محمد حسان صحيفة العرب 15 يناير 2009
عز الدين شكري روائي مصري اختارت لجنة جائزة البوكر العربية روايته الأخيرة «غرفة العناية المركزة» كواحدة من أفضل 16 رواية عربية لعام 2008.. ربما يكون هذا التعريف مختزلا بعض الشيء لـ «عز» الذي جاء إلى عالم الأدب من منطقة مغايرة تماما. «عز» يعمل كدبلوماسي في الخارجية المصرية، وهي إحدى المجالات الضيقة على الفن والكتابة الإبداعية بأفرادها، لما يتطلبه العمل الدبلوماسي من طبيعة خاصة، مغايرة بعض الشيء لجنون الفن وانطلاقه. يحيى حقي، نزار قباني.. ربما لا تسعفنا الذاكرة بقائمة طويلة لأدباء عملوا كدبلوماسيين، مثلما يمكن أن نتحدث عن أطباء أو مهندسين إلى آخره مارسوا العمل الأدبي. عز الدين شكري أحد هؤلاء الذين خرجوا عن الحدود الدبلوماسية المهذبة، ليقتحم ساحة العمل الأدبي، وليست هذه المرة الأولى. ففي 1992 صدرت روايته الأولى «مقتل فخر الدين»، ثم «أسفار الفراعين» في 1999، ثم روايته الثالثة «غرفة العناية المركزة» عن دار شرقيات المصرية، ومؤخرا قامت نفس الدار بإعادة نشر روايته الثانية «أسفار الفراعين» التي لم تحظ بأي اهتمام إبان نشر طبعتها الأولى. كتابة شكري مختلفة جدا عن الكتابة المصرية الروائية السائدة في اللحظة الراهنة.. فهو لا يكتب عن أجواء مثقفي وسط المدينة، ولا عن أجواء الهامشيين، ولا يقوم بألعاب ذهنية ترهق القارئ، وهي المناطق الشائعة الآن في الرواية المصرية. «العرب» التقت عز الدين شكري ليحدثنا عن العمل الدبلوماسي والعمل الروائي، وعن الكتابة الروائية كما يراها وعلاقتها بالواقع، ظروف عمله التي اضطرته إلى نشر روايتيه الأولى والثانية تقريباً في الخفاء ورغبته الخالية من الخروج إلى العلن.
ما جديد إبداعات الأستاذ عزالدين؟ «الآن أنا في إجازة طويلة من عملي كدبلوماسي في وزارة الخارجية، وأعمل مع مجموعة اسمها «مجموعة الأزمات الدولية» تعد أوراقاً دبلوماسية، وتقارير حول مناطق الصراع المشتعلة في العالم وطرق حلها. وعبر سنين العمل الدبلوماسي، أخذت عدة إجازات طويلة لأكتب، وأدرس في الجامعة، وطوال الوقت، وأنا أمتلك هذين الجانبين يسيران معاً، ولا تربطهما علاقة سوى أنهما جانبان شخصيان. نشرت العملين الأولين في الخفاء ولم أحاول أن أعرّف الناس أني أمارس الكتابة. والآن تغير الوضع مع الرواية الأخيرة، في محاولة لضم الشخصيات المكونة لـشخصيتي إلى بعضها البعض. وبدأت أعلن عن نفسي ككاتب، أخبرت زملائي في الخارجية على استحياء أني أكتب، وآمل أن تنجح التجربة، ويتم تركيب عز الدين من أجزائه، الكثيرة المنفصلة. لكن لماذا كان قرار الانفصال بين «عز الدبلوماسي» و«عز الكاتب»؟ في الروايتين الأولى والثانية تعرضت للواقع السياسي العام بشكل يراه البعض شديدا بالنسبة إلى موقعي كرجل يعمل في جهاز الدولة، ومن الوارد أن يقلقني رد فعل الدولة تجاه ما أكتب. لذا واجهت سؤالاً عند نشر الرواية الأولى: هل أستخدم اسماً أدبياً أم أنشر باسمي الحقيقي؟ المنطق والسلامة كان يدعو إلى أن أستخدم اسماً أدبياً مستعاراً، وتناقشت مع أحد أصدقائي الذي كان يتولى عملية النشر -حيث لم أكن موجوداً في مصر وقتها- وتوصلت إلى أن أنشر باسمي حيث إن الكتابة هي الفعل الوحيد الذي أمارسه بإرادتي ودون أي تدخل من أحد. فعندما تكون دبلوماسياً، لا تصنع الأشياء بالضبط كما تريد، فأنت طول الوقت تتفاوض، الأمر الذي يضفي بظلاله على حياتي الشخصية، لكن في الكتابة الأمر مختلف، فأنا أصنع ما أريد، أخلق شخصيات وأصنع أزمات وأدخل الأزمنة في بعضها البعض، ليس لأي أحد سلطة عليّ، أنا حر تماماً فيما أريد أن أفعله، لذا لم أستطع أن أرى منطقة حريتي الحقيقية والوحيدة تحمل اسماً آخر، وفي الوقت ذاته قررت أني سأنشر الرواية وأصمت وأعتمد على أن المهتمين بالقراءة في مصر عددهم قليل أصلاً، وأن عدد القراء من العاملين بجهاز الدولة خارج مجال عملهم أقل بكثير، وفي النهاية يمكن تبرير الأمر على أنه «أدب» ومجرد خيالات ليس لها صلة بالواقع. لكن الآن أنا في إجازة طويلة، لذا أظن أنه يجب أن أمتلك الحرية الكافية لأمارس ما أريد.
لكنك اخترت من البداية أن تغلب جانب «الدبلوماسي»! لا أعرف إن كنت اخترت هذا أم لا، لكن جزءا من الأمر هو اختيار سلبي، بمعنى أنك لا تختار لكن الأمور تختارك، وفي مصر تسير الأشياء وفق منطق خاص، يصعب على الجميع فهمه، أنهيت دراستي الجامعية في 1987 ومن فترة الجامعة، كنت في فريق المسرح أمثّل، وأكتب وأخرج مسرحيات، فكانت بدايتي مع الكتابة هي المسرح، وكنت أتمنى أن ألتحق بمعهد الفنون المسرحية لكن لم يحدث. كان الجانبان موجودين معي طوال الوقت لكن الجانب العملي -الدبلوماسي كما تسميه- يده ثقيلة، فكان يتحكم طوال الوقت، لذا فقد سحب الجانب الآخر -الكاتب- طوال الوقت. هذا هو ما حدث، لكن بعد فترة تكبر في السن، وتحاول أن تأخذ بيد الضعيف من سطوة القوي.
ألم تخش مع الروايات الأولى التي صدرت وأنت في العمل أن يؤثر الجانب الضعيف -الكاتب- على العمل والحياة الخارجية بشكل ما؟ شغلني هذا الهاجس مع الرواية الأولى حيث تعرضت لعدة مناطق من الممكن أن تثير حفيظة البعض. والمشكلة في مصر أن الحدود ملتبسة، فأنت لا تعرف بالضبط ما الذي يثير التساؤل أو الغضب، وما الذي لا يثيره، واعتمدت على ذلك ومرت الرواية ولم تثر غضب أحدهم. في الرواية الثانية «أسفار الفراعين» الزمن مختلط ومتداخل بين الزمن الفرعوني القديم، والزمن الآني ومع ذلك رفض أحد الناشرين نشر الرواية، فنشرتها في دار أخرى وأنا أرى أني لا أمارس فعلا خاطئاً، ولا أخالف القانون ولا يفترض أنها تستثير الناس، في النهاية أنا أقدم عملا أدبيا أظن أيضاً أنه يحمل قدراً كبيراً من التعاطف.
نقاط التحول الرئيسية بالنسبة لشخصياتك، مرتبطة بالهم العام، حرب أكتوبر وأحداث السبعينيات إلى آخره.. كيف ترى العلاقة بين الواقع والكتابة الروائية؟ بداية أرى أن ثنائية الخاص والعام هي في النهاية وحدة واحدة، فعندما تكتب قصة حب، هل هذا خاص أم عام؟، عندما يكتب محفوظ عن زقاق المدق، والبنت وأحلام الهروب، هل هذا خاص أم عام؟ رأيي أن الكل عام إلا من يكتب عن ذاته الشخصية، فهذا غير مفيد. فالأدب كما أراه هو تحويل الخاص إلى عام.. سواء أكان «عاما» سياسيا يخص أبناء شعب واحد في ظروف معينة، أو «عاما» إنسانيا يخص الجميع. وأنا أكتب في الفترة التي أعيش فيها، والظروف التي تحكمني وهي فترة يضغط بها «العام» على أنفاس الجميع، فلا يوجد أحد في مصر، إلا في العالم العربي أيا كان موقعه كمسؤول حكومي أو متسول في الشارع إلا ويؤثر الهم العام السياسي على حياته بشكل ما، أدرك ذلك أو لم يدركه. فالظرف العام في الثلاثين عاما الأخيرة، بالغ الصعوبة، فلا أعرف كيف تتكلم عن «الخاص» مجرداً عن «العام» وهذا «الهم» هو وجعي الأكبر.