البوعيسي، وفاء؛ للجوع وجوه أخرى. [قصص]. ط 1. 2006م. منشورات مجلة المؤتمر. ليبيا.
1/ الرؤية الفجائعية:
الرواية الأولى "للجوع وجوه أخرى" للكاتبة وفاء البوعيسي من ليبيا، تطرح أمام القارئ والدارس معا إشكالات عديدة تخص بالدرجة الأولى سؤال الهوية الفردية والجماعية، وسؤال المصير. وهما سؤالان عميقان راسخان اليوم في الوعي الإبداعي الروائي العربي كما بينا في كتاب "الرؤية الفجائعية في الرواية العربية نهاية القرن العشرين". فما هو الباعث لهذين السؤالين في كتاب وفاء البوعيسي؟
تقوم رواية "للجوع وجوه أخرى" على شعور بالضياع وإحساس عميق بالنبذ والإقصاء، وبالتخلي، وشعور بالنقص والدونية. يقول النص:" استبد بي إحساس رهيب بالوحدة والخوف، وعرفت لأول مرة معنى الغربة قبل أن أفهم الكلمة وأتعلم كتابتها." ص (8). وتضيف الساردة:" أخيرا هدأت وجفت دموعي ولم أذرفها بعد ذلك إلا بعد أن استبد بي الجوع وشعرت بالإذلال وتحولت إلى طفلة أخرى، هادئة، باردة، صامتة، شاردة." (9). وتقول كذلك:" لم أشعر يوما بالاحترام تجاه نفسي، فكل ما حولي كان يشعرني بالامتهان والرفض..." ص (41). وكلما تقدم السرد نحو نهايته إلا وازداد الإحساس بالضيق والنقصان، كما في المقتطف التالي:" ...أحس حقدا، حقدا جافا أعمى، أنا أكره الآن نفسي، هذه البائسة الحقيرة، ما أنا إلا حثالة كتب لها أن تعيش عيشة الكلاب، وتموت ربما ميتة الكلاب من الجوع والخوف والضياع." ص (72).
هذه الصفات بل هذه الأحاسيس التي تخترق الشخصية الروائية وتهيمن على الفضاء العام للرواية، وتلون بالتالي كل المقومات الأخرى المكونة للخطاب الروائي في "للجوع وجوه أخرى"، كالسرد الذي جاء حافلا بالانفعال العاطفي، والأحداث التي تراكمت وتوالت على الشخصية لتعقد أكثر وضعيتها الاجتماعية وحالتها النفسية. لكنها أثرت بصورة إيجابية على اللغة التي استفادت من الخطابات الأخرى التي تخللت العمل الروائي؛ تدفق المشاعر، وصف اللحظات الحميمة والخاصة، كلمات الأغاني الغربية، مقتطفات من الأناجيل...
2/ رواية تكون الشخصية:
كيف تحولت الشخصية الروائية إلى حالة اجتماعية ونفسية؟ للجواب عن هذا السؤال سنكون وجها لوجه مع رواية تكون الشخصية. وهي رواية تعتمد على الأبعاد الثلاثة التالية: البعد الاجتماعي، والبعد النفسي، والبعد الثقافي.
يؤهلنا البعد الاجتماعي لدراسة الأسباب الموضوعية والخارجية (خارج الذات)، التي ساهمت في تشكيل الشخصية الروائية. أما البعد النفسي، فليس سوى التمثل السلوكي المعلن والخفي غالبا، الذي يأتي تعبيرا عن التصادم الصارخ بين، كما يرى فرويد، الرغبة والواقع. أي تصادم ما تراه الشخصية الروائية (والواقعية) حقا من الحقوق الطبيعية والفطرية، مع ما يفرضه الخارج المجتمعي سواء أكان تقاليد جمعية، أو عادات وسلوكات فردية وأسرية. ويتشكل البعد النفسي انطلاقا من درجة وحدة التصادم، ودرجة القدرة الذاتية للشخصية، وامتلاء الذات أو اهتزازها واضطرابها. والبعد الثقافي يقوم بدور الوسيط، الوسط بين صلابة الخارج/ الواقع، وانفعال واندفاع الذات/ الرغبة. فيقارب بينهما ويبرر الخيارات، والمواقف، ويمنحها صفة القبول.
3/ البعد التاريخي والاجتماعي:
لقد اختارت الكاتبة لروايتها الأولى معينات غير لسانية؛ معينات تاريخية لتأطير الحكاية المركزية، تجلت في صورة تواريخ محددة وأحداث واقعية، تؤشر على بداية الصراع والخلاف بين دولتين عربيتين جارتين، هما :ليبيا ومصر. وهذا الاختيار التاريخي يهب القصة بعدا واقعيا، لكنه في الوقت ذاته يمنح السرد صفة التسلسل، والتنامي المنطقي المتدرج كما في كتابة التاريخ، وكما في كتابة الروايات الواقعية والطبيعية. ولعل هذا ما جعل الناشر يضع خطأ تحديدا أجناسيا مختلفا عن صيغة العمل، فوصفها ب (قصص) بالجمع وهو غير مقبول تماما، وكان من الممكن قبول التوصيف الأجناسي التالي (قصة) اعتمادا على صيغة بناء الحكاية المركزية، واعتماد ضمير المتكلم، والشخصية المحورية والمركزية الواحدة، والتسلسل المنطقي للأحداث.
ومن الخطاب التاريخي، أو السرد التاريخي المعتمد على المعينات غير اللسانية نقتطف التالي:" كان النظام المصري بقيادة الرئيس "أنور السادات" وقتذاك، قد بدأ يستقطب منذ بعض الوقت غضب الشارع العربي عندما أعلن وقفا لإطلاق النار بصورة منفردة مع إسرائيل بحلول نهاية حرب تشرين أكتوبر 1973، ثم تحرك بشكل قوي للاتصال بأمريكا، وأكثر من زياراته للرئيس جيمي كارتر والتردد على أروقة البيت الأبيض للتباحث معه حول الصراع العربي الإسرائيلي المتأزم [...] دبت الخلافات بين البلدين [ليبيا ومصر] لأسباب كثيرة، أبرزها كان تطور الأوضاع بزيارة الرئيس "أنور السادات" المفاجئة للقدس سنة 1977 وظهوره وحديثه علنا مع رئيس الوزراء الإسرائيلي "مناحم بيجن" عن السلام أمام الكنيست الإسرائيلي، ومن وقتها بدأت الأمور في التأزم، وشيئا فشيئا تدهورت العلاقات بينهما بشكل خطير، فقد قامت كل دولة استدعاء سفيرها، ثم ساد الاحتجاج وطلب من رعايا كل دولة المغادرة إلى بلدهم، وتبودل إطلاق النار بين الدولتين، ومات جنود من الجانبين، إلى أن انقطعت العلاقات تماما بينهما حتى قبل أن توقع مصر أخيرا اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل وأمريكا في 26/ مارس / 1979." ص (6).
تبدو الوظيفة التأطيرية للحكاية واضحة من عرض هذه الأحداث والوقائع. لكن البعد الجمالي والفني سينعكس بصورة أفضل على نفسية ومصير وهوية الشخصية الروائية.
4/ البعد النفسي والسلوكي:
لم تكن القطيعة السياسية بين الدولتين هي المحور الأساس في الرواية بل كانت مجرد تحديد خارجي يؤشر على الانعكاسات الاجتماعية أولا المتمثلة في ردود الأفعال؛ رفض زوجة الخال أحمد الثانية "نجلاء" لوجود الشخصية في البيت واهتمام الزوج بابنة أخته، ومن ثمة سوء المعاملة، والتجويع والإهمال والكي، والإهانة...
لهذين البعدين تأثيرهما وتوجيههما لمصير الشخصية، وبالتالي دورهما في تشكيل نفسية وسلوك الشخصية المحورية. وأهم ملمح شكل الشخصية : الخوف. وقد أورث الشخصية سلوكا سيلازمها حتى نهاية العمل التي ظلت نهاية مفتوحة على كل الاحتمالات والتأويل؛ العجز، واستلاب الإرادة.
وفي مظهر من مظاهر مقاومة الذات، العفوية والفطرية، ستخوض الشخصية الروائية مجموعة من التجارب، دون إرادة حقيقية، ودون اقتناع. ستخوض عددا من التجارب العشوائية طلبا للحماية، وبحثا عن الطعام، وبحثا عن منافذ للهروب من المواجهة. إنه الاختيار الصعب، لكن اختيار غير سليم لأنه لم يقو على حماية الذات، ولم يجعلها قادرة على مواجهة الصعاب الداخلية والخارجية في آن.
ومن الاختيارات التي لجأت إليها الشخصية مثلا؛ اعتناق المسيحية، رغم أنها تنحدر من أسرة وعائلة مسلمتين. والخلل كامن في الدافع. تقول الساردة:" ...بدأت أضجر من الجلوس، لكني آثرت الانتظار قليلا كي لا أحرج أندريه، وحسنا فعلت إذ سرعان ما انتهت التراتيل ووقف الحضور أمام المذبح يقرأون بعض آيات من الكتاب المقدس، بعدها شاهدت أناسا يفرغون سلالا تحوي أصنافا من الطعام شرع الناس في تناوله وامتنعت أسرة "أبو غريب" عن ذلك لا أدري لماذا، لكني طبعا لم أضيع الفرصة وشرعت في الأكل، ومن يومها لم أفوت قداسا واحدا طوال العطلة." ص (36).
لكن الساردة تورد بعمق أكبر وتحليل أو تبرير بعدا من الأبعاد التربوية القيمة التي تدفع الشخصية في الرواية كما في الواقع إلى اختيارات مصيرية بدوافع غير موضوعية. ولا ينطبق هذا على الدين بل على مختلف القيم، الأخلاقية، والمبادئ، والإيديولوجيات، والآراء. وهنا أهمية الرواية التربوية، أو رواية تكون الشخصية. أي أنها رواية لا تنقاد كثيرا لمتغيرات جمالية الشكل الأدبي؛ كتشكيل النص وتلوين بناءات الحكاية الواحدة، أو تداخل الحكايات، وتجريب الخطابات الأخرى كالخطاب الشعري...لكنها تحفر في البواعث الخارجية لتكوين الشخصية، وتدرس الانعكاس السلوكي والنفسي لكل ذلك على الشخص.
وتقع رواية تكون الشخصية في قلب إشكالية الهوية الفردية والجماعية، وإشكالية الكينونة والمصير. ولعل الاختيارات غير الواعية، والدوافع الخارجية الضاغطة على الشخصية هي التي ستقود إلى النهاية المأساوية للشخصية الروائية. وحتى النقطة المضيئة التي زرعتها الكاتبة في طريق الشخصية الروائية، وأعني الحب، الحب كطاقة ذاتية حقيقية وحميمة، قادرة على خلخلة الذات، وهزها إلى درجة بلوغ السؤال الجوهري "من أنا؟"، "ماذا يحدث لي وللعالم من حولي؟"، "ما هي درجة مسؤوليتي في كل ما حدث ويحدث؟"، و"هل أستطيع الفعل؟". إن طرح السؤال حول الذات، وحول المحيط الخارجي لحظة وعي وتحقق. وهو ما لم تدركه الشخصية الروائية، ولم تستطع تحقيقه برغم الإحساس بالحب، والدفء العاطفي، والرغبة، والذات، لأنها ذات / شخصية مهزومة من الداخل، شخصية بنيت على أسس هشة قوامها الجوع والخوف والعجز، وضمور روح المقاومة.
وهنا تلك التبريرات التي تسوقها الساردة :" ... كان لذلك أثره حتما على نزوعي لاعتناق المسيحية، وربما كان السبب في الحقيقة يرجع لصغر سني والفراغ الروحي الذي كنت أعانيه وعدم درايتي وانقيادي خلف الطعام والحاجة إلى من ألجأ إليه، أو لانعدام المراقبة في البيت، فقد كنت في سن حرجة وكنت أفعل ما أفعل فلا أجد من يحاسبني، وربما لهذا السبب أو لتلك الأسباب مجتمعة اعتنقت المسيحية لست أدري." ص (37).
إن اعتناق المسيحية هنا لا يختلف عن اعتناق إيديولوجيا ما، أو أية منظومة فكرية. لكن السؤال الذي طرحه علينا الكاتبة، وهو سؤال تربوي عميق، يتمثل في القدرة على استيعاب دور التربية السليمة في تكوين الشخصية السليمة. ودور المجتمع (الأسرة، المدرسة...) في ذلك.
إذا قاد الجوع الشخصية نحو الكنيسة، فإن الوحدة والفراغ قادا الشخصية الروائية نحو الضياع كما تقول الساردة:" دخلت مع "دوغان" طورا من الضياع الممتع..." ص (48). وبعد مغادرة دوغان إلى بلده الأصلي تركيا، تضيف الساردة:" وجدتني مع الوقت أتصرف. صرت أنتقل من شاب لآخر، أعيش علاقات تافهة أحصل فيها على ما أحتاجه أحيانا، أعبث وأمضي وقتا في التسلي أحيانا أخرى." ص (52).
بهذا العلاقات المتعددة تدخل الكاتبة مرحلة أخرى من تطور الشخصية، لكنه دائما تطور لا إرادي، تطور غير واع، تطور يأتي من خارج السؤال وفي ظل العراء والفراغ من أية حماية وتوجيه.
5/ البعد الثقافي:
يتمثل البعد الثقافي في التصادم بين وعيين مختلفين، بل متناقضين؛ وعيها الذي اكتسبته بالفعل أو بالقوة من خلال تجربتها الذاتية وما حصلت عليه في المدرسة الأجنبية التي درست بها الشخصية الروائية في سنوات الإقامة بمصر. ووعي أسرتها الحقيقية في ليبيا التي اختارتها متزمتة، لا تعترف بحقوق المرأة الفردية والذاتية والدينية والتعليمية والمجتمعية، السياسية...
اختارت الكاتبة فضاء ليبيا لبناء المسار السردي الثاني للحكاية المركزية. وهو فضاء مختلف عن الفضاء الأول في مصر. فإذا عرف الأول بالانفتاح (الإهمال والتخلي) ، وفيه مارست الشخصية كل التجارب المتاحة؛ التسكع في الملاهي الليلية، شرب السجائر بشراهة، احتساء الخمر الرديئة، خوض التجارب الجنسية دون رغبة أو حب...فإن الفضاء الثاني عرف بالمحافظة والتزمت في أمور كثيرة. وهو ما جعل الشخصية الروائية تشعر بالضيق والاختناق.
والحقيقة أن الساردة ما فتئت تومئ هذه الطبيعة المتناقضة بينها وبين أهلها الذين تخلوا عنها لسنوات، حتى أنها فقدت كل عاطفة تجاههم. يقول النص:" ... والحقيقة أني كنت قد فقدت روابطي الاجتماعية والعاطفية مع أهلي منذ أحد عشر عاما مضت، عشت خلالها وحيدة معتمدة على نفسي، تعودت مع الوقت على ذلك وعشت عليه، لم أكن بعد هذه السن التي وصلت إليها الآن في حاجة إلى من يؤثر في من جديد، فقد فات الأوان على ذلك." ص (105). وتصور الساردة موقف الشخصية من خبر موت أمها بالبرود والفراغ العاطفي كما يلي:" أما عن موقفي أنا فلا تسألوني ماذا فعلت، لأني لم أفعل شيئا ولم أشعر بشيء، لم أشعر بحزن ما، بقيت جامدة بلا حراك ووجهي خال من التعابير، شعرت أن الجميع ينتظر مني أن أقول شيئا أو أصنع شيئا، أبكي، أنهار، أحزن، أصرخ، أسأل كيف حدث هذا ومتى، لكني سكت ولم أعرف ماذا أقول أو أفعل، صدقوني كان وضعي صعبا، لم أكن لها يوما أية مشاعر تذكر، أنا ببساطة لم أتأثر بموتها لأني لم أتأثر بحياتها، لقد كبرت بعيدا عن أحضانها وهي التي أبعدتني عنها، انقضت ثلاث عشرة سنة من عمري وأنا وحيدة، بيني وبينها مئات الكيلومترات، حرمت منها ومن حنانها وعطفها ورعايتها، لقد كانت بعيدة عندما احتجتها..." ص (112).
وهذا نمط آخر من القضايا الفكرية والتربوية التي تطرحها رواية تكون الشخصية، إنه النمو العاطفي الأسري، وبالتالي النمو العاطفي المجتمعي والوطني. والكاتبة تطرح هذه القضايا مجتمعة في روايتها وتحمل كل طرف مسؤولية مآل مصير الشخصية الروائية. فمأساة الشخصية الروائية ناجمة عن عدم تحمل المجتمع والأسرة دورهما في تنشئة الفرد تنشئة سليمة وحمايته من السقوط في براثن الخوف والانهزامية والعجز وفقدان الثقة بالنفس، وناجمة أيضا عن الوعي غير السليم والثقافة العتيقة المنغلقة تجاه متغيرات الواقع والحياة، والتوتر السياسي بين الدولتين (ليبيا ومصر) العربيتين اللتين تشتركان في مقومات أساس للوحدة لا للتفرقة. وهنا محاكمة غير معلنة للخلافات العربية العربية التي تضعف لا تقوي...
هذه القضايا في عمقها وشساعتها هي جوهر البعد الثقافي في رواية "للجوع وجوه أخرى".
6/ بناء الحكاية:
لقد اعتمدت الكاتبة على الكتابة الواقعية التي تستند إلى التسلسل المنطقي للزمن. لزمن وقوع الأحداث. وقد عززت الكاتبة هذا التوجه والموقف بالاعتماد الصريح على المعينات غير اللسانية كما سبقت الإشارة. لذلك فاهم ملامح السرد في هذه الرواية تتجلى من خلال:
• المحكي الذاتي: لقد اعتمدت الكاتبة على ضمير المتكلم في سرد الوقائع، ورواية قصة مأساة فتاة ليبية اضطرتها الظروف السياسية العربية من خلال مواقف السادات في الصراع العربي الإسرائيلي، ومن خلال موقف ليبيا من التصرفات الفردية المصرية، إلى الانفصال عن أبويها وإخوتها في ليبيا لتعيش الإهمال والإهانة والجوع والتشرد في مصر. والحكي بضمير المتكلم له مزايا كثيرة جدا، منها ضيق المسافة الفاصلة بين السارد والشخصية المحورية. وهو ما يوهم القارئ بجنوح السرد نحو المحكي الذاتي، وابتعاده عن التخييل أو حتى التخييل الذاتي.
• التسلسل الزمني: يوهم التسلسل المنطقي للأحداث في القصة (مادة الحكي) بالتسلسل التاريخي، الرواية التاريخية. ومفهوم التاريخ كما هو سائد في الأذهان، يساوي الحقيقة الواقعة. وهذا مقصد من مقاصد رواية تكون الشخصية، أي أنها تحاول عبر المتخيل تجسيد الواقع من أجل تجاوزه. لكن لا يمكن طبعا تجاوزه إلا بعد إدراكه، وفهمه واستيعابه في كل تناقضاته. والشخصية الروائية في "للجوع وجوه أخرى" ركام من التعقيدات الناجمة عن سوء التنشئة الاجتماعية.
• الاهتمام بالقصة: ومعنى القصة هنا المادة التي تشكل الرواية، بمقابل الخطاب كما حدده جيرار جنيت. ويمكن سرد باختزال شديد جدا المحطات الأساس التي قامت عليها القصة. وهي بالتتابع: الصدفة (صدفة التخلي عن البنت في زيارة مصر)، المحنة (التشكل النفسي والشعور القوي بالإحباط والفقدان والدونية والجوع)، التجربة (وتضم كل ما تعلق بالأسباب الخارجية التي دفعت الشخصية للتشرد والضياع والتسكع)، الحب (نقطة الضوء الوحيدة في حياة الشخصية لكنها ظلت بنهاية مفتوحة الأفق والاحتمال)، العودة (إلى ليبيا وبداية الانحدار نحو الحل والنهاية، وبداية التصادم في الثقافة والوعي والأفق)، محاولة الانتحار (قمة الشعور باليأس واللاجدوى والإحباط)، اكتشاف زواج الشخصية سرا بمصر من الزروق...
7/ للجوع وجوه أخرى:
رواية حافلة بالقضايا الاجتماعية والتربوية والسياسية في البلاد العربية. رواية ذات قدرة كبيرة وجرأة على طرح ما تسكت عنه أقلام كثيرة. رواية تعالج كذلك وضعية المرأة في البلاد العربية، في البلدان المحافظة. التي ترى في كل سلوك تأتيه المرأة عارا، انتهاكا لحرمة الدين والمجتمع والأسرة. رواية تستحق القراءة.