سأكتب رسالة إلى فانيا، لا بد من ذلك.
سأقول لها إنني ما زلت أتنفس، وإن من حولي ما زالوا كذلك؛ فلعلها اعتقدت أنني قضيت مع صاروخ غادرٍ صفع المخيم أو الحي الذي نقطنه، وأننا الآن تحت الركام.
سأضحك، سأقول لها إن أجسادنا تكلست وأصابها مناعة غريبة من الموت، من ماتوا هم الصغار فقط، الصغار الذين لا يعرفون معنى الموت، ولم يخطر لهم على بال أن تسقط القذائف كسيمفونيات على أرواحهم لتأخذهم إلى رحاب السماء.
ربما ستجادلني فانيا وتقول: "إنني لا أؤمن بالجنة والخلود"، وستبدأ بخطبتها وإيماءات جسدها التي توحي بأنها ملحدة تناظر الكنيسة فتعطي درس الحياة، بينما تبتسم أوداجي رغماً عني وينطلق لساني بهويتي الدينية التي أعتز بها وأبدأ بدوري الحديث عن الأخطاء والخطايا، الحياة والموت، الجنة والخلود.
سأكتب رسالة إلى فانيا، لا بد من ذلك.
سأقول لها إنني في زمن الحرب صرت ماءً أتقي مصارع الجدران والأثاث الخشبي والمعدني؛ فقد خلعت أعضائي عضواً عضواً، وتحلّلت مني حتى لم أعد عالقاً بين الركام كما حدث مع زوجتي وأبنائي الذين لم يتعلموا كيفية التحول إلى أشياء أخرى.
سأخبرها كيف تسربت بين الجدران حتى صار صوتي خريراً لم أعرفه أو أسمعه قبلاً، وكم من معطف وقميص وبنطال تشبث بي وأنا في طريقي نحو أطفالي الذين يبكون بحرقة. كنت أتسرب إليهم بهدوء حتى لا أحدث ضجيجاً يزيد من عمق جروحهم، وأنا الذي لا حول لي ولا قوة أمام الجنون الذي يقصفنا من أعلى فيجعلنا أرضاً محروقة.
حقاً، حالما أتعافى من جروحي، وتنبت يدي اليسرى مجدداً سأبعث برسالتي إلى فانيا. سأكتب لها إن رائحة زوجتي وأطفالي كانت تزكم أنفي؛ لذا تحولتُ إلى مدخنة تنفث الرائحة إلى الخارج لعل أحداً ينقذنا؛ فبعد أن ولجتهم وصرت ماءً بارداً يقطر في أفواههم ويمسح الدماء التي علقت بأجسادهم المثخنة انهاروا ولم يصمدوا على البقاء. كانت أجسادهم ترتعش خوفاً وبرداً وعطشاً وجوعاً، ولقد حاولت جاهداً وقتها أن أصبح ذلك الـ(Hulk) الضخم الذي لا مكان له في مدينتنا، لأرفع عنهم ركام البناية التي نقطنها فأفشل.
عندما تقرأ فانيا رسالتي، ستنهار وتسألني عن السبب؛ فأجيبها بهدوء إن موت طفلي الصغير الذي ظللته بغمامتي غيّر مسام جسدي دون أن يجعلني سامقاً عظيماً كنخلة من الفولاذ، فقد غادرنا ذلك المشاكس بهدوء، كان يشخر ثم ينطفئ فتنطفئ كل حواسي بعده.
سأكتب: لقد عدت مجدداً لأصنع من نفسي ذلك الضخم، أصرخ حتى تنفجر الأرض وتتشقق السماء ويظهر خيط رفيع يصل السقف المثقوب بعرش لا أتبينه، أفتح لهم باباً موارباً كانت جدتي قد أقلعت عن فتحه بعد عودتها إلى السماء؛ فتبتسم طفلتي حاملة في يدها أخاها الصغير، تشير مودعةً بينما أحدق فيهم متجمداً لا طاقة لي بفعل شيء... هل أبكي أم أصرخ أم أموت؟
سأقول لفانيا: عدت لولدي البِكر وزوجتي. تسربت إليهم بحذر وسقيتهم من يدي شربة ماء ثم حملتهم، خرجت مهرولاً لأكتشف أنهم بلا سيقان/ أننا بلا سيقان.
أعلم أنها ستقول لي: هل تذكر الرجل الذي كان يقوم بأعمال بهلوانية في شوارع مانهتن بنيويورك دون أن تظهر سيقانه أمام العامة؟ أم لعلك لا تذكر؟ ستقول أيضاً إنها في حينه أرادت مداعبة ذلك المسكين فقرصته من إحدى ردفيه ليصرخ: (آآو) كما في أفلام هوليود، تضحك فيضحك من يتحلقون حوله، يلقون بدولاراتهم بينما يبكي العجوز لإهانته. تَخرج قدمه الخشبية أمامنا فتدمي قلوبنا، تعتذر فانيا لذلك المسكين، تطبع قبلة على خده وتلقي بعشرة دولارات داخل قبعته ثم تمضي.
ستقول صديقتي: لم لا تصنع لزوجتك قدماً خشبية؟ وهي لا تعلم أنَّ غزة لا أشجار فيها لنصنع الآلاف من السيقان التي بُترت، وأن غزة ليست بلداً أو حتى مدينة أو قرية، إنما قطعة من جحيم لا لون فيها غير الأسود.
سأبعث رسالتي حالما أتعافى وأصير بجناحين كبيرين، لا مشكلة إن كانا من الحديد أو الألمونيوم أو الفولاذ أو حتى من الريش، سأعانق زوجتي، سأحتضنها ونسافر معاً، نطير عالياً، نصل ما بعد الحدود الأخيرة، نحلق رغم أقدامنا الخشبية ونسقط كما (Iron man) بطريقة سينمائية مخيفة وسأجعل المشاة يتوقفون عن ازدراد الطعام وشرب العصائر المثلجة، سأجعلهم يهيمون في عالمنا، ويحلمون بأن يكونوا مثلنا بأجنحة.
سيصفقون يا فانيا، سأكتب لك عن تصفيقهم الحار مثل نهاية جميلة لفيلم سينمائي، سيخرج أحدهم من بين الجموع ليلتقط لنا صورة تتصدر صفحات الجرائد والمجلات، وربما يخرج آخر بمانشيت كبير ليقول إننا الـ(Jumper).
آه يا فانيا، لو كنا كأبطال ذلك الفيلم نستطيع أن نسافر كيفما نريد، لا نتوقف عند حدود، لا نختم جوازات سفر، ولا توقفنا سلطات أي بلاد أو تأمر بترحيلنا؛ لعبرنا العالم ولم نتوقف عند محطة بعينها.
آه لو كان لنا مطار يا فانيا، لو كان لنا ميناء، لو كانت لدينا نصف حياة، لاخترت العيش في إسبانيا والتقيتك عند مدخل الحمراء، ثم اقترنت بك وأنجبنا صغاراً يشبهون ملائكتي الراحلين.
عزيزتي فانيا،،
سأبعث برسالتي إليك في أي وقت، لأن الزمن في غزة خارج حسابات المجرة.
سأبكي بحرقة وأصرخ: إنني قررت أن أظل في هذا العراء مسجوناً حتى تأذن لي جدتي بصعود السماء، نعم سأقول لك ذلك، فصدقيني.