إننا الآن في عصر الطوائف الذي يرفع راية التشظي وإبادة المختلف والمتميز، والحرب المستترة والمُعلنة أحياناً على الشعر في الصحف والمجلات خصوصا تلك التي يرأس تحريرها شعراء ينحازون فقط إلى أنفسهم وأشباههم وشللهم، ويحاربون التيارت الإبداعية الأخرى.
الكم في الإبداع لا يُعوّل عليه والغزارة ليست دليلاً على الجودة أو التوهج أو القدرة على التجديد والإضافة فمعظم شعراء العالم الكبار بنوا مجدهم الشعري وشهرتهم بعدد محدود من القصائد، ولا أغالي عندما أقول إن الأمر نفسه ينسحب على شعرنا القديم والحديث، ولأنهم في الخارج يعرفون مثلنا صعوبة الشعر ونُدرة القصائد الشامخة أو اللامعة فهم يبذلون الجهد كله لرعاية الشعر والاهتمام به وقد أتاحت لي مشاركتي عام 1995 في البرنامج العالمي للكتابة الذي يُعقد سنوياً في جامعة ومدينة أيوا بالولايات المتحدة أن أرى كيف يهتمون في أميركا بالشعر فيصدرون كتاباً سنوياً يضم أفضل القصائد الأميركية التي كُتبت ونُشرت في المجلات والدوريات على مدار العام، ولكيلا يسود تيار شعري ما أو مدرسة فنية بعينها، ولكي يقدموا للقراء كل التيارات والمدارس الشعرية يتغير سنوياً رئيس تحرير هذا الكتاب الذي يُختار عادة من بين كبار الشعراء أو النقاد، وبالإضافة إلى القصائد المنشورة يهتمون بتقديم الشعراء والتعريف بأعمالهم لكي يعينوا القارئ على المتابعة، من ناحية أخرى فوجئت في ذلك الوقت بوِرَِش الجامعات الإبداعية التي يدرس فيها لمدة عامين المبدعون الشبان «ورش الشعر- القصة- الرواية وغيرها» وهذه الورش تُعين المبدع على شحذ وصقل موهبته وتعّرفه كما ينبغي بمجال إبداعه، ويعد من كبار المبدعين والنقاد الذين يتولون مهمة التعليم والتدريب وتمنح هذه الورش شهادات تَخرّج كان بعض الشعراء والكتاب الأميركيين الذين التقيت بهم يزهون بها ويشيرون اليها في سيرهم الذاتية.
قبل غيره يعرف المبدع الحقيقي عمله الجيد ويفخر به كما يعرف أيضاً عمله الآخر الأقل جودة وتمارينه الابداعية، وأظننا لم ننس الشاعر القديم الذي كان يتمنى أن يشتري بنصف شعره أو بكله أحياناً قصيدة فتنته لشاعر آخر.
كان ذلك في زمن الانشغال بالشعر والسعي الى خدمته والارتقاء به لكننا الآن في عصر الطوائف الذي يرفع راية التشظي وإبادة المختلف والمتميز والحرب المستترة والمُعلنة أحياناً على الشعر في الصحف والمجلات خاصةً تلك التي يرأس تحريرها شعراء ينحازون فقط الى أنفسهم وأشباههم وشللهم، ويحاربون التيارت الإبداعية الأخرى، فالشاعر الذي يكتب قصيدة النثر عندما يرأس تحرير مجلة ما يُسَخّر مجلته لمحاربة الأشكال الشعرية الأخرى، بدلاً من النهوض بالشعر ذاته ودفع التيارات والأشكال الشعرية المختلفة الى الاجتهاد والتنافس لتقديم أفضل ما لديها، ومن ثم إثراء الحركة الشعرية والارتقاء بها، كما يحدث في الخارج، وأشير هنا إلى مجلة الشعر التي تصدر في مصر عن اتحاد الإذاعة والتلفزيون، والى عددها الأخير الصادر قبل أيام وإلى كلمة رئيس تحريرها التي يتحدث فيها عن أفلاطون والشعراء قائلاً: «أظنه كان يريدهم أن يكتبوا قصيدة النثر وإلا لماذا قرر أن يحرم الشعراء من الوجود في جمهوريته؟ الراجح أن أفلاطون اغتاظ وضج وانتابه ملل الدنيا من القصائد الشفاهية سابقة التجهيز… فكان يرغب في أن ينفض الشعراء عن كلماتهم كل التنميقات البلاغية البالية، وأن يكتبوا قصائد مُتخلية عن ميراث الشعر الموزون برمزيته ورومانتيكيته المفرطة».
قد يُقبل هذا البيان الركيك من شاعر شاب متمرد يبحث عن مكان لقدميه على أرض الشعر، ويُصدر على نفقته ومن ماله الخاص نشرة أو مجلة هدفها التهليل لقصيدة النثر ومحاربة الأشكال الشعرية التي منحت شعرنا العربي كل رموزه وشعرائه الكبار، لكن الأمر يختلف عندما تحمل المجلة اسم الشعر وعندما يتحمل دافع الضرائب نفقات إصدارها وراتب رئيس تحريرها، في المقابل سنجد مجلات إبداعية أخرى يرأس تحريرها شعراء يحاربون قصيدة النثر ويخرجونها تماما من دوائر الشعر ويسعون بالتالي الى حجبها أو محاصرتها بدلا من نشر وتشجيع أفضل وأرقى نماذجها.
هذه الطائفية الشعرية تعمل منذ ربع قرن على الأقل ضد الشعر في أغلب الصحف والمجلات العربية يوجهها الشعراء أنفسهم والنقاد وأجهزة الإعلام أحياناً والغياب شبه التام لقراء الشعر والمهتمين به.