فاروق شوشة الأهرام - 12 أكتوبر 2008
هذا كاتب روائي لم أكن أعرف عنه شيئا, ولا قرأت له شيئا, قبل أن تتاح لي قراءة روايته غرفة العناية المركزة التي تقدمه الي القارئ باعتباره كاتبا دبلوماسيا مصريا, من مواليد الكويت عام1966, حصل علي بكالوريوس العلوم السياسية من جامعة القاهرة, ودبلوم الإدارة العامة من المدرسة القومية للإدارة في باريس, وماجستير في العلاقات الدولية من جامعة أوتاوا, ودكتوراه العلوم السياسية من جامعة مونتريال, كما يشير غلاف الرواية الي رواية له سابقة بعنوان مقتل فخر الدين وكتاب بعنوان اسفار الفراعين.
إذن فهذه الرواية ليست عمله الأول, وقد وقعت أحداثها عام1995 وأن أحداثها محض خيال. لكن ما تزدحم به من أحداث ووقائع وتداخل في الأزمنة والاعتماد علي أسلوب الاسترجاع في رواية المواقف والمشاعر, يجعل منها شهادة علي العصر, كاشفة ومعبرة, ومزدحمة بتفاصيل تجعل منها كابوسا لا يكاد يفلت القارئ منه, وهو يتابع اختلاط الوعي باللاوعي, والحاضر الراهن بمكنونات الذاكرة, والحبيس الذي جعله الانفجار يقبع تحت الانقاض, وكأنه اللحن الأساسي الذي يتردد في الرواية بطولها, يطل بين فصولها وفي ثنايا صفحاتها ليذكر في كل لحظة بالانفجارات والخرائب والغرفة التي صارت بلا مخارج ولا مداخل كزنزانة محكمة الإغلاق, وهو في انتظار عمال إنقاذ لا يصلون أبدا, ولن يصلوا.
النماذج الإنسانية ـ أي البشرية ـ التي تقدمها الرواية لشخصيات مصرية وأجنبية, تتلاقي وتتصارع, تتعادي وتنغمس في الحب, تحمل في أحشائها مأساتها ومأساة الوطن, سقوطها وسقوط اللافتات والرايات التي ارتفعت حينا, وصدقها كثيرون فانجرفوا وراءها بانبهار, قبل أن يعيدوا النظر فيما مضي من مسلمات, وما استقر من أفكار وايديولوجيات, هي نفسها لنماذج التي لاتزال تدب وتسعي, باحثة عن يقين من نوع آخر, وتماسك يعصمها من التهاوي, وبصيص ضوء في آخر النفق المظلم.
اللغة التي يكتب بها عز الدين شكري لغة بسيطة ومباشرة لكنها عميقة, وكثيرا ماتكون غاضبة وواخزة, عارية من زيف البلاغة المصطنعة, وفتنة الزخرف الكاذب, لأنها تسعي الي هدف واضح من أقرب سبيل, والوعي الذي تكشف عنه وعي عميق, لكنه لا يمنح نفسه بسهولة, لأن طبيعة القص تقتضي بعض التحوط, وتتطلب من القارئ أن ينشط في متابعة المعالجة الجدلية, وعدم التسرع في إصدار الأحكام, والتعاطف ـ في ختام الأمر ـ مع الجميع, الذين لم يدركوا بعد أنهم في غرفة العناية المركزة وفي داخلهم كل ما راهنوا عليه: الحلم والوطن والكون والحياة والعالم.
رواية كابوسية لا يمكن الإفلات من براثنها, ورواية كاشفة تحمل شهادة كاتبها ـ الجريئة والممرورة ـ علي عصر بكامله, ورواية تتأبي علي التلخيص أو إعادة انتاج حكايتها بلغتنا نحن القراء.
يقول عز الدين شكري في ختام روايته: اخترت أن أظل هنا, وإن كنت غير فاعل, وإن كنت هامشيا, اخترت أن أظل واقفا وسط الخرائب, كشاهد, لا لأحد غير نفسي أو المستقبل,.سأقول يوما ما, ربما عند مماتي, ربما الآن, تحت هذه الأنقاض, وفي هذه الأوراق, إني اخترت أن أعود لوطن تركني ومضي, واخترت أن أظل فيه واقفا كقصر من قصور الحلمية القديمة, مهجورا وبلا فائدة, سوي أن يطل بشموخه علي واقع تدهور وتداعي, ليذكر أحد العابرين ـ ربما ـ بما كان, وبما يمكن أن يكون, ولأن القصر لن يكون أحد قصور الحلمية إن نقل الي فرنسا, لن يكون نفسه دون حياة الحلمية التي انقضت ـ مثلما أصبح واضحا لي الآن ـ دون رجعة ويا له من اختيار مر لمن رأي كل شيء من البداية وأوجعته عيناه مما رأي!.