كامل فرحان صالح
لا تزال مسألة اللغة العربية والتحديات التي تواجهها على غير مستوى، موضع اهتمام أكاديمي وثقافي وفكري...، ويمكن القول إن التحديات التي تمكنت اللغة من مواجهتها وتخطي الكثير منها عبر التاريخ، تبدو اليوم وكأنها تخوض معركتها الأخيرة في ظل بروز التحديات المستجدة الآتية:
- ضرب مفهوم اللغة بوصفها أيقونة الهوية الثقافية والتواصلية، الحاملة لذاكرة الأمة وحافظة تراثها الفكري والاجتماعي والاقتصادي والعلمي والاعتقادي...، وقد تبدت هذه الخطورة الداهمة من خلال اتساع استخدام الأجيال العربية لما بات يعرف بـ "لغة العربيزي"، أي كتابة الكلمة العربية بحروف وأرقام لاتينية، وكأن اللغة لم تعد تمثل لهؤلاء هوية كيانية، بل أصبحت سلعة من ضمن السلع، التي يصار إلى استخدامها والتداول بها ضمن شريحة ما محددة، وبالتالي يمكن اللعب بها، وتغييرها كيفما شاء، ومتى شاء، من دون ضوابط، أو حدود، فيتخلخل مع هذا التداول والاتساع، الرابط /الجسر بين ماضي الأمة وحاضرها ومستقبلها. ولعل المرء لا يبالغ، إذا أراد أن يتلمس هذه الخطورة ليس على مستوى اللغة العربية الفصحى فحسب، بل على مستوى اللغة العامية أيضًا.
- تراجع دور اللغة أمام سطوة الصورة وسحرها، فقد شكل بروز العالم الافتراضي، ومن خلفه الثورة الرقمية بكل تشعباتها وتعقيداتها، التحدي الوجودي للكلمة التي بقيت تتربع على عرش الحضارات حتى العصر الحالي، ليتراجع دورها باضطراد أمام انتشار أشكال الصور ورموزها المختلفة من أيقونات، وإشارات، وعلامات، ومؤثرات... على مساحة العالم الرقمي الذي يحيط بنا في كل مكان، فمع التداول الكثيف لهذه الرموز، أصبحت الآن، لغة مفهومة ومشتركة بين شعوب الأرض قاطبة. من هنا، يبدو كأن اللغة (بكيانها وجوهرها التاريخيين)، لم تعد تتمتع بمركزية التعبير والمعنى والتواصل والافهام...، بل يلحظ أن هذه المركزية أصبحت بالتشارك مع الصورة ورموزها ودلالاتها كافة. ولعل المرء لا يبالغ إذا بدأ يتلمس في الأفق، هذا المسار الدائري الذي تسلكه اللغة عبر عودتها إلى المنبع، أي إلى أشكالها وجذورها الأولى على جدران الكهوف والصخور، عندما كان التعبير الإنساني البدائي قاصرًا على أشكال وخطوط يحفرها في الصخر.
- التعنت بالرأي القائل إن قواعد اللغة العربية من نحو وصرف، صالحة لكل زمان ومكان، وإن المشكلة تكمن في الناطقين بها وليس في بنيتها وخصائصها. وتعنت أصحاب هذا الاتجاه لم يعد من الممكن القبول به أو الرضوخ له، في ظل ما يشهده المرء من تصدعات وشروخ حادة في استخدام طبقة المتعلمين والمثقفين لهذه اللغة، وكمية الأخطاء اللغوية المنتشرة في ما يكتبونه أو يقولونه. قد يقول قائل إن المشكلة تكمن في التعليم، وقد يقول قائل إن المشكلة تكمن في الاغتراب الحاد الذي يعيشه المجتمع العربي على غير مستوى، لكن وإن بدت هذه الآراء صحيحة في جانب من الجوانب، فإن مهمة تطوير اللغة وإعادة النظر في بنيتها وقواعدها من صرف ونحو، باتت من المسائل الأساسية اليوم؛ إذ لم يعد من المستساغ والمقبول فصل درس اللغة عن النص، ولم يعد من المقبول تقديم اللغة بوصفها كيانًا منفصلاً عن الحياة الفكرية والإبداعية والاجتماعية. فقواعد اللغة وضعت في الأساس، بهدف التعبير والتواصل والتخاطب مع الآخر، ولم يكن الهدف منها وضعها في متحف أو تحنيطها أو جعلها إلها يعبد.
إن هذه التحديات الثلاثة، ومن المؤكد هناك تحديات أخرى، تواجه اللغة العربية اليوم، ولعله بات من واجب جميع المعنيين في مجامع اللغة والجامعات ووزارات التربية والتعليم، من دون نسيان أهل اللغة من علماء وشعراء وأدباء وصحافيين ومفكرين وكتّاب... الكف عن التغزل باللغة وإلقاء المديح فيها، والبدء فورًا بمعالجة الأمراض فيها، قبل أن تستفحل أكثر فأكثر، وقبل أن تتسع أكثر فأكثر الهوة بين الأجيال حاضرًا ومستقبلاً.
· أستاذ في الجامعة اللبنانية
عدد 201/202