شجرة عارية عانقت المعري....
لا تحشروا أبو العلاء بالجدل...
تناهت أصوات، واقتحمت المكان خطوات امرأة، يا للهول، مع صوت كؤوس وقنانٍ، وقهقهه نسائية في الخلف، شمّمتُ روائح طعام من بعد، ثمة صوت كلب يعوي بفناء المغارة، كانت هناك حديقة كما فهمت، ومنها تأتي بعض الثمار، وبينما بدأ توزيع الكؤوس وسط همهمات وهمسات، مال صاحبي بجانبي وهمس بأذني:
- أين مضى إمام العقل؟
طرقتُ بضحكة مكتومة، وقاطع صوت رجل اختنق بنوبة سعال، وضاعف من عوي الكلب بالفناء، اختلط الحابل بالنابل، فوقع التباس...
- لم أشرب الخمرَ، ولم أضاجع امرأة قط، ولا آكلّ اللحم، ولا أصلي أو أصوم أو أركع لسلطان...
كان هذا جوابي لدعوة صاحبي لاحتساء الخمر، وعمدتُ لقطع الطريق بألا تدنو مني امرأة، وأفضل ألا تلمحني، وإذا بدا لابد من ذلك، فلا بأس ولكن دون أن تحدثني أو تريق عطرها بأنفي. بعدها هدأ الطقس بالموضع، وسال حوار ثنائي وثلاثي، بين أطراف الحضور، إلى أن ورد فجأة بلسان المدعو تبريز وهو شاعر شاب، ما يدل على اختفاء الراقصة كرز...
- لم تختف بل سرقها الخليفة أمير المؤمنين من دارها.
- ألم تكن محظية قائد حامية بغداد ثم ارتقت إلى وزيره...
بين هذا وذاك احتدم الجدل، وفجأة دوى صوت الفيلسوف، أو هكذا يُلقب بين قومه، الفضل بن يحيى، وبتر الجدل، فخيم الصمت، إلا من عواء الكلب بالفناء، فاستطرد الفضل قائلاً بنبرةٍ حانقة.
- أخرسوا هذه البهيمة وإلا قتلتها...
انفجر جبل نار بداخلي، سخرية طفت بأعماقي، وكَتَمْتُ تعاقب الأفكار حتى لا تلوح على ملامحي السخرية، تَخَيّلتُ فيلسوف بغداد يَغْتال كلبة تعوي، هذه الكلبة، مومس ولا ريب في ذلك، فهذا العويّ خلفه رغبة بالسفاد، وما هاج من تهكمي، انبلاج صوت الفضل بن يحيى الفيلسوف، متكلّمًا بلهجة الحكماء، وبنبرةِ إباء، وبلغة لا تخلو من جرأة الأدباء.
- أيهما جديرٌ بالنار أو الجنة؟ جاهل بلا عقلٍ أم عاقل بلا دين؟ وإذا كان العقل من صنع الخالق فلماذا حُرِم؟ كان جديرٌ به القول، إنما حَرَمَ عليكُم العقل والمَيتةَ ولحمَ الْخنزِير، فالعقل مُحْرم أشد من أكلّ الخنزير، وأشد من الزّنى الذي قيل فيه، ولا تَقْربوا الزّنى، بينما العقل أسْقِطُوهُ، قبل أن نأتي للحياة، وقبل أن نصحوا من النوم ونرى أنفسنا بشراً، كيف كنا فوق هذا الكوكب وتحت هذه السماء أجمعين، فُرْسٌ وعَرَبٌ، رومانٌ واغريق، وبيزنطيين؟
- كنا حميرًا وقرودًا...
أجاب الشاعر فرات بحماسة وهو يقهقه بوتيرة واحدة، ثم تلاه بعجلةٍ الشاعر، تبريز، مستفيضاً بالتسويغ...
- كنا كلّاباً وذئاباً...
يا للهول، قلت بسري وأنا أتطلع لهذا الجدل، لا أكْبتُ سعادتي بجرأة الطرح المعدوم بالمَعّرة، ولا أضمر متعة المتابعة في هذا الطقس الذي ما كنت أحلم به وأنا بالشام، فهذه بغداد بين الجد والهزل، تابعتُ بقية الحلقة وأنا أتوسل لو كنت أبصر وجوه هؤلاء الصبية والرجال والشيوخ الذين التقوا بصدفةٍ تحت سقف واحد، تحدوهم نزعة الشغف بالحرية والفرار من قيودِ العصر وأغلال حكم الخلفاء ودوائرهم المذهبية التي يخفون تحتها فواحشهم الدنيوية.
- له المجد!
- المجد لشجرة...
ملتُ برأسي العريض على مرافقي الذي أدركتُ أخيرًا كنيته، وهو زهير، وهمست بسؤالي عن مغزى عبارة المجد لشجرة، كنت شغوفاً بهذه العبارة التي خلتها فلسفية، ذات عمق سحيق، فإذا بزهير، يصعقني بالقول، إنها راقصة، فاتنة الجمال، ساحرة الخد، يمجدونها كلّ ليلةٍ بختامِ الجدل لتعزف لهم رقصاً بجسدها الآسر، وكانت وصيفة لجارية تدعى كرزة التحقت بقصر الخليفة ولكنها لم تفْشِ سر المغارة. من هذا الجمع الذي يمجدون فيه الإله والراقصة بآنٍ واحد؟
فجأة شمّمتُ رائحة عطرٍ نسائي ولولا صوت الفضل بن يحيى الذي دخل الحلبة، لأيقنت أن امرأة وقعت بحجري.
- هل حلم أحدكم بالله؟
صمت الجميع وكأن الطيور حلقت فوق رؤوسهم، فَتَدخَلتُ ونطقتُ لأول مرة منذ وطئت المغارة، تنهدتُ والتقطتُ أنفاسي وقلت بنبرةٍ رزينة قاطعة حتى لا أتيح لأحد أن يجادلني.
- حلمت بالله في صغري بليلةٍ ممطرة حالكة الدجى، به، في هيئة شجرة بلوط عملاقة، وأُجْزم أن حلمي هذا لا تقرنه علاقة بذكر شجرة في مجلسكم هذا، منذ حينها لم أضع صورة لله في رأسي ولا في وعيّ، ولكن تركته مجهول الصيغة والجنس واللون، حتى لا أرهق عقلي بصورته.
- هل هو انثى أم ذكر؟
هجع الجميع، وأنصتوا للشاعر فرات، الذي ارتأى قراءة قصيدة، قال وهو يوجه الكلّام نحوي...
أبو العلاء كم اشتقنا لك...
فطنتُ لمرماه، وأدركت أنهُ من النزق أن أصدهم عن تلاوة شعري، تراءى إليّ، من الحكمة أن أنقلهم من طقسٍ إلى آخر، وأترك بينهم بصمةٍ بهذه الليلة، فمن يعلم بما يخبئ الغد من مجهولٍ.
- ماذا بينك وبين المرأة أبي العلاء، لماذا تمقتها؟
باغتني السؤال، فزودني ذلك بتذكر منظومة شعرٍ بينما كنت حائرًا بالبحث عن واحدة تماثل هذه الأمسية الزرقاء، لا أظن أني أنَصتُّ بحياتي لصمتٍ كهذا الهجوع المطبق وكأن الطيور كلّها حَلَقَت فوق رؤوس اللفيف، تنتظر تفوهي...
"مَغَانِي اللّوَى مِنْ شَخْصِكِ الْيَوْمَ أَطْلاَلُ، وَفِي النَّوْمِ مَغْنًى مِنْ خَيَالِكِ مِحْلاَلُ مَـعَـانِيْــك شَتَّـى وَالْعِبَـــارَةُ وَاْحِــدٌ، فَطَــرفُك مُغْتَالٌ، وَزِنْــدُك مُغْتَال"
وبينما سرت همهمة حولي، لا أعلم إن كانت اعجابًا أو استنكارًا، أفاقني من تأملي، رسول الكوفي الذي لا أخمن أين اختفى منذ مجيئنا حتى بزغ فجأة بجانبي يهمس بأذني: الجارية شجرة ملحّة أن تلقاك وتهمس لك بشيءٍ يؤرقها.
رجف قلبي، وتوّجَستُ أن كلّ من حولي لمحوا وجومي، اجتاحني ما يماثل الذهول، فأنا لم التقِ امرأة غير أمي، ولا أطمع بذلك، ماذا سترى فيني؟ غير وجهي والجدري وعينيي المنكوبتين، ورأسي العريض، وشعري اللاذع، وحيائي الخلقي، أي امرأة تريد رؤيتي غير مومس منبوذة، أو جلادة مأجورة، أو أمي التي خلفتها بالمَعّرة تكابد الحسرة على هجراني الديار؟
أنقذني من تمتمة صاحبي بشأن الجارية، نداء الشاعر فرات، يستفزني بذكر الشرائع التي أودعتنا العداوات، فقد عرّف إليّ بنفسه وقال، انه يهودي ولا يشعر بحرجٍ، فكلّ شريعة ضد اختها. جّسّستُ موضع جلوسه من صوتهِ، أدرت وجهي نحو مصدر سمعي، ليصل إليه صوتي:
"دين وكُفر وأنباء تقصُ، وفرقانٌ ينص وتوراة وإنجيل، في كلّ جيل أباطيل يُدان بها فهل تَفَرّد يوماً بالهُدى جيل"
فجأة وبلا تنبيه، بَزَغ هرج ومرج، اضطرب المقام، دون أن أفهم ماذا عكر صفو المجلس، فقد جَهَرَت الأصوات تطالب بمغادرة شجرة، التي لم أفطن إلى أنها اقتحمت المقام عارية من ثيابها كما وُلِدت، راحت تختال بين الجمهور، وترفل بجسدها وقد تصورتها فراشة ترقص حول النار، طرأت جلبة وضوضاء، بين ضحكٍ واستنكار وهمهمة، حتى لعلع صوتها يدوي بنبرةٍ جسورة بدا أنها عَمَدت لإصدارها، تحدياً أو احتجاجاً على خَطْبٍ ما جال في خلدها.
- تظنون أنكم تسخرون من الله عزّ وجَل، هو من هزأ بكم، وسخر منكم...
- ولماذا المكان تقتحم عارية؟
رد صاحبي على تساؤلي المفعم بالعجب والاندهاش.
- ألفت بكلّ جلسة فعل شيء صارخ، وصادف اليوم وجودك بهذا المسرح، ألم تنصت قبل قليل: المجد لشجرة...
- إذن هذه هي شجرة؟
أجاب بصوت حاد، فيما لا زالت الجلبة، تحيط بالمكان.
- كانت في البدءِ يرقة، ثم باتت فراشة، بعدها أينعت شجرة، ثم تعرت...
قال ذلك وهو يقهقه...
هنا، بهذه الأرض المختمرة بمخاض مجهولٍ، تَنْبت شياطين وملائكة جنباً إلى جنب، يعشقون ويتزاوجون، ينجبون ويتشاجرون، وكأنهم بمجرة، غير تلك التي ورد ذكرها بالكتب القديمة، ما أعجبني بهذه الوصلة من السهرة البغدادية، وهذا اللفيف من شعراء وفلاسفة ومومسات، تطويهم حياة مختلفة عما تراه فوق سطح الأرض، لا هَتْرَ هنا، حيثما هناك الزيف والنفاق والجهل، هنا تندو الأنفس والأرواح والأبدان في سفرٍ، فهرسه هذه الأفعال والأقوال التي لا تحدّها قيود ولا تعوقها محارم، فها هي شجرة، امرأة فَلَّتْ من عقالها، فاقترفت ما أحست، دون أن تُجْلَد أو تُرْمى بحجر، بجانب ما تفوّه به هذا اللفيف من خطبٍ وأقوال، اِنْعتّقت كافتها من قيود وشرائع أهل الأرض، رأيت ليس بعينيّ بل برؤياي، أن ثمة مجرةً بهذا الكون يعيش سكانها بلا أصفاد، ولا أغلال، كتلك التي تَرَكْتُها خلفي بالمَعّرة، حيث تُجَز الرؤوس وتدلي الجثث وتُحْرق الكتب، ويفر الشعراء والكتاب، ولا توجد شجرة تخرج عارية!
- حدثني عن الشكّ أبي العلاء، أما زلتَ بين الريبة واليقين؟ يُخَيَّل إليّ أنك بمنعطف السبيل إلى السداد، وكم تستغرق سفرة بلوغ مرفأ الحقيقة؟
الفضل بن يحيى، يأبى إلا أن يستجوبني، بهذه الأمسية الساطع فضائها بالانعتاق من الأغلال، كان تهديدي، بالجارية، شجرة، ولا أعلم إن كانت جارية أم مومسًا؟ أم فيلسوفة، فكلّنا في هذه الدنيا بمجرةٍ نتبادل الرتب، ونقف بذات المنصات، ونتلو ذات الترهات، سواء كانت كتبًا صفراء أم خضراء، أم سوداء؟ فإنها تَصب في ختام الحياة. دَقْقتُ بالأصوات والأنفاس والروائح من حولي، حتى السجاد أسفلي الذي جلستُ عليه،تحسست بيديّ ملمسهُ لأدرك بأنه سجاد فارسي، فقد كانت حوافه وخيوطه ذات نسغ حاد، ومنسوجه المتدرج الذي لا يتقنه سوى غجر العجم من نسل الساسانيين الذين توارثوا تلك الحرفة قبل الإسلام، وكانوا يتقنون نسج السجاد وغزل الصوف، شمّمتُ نكهة التوابل الآتية من خلف الكوّات، بهارات حبشية مستمدةٌ من بذور، وأجزاء النباتات وأوراق الأشجار وجذور الأغراس. وَعيتُ بغتة على نبرةِ امرأة تفوح من جنباتها رائحة زهرة البنفسج، المستوحاة من عطور فارس المسمى بعطر البنفشة، تلك القوارير التي جعلت الخلافة تفتح فخذيها لملوك الفرس، لأجل قارورة، عطر، أو قنينة خمر، بعدما كانت بغدادُ حاضرة العواصم.
- أبو العلاء، قل بيت شعرٍ من لسانك الفصيح...
شعرتُ بغرزة رمح تطعن بعمق روحي، فهذه الجارية التائهة ونبرتها، والتماسها، ورائحة أريجها، والظلام يلفني، كلّها قوضت يقيني بهذا الكون وآمنت بأني في طريقي لعزلةٍ، تفصلني عن هذا العالم المتهتك، ماذا لو وقعتُ في هواها؟ وبعدها مزقني الشكّ، لا، يا أبا العلاء، قلت لذاتي الجاثمة على بابِ العزلة، منتظرةً مَفَريّ من هذا العالم الثابت المتحرك، والجاهل، لا امرأة ولا إلهٌ ولا صلاةٌ ولا بيان، سوى العقل.
- ألْمْح على شفةِ لسانك أبي العلاء بيت شعرٍ، قلهُ وأتم هذه الليلة بعهدٍ أن تبقى ببغداد، فقد سَمعتُ شائعة، أنك بصدد الرحيل بعدما وردتك أنباء من المَعّرة بمرض والدتك...
اقترب مني الاسكافي، وقد أدرك فحوى قلقي من وجود امرأة بحوضي، وأتكهن بأنه انتزعها مني، والقى بها بصحن الدار، حيث علت الضحكات، فاستيقنت أن مهزلةٌ من العرى وراء هذه القهقهة التي انبثقت من غالبية الأفواه، فأما أن شجرة خرجت عن سيطرتها وتعرت ثانية، وأما إله قد انتحر، وأمام إلحاح بعضهم ولجاجة امرأة، وإصرار كلّ من الشاعر، فرات، وتبريز، تهاوى جداريّ الناري، ووجدت نفسي أمام شبح موت أحدهم، فقد شَعرتُ بوخزةٍ في صدري، طار عقلي على إثرها من مكانه، فَتَلوّت أبياتي كي أتمّم ليلتي وأنجزها...
"إنّ حزناً في ساعة الموت، أضعاف سرورٍ في ساعةِ الميلادِ، أمر الإله واختلف الناسُ، فداعٍ إلى ضلال وهادٍ، واللبيبُ اللبيبُ من ليس يغترُّ بكونٍ مصيره للفساد، يأتي على الخلق إصباحٌ وإمساء وكلّنا لصروف الدهر نسّاءٌ، نالوا قليلاً من اللذات وارتحلوا، فإذاً النعماء بَأْسَاءٌ"