراءة الخرافات والأساطير والمرويات الشعبية من القصص والحكايات والامثال ، ودفع بإتجاه البحث عن اساليب وتقنيات جديدة تتناسب مع الدور الجديد الصاعد للعمل الفني .
إستمدت الحركة الناشئة أفكارها الأولى من شعراء وكتاب فرنسيين كبار، مثل بودلير، وآخرين من بعده في سبعينات وثمانينات القرن التاسع عشر ، وفي مقدمهم ستيفان مالارميه وبول فيرلين أللَذَين كرسا اسم الحركة ( الرمزية ) ، الذي ظهر في البداية في بيان أطلقه الشاعر والناقد ( جين موريا ) ، وذكر فيه ايمانه بتفوق المفهوم ، الفكرة والتفكير ، على ما يمكن مراقبته والوعي بوجوده ، وأكد فيه أن الشعر الرمزي يحاول إكساء الفكرة هيئة حساسة ، رغم أن تلك الهيئة ليست ألهدف النهائي بقدر ما هي أداة تابعة للفكرة التي تحاول التعبير عنها ، وأن الميزة الأساسية للفن الرمزي تكمن في الأبتعاد عن التناول المباشر لمفهوم الفكرة ، وتتطلب التلقائية في الأداء ، وصيغا إسلوبية معقدة ، وأن الموضوعية لا يمكن أن تمد الفن الّا بنقطة انطلاق بالغة الضيق والبساطة .
حاول وليم ييتس ، الشاعر الأنكليزي سنة 1898 أن يلخص منهاج الرمزية وأفكار روّادها للاربعين سنة التي سبقت ذلك التاريخ بقوله إن كل أنواع العمل الفني ألتي لا تقتصر على مجرد رواية قصة ولا تكتفي بالحدود الضيقة لرسم البورتريت هي فن رمزي (...) ، وان الشخص والمنظر الطبيعي الذي هو جزء من قصة ، يثيران انفعالات كثيرة بقدر ما تسمح به حدود تلك القصة ، لكنك إذا حررتهما من حدود الحكاية وأدوارهم فيها وسبب وجودهم وتأثيرهم ، ومن كل ألحدود الأخرى ، ما عدا حدود حبك وعاطفتك ، فسوف يتغيران تحت ناظريك ويتحولان إلى رموز لمشاعر لا نهائية .
كانت الرمزية في الفن التشكيلي تعني رفضا للنظريات الجمالية السائدة وقيم المجتمع الذي تنازل عن روحه لصالح حاجاته النفعية المباشرة ، وقصدت إلى التعبير عن المشاعر الإنسانية بصدق وجدت الطريق اليه في استدعاء الماضي واللجوء للأحلام والأساطير والخرافات والإعتماد على مشاهد من مسرحيات وروايات ، من أجل خلق عالم أكثر روحانية ، عالم ما ورائيّ وفوق واقعي ، وهنا يمكن اعتبار الرمزية الحجر الأول في التوجه السوريالي الذي سيظهر لاحقا .
إعتمدت الرمزية المخيلة أولاً ، وقدّمت ألموضوع على الشكل ، ورأت أن الصورة الأكثر أنسانية تكمن في تناول الأشياء الخارجية والطبيعية بروح أولية وبداهة تقرب من السذاجة تحفظ للاشكال مظاهرها الأساسية وصفاتها العامة ألمعبّرة عما هو جوهري فيها ، الأمر الذي يقود تلقائيا ألى رفض المدارس الأخرى كالطبيعية والواقعية والأنطباعية ، أذْ أن ما هو مهمٌّ هنا ليس صورة الموضوع وتفاصيله مثلما يظهر في الطبيعة ، أي استنساخه ، بل مغزاه وأنعكاساته وتمثلاته في روح الفنان ، وبالتالي المشاهد .
كذلك فان التخطيط الواعي لمراحل إنتاج العمل الفني عند الرمزيين ، والتدبر المقصود ألذي يستند إلى الخبرة الأكاديمية ، لا يؤديان لوحدهما إلى إنتاج عمل فني ناجح ، مالم تُترك للاوعي الفنان وبداهته وأحاسيسه الأولية مساحة أساسية كافية . فالطبيعة وسيلة لإنتاج فن يعبر عن المشاعر العميقة والأهواء الباطنية ، والأشكال الطبيعية ليست صوراً للمشاعر بل هي رموز تقود إليها . وهكذا يشرح أو يتحدث الرمزيون ونقّادهم عن تفاصيل لوحات بعضهم التي تضاهي الطبيعة بدقة تقرب من الفوتوغراف ، بأنها ليست مقصودة بذاتها بقدر ما هي إشارات ورموز تنقل الطبيعة السرية ، وربما الغامضة ، لإحساس الفنان أزاء موضوع معين ، لذلك كان لا بد من وضعها ضمن علاقات مختلفة ، إيهامية وسحرية .
فاللّوحة بالتالي تركيب معقد يستهدف الجمع بين الواقع والخيال ، ألمحسوس والمجرد ، ألعقلي والمثالي ، أساسه الفكرة غير المجسدة بصورة إيضاحية ، بل المشار اليها بخفية موحية تقود لفهمها عن طريق بلوغ مفاهيم تقع خارج الأحاسيس المباشرة .
إذا كان عملٌ من هذا النوع بالنسبة إلى مشاهد محافظ يعني نزوعاً نحو التحلل وخروجا ً مؤسفا على تقاليد ومفاهيم عريقة ، فإنه لآخرين أقل تشدداً ينطوي على احتمالاتٍ غير مأمونة العواقب ويعالج موضوعاته بصورة متسرّعة قليلة الإكتراث ، ويتجاوز حدود اللياقة ، مع إعتراف بريادةٍ جماليةٍ من نوع خاص .
والمقصود هنا اللياقة الفكتورية ، حيث وقفت الأخلاقيات البروتستانتية المترفعة في خمسينيات القرن التاسع عشر عازلاً بين بريطانيا وأوروبا ، وصنّفت كل ما يحدث في عالم الفن خارج حدود بريطانيا بإعتباره غير صالح للمتلقي البريطاني . لكن ذلك لم يمنع الفنانين البريطانيين من إقامة علاقات وطيدة مع فرنسا نابليون الثالث ، ووجد بعضهم سوقا للوحاته في باريس ، كما عُرضت لوحات ما قبل الروفائيلية هناك سنة 1855 .
وجد روزيتّي في تأكيد ( بودلير ) على قيمة التجربة الجمالية منطلقاً لإعتبار الرسم مثل الشعر ، يجب أن يشغل نفسه بالأشياء ، عوضا عن قيمتها الوظيفية ، وأن يتخلى عن " مجرد رواية القصص والعرض الممل للتعاليم الأخلاقية " وأن يهتمّ بالحياة الروحية الخاصة والداخلية التي ظهرت بشكل ما في نتاجات الرومانتيكيين في أوائل القرن ألتاسع عشر .
ولعل لوحة دانتي روزيتّي Bocca Baciata ( الفم ألمُقَبَّل ) كانت إحدى الإرهاصات المبكرة لتلك الرؤية الجديدة ، أللوحة التي يُشارإليها عادة كإحدى ألعلامات الجمالية المهمة لفترة ما قبل الروفائيلية وهي الفترة البريطانية الموازية للرمزية الفرنسية . وهي لوحة صغيرة رُسمت بالألوان الزيتية على لوح خشبي ، بدأها الرسام عام 1859 كبورتريت ل " فاني كورنفورت " ، وأظهر فيها إهتماما كبيرا بالتزيين والديكور ، بادئا بها سلسلة من الصور الزيتية لنساء مغريات مزينات بأكسسوارات مترفة وزهور ، قدّم فيها مثالاً لمعاصريه من الفنانين للإهتمام بالمسرّة البَصَريّة ، كما لو كانت مقصودةً بذاتها مع أنها ليست كذلك .
تحدّق كونفورت – عشيقة الفنان – بالمشاهد بذهول وربما بصورتها في المرآة ، حيث سطح اللوحة هو سطح المرآة الذي تحوّل إلى نافذة على عالم آخر من رؤى ومشاعر داخلية . لكن سهولة الإستنتاج المباشر الذي يتوصل اليه مشاهد اللوحة ليست من طبيعة الرمزية ، خصوصا مع فنان مثل روزيتّي . فبينما يؤكد على الطبيعة المثيرة للمرأة بشعرها الأحمر المنثور وقميصها المفتوح عند الصدر وإكسسوارها السخي ، إضافة لجلستها وملامحها التي تجعلها تبدو وكأنها تستمع بنفاذ صبر وبراءة ممزوجة بإثارة وتحدٍّ إلى محدّث لا نراه... فإنه من جهةٍ أُخرى يحاول إرباك إستنتاج المشاهد بإضافة أشكال أخرى تؤشر إلى الطهارة والعفة ، كالورود التي تحمل واحدة منها بين أصابعها وتحيط برأسها وتتدلى من شعرها ، والفاكهة التي أمامها .
هنا يتم التعبير عن فكرة خاصة هي فكرة الفنان بإطار شمولي من الجمال والعاطفة الإنسانية . ومثل هذه الطريقة في العمل هي ما يميز روزيتّي ، وهي التي إنتقلت إلى رسامين آخرين مثل الفرنسي "غوستاف كوربيه " الذي رسم عشيقته ، هو الآخر ، على هدى لوحة روزيتّي ، وفي السنة التي رسم فيها روزيتّي اللوحة إستوحى منها "إدوارد جونز" صديق روزيتّي لوحة مشابهة ، وُصفت بأنها إيضاحية وقصصية ، على أهمية جونز ، بعيدة عن تصوّر وفهم روزيتّي للرسم من الشعر،ألتي هي علاقة تواصل مع الشعر وليست وصفاً له .
وعنوان اللوحة " ألفم ألمُقَبًّل " The Kissed Mouth مأخوذ من سوناتا تعود للقرن الرابع عشر من تأليف الإيطالي " جيوفاني بوكاتسشيو " ، مكتوبة على ظهر اللوحة بالإيطالية وتقول : " ألفم ألذي يُقَبَّل لا يفقد عذوبته ، إنه يُجدّد نفسه كما يفعل القمر " .