جابر عصفور عن جريدة الأهرام – مارس 2008
كنت أناقش وشهرت العالم وطلعت الشايب بعض أحوال المركز القومي للترجمة. ولدينا الجديد الذي كنا نرجوه, وفجأة فتح الباب عماد أبو غازي, ودخل متهلل الوجه, يحمل عددا من جريدة أخبار الأدب, وبعد التحيات المعتادة. أعطاني العدد قائلا: إن هناك ملفا خاصا عن بدر الدين ابو غازي, ولمن لا يعرف فبدر الدين أبو غازي واحد من اشرف وأخلص من عملوا وزراء للثقافة في هذا الوطن لم اعرفه في حياته للاسف, ولكني عرفته من خلال اقرب اساتذتي الي نفسي وهو المرحوم عبد المحسن بدر الذي لم يكن استاذا مباشرا لي فحسب في قسم اللغة العربية بآداب القاهرة بل كان بمثابة الأب الروحي ودليلي في عوالم الفكر والثقافة.
ولا حد لديني له في جوانب كثيرة, ابتداء من الاهتمام بعالم الرواية بكتابه الرائد عن تاريخ الرواية في مصر وقبله عالم الشعر بأطروحته للماجستير عن تطور الشعر في مصر, والحق أن علاقتي بعبد المحسن بدر لا تتوقف علي تأثري بكتاباته أو بمحاضراته, أو حتي بزياراتي المتكررة له في منزله, وإنما تجاوز ذلك إلي السلوك الذي كان مثلي الاعلي فيه والقيم التي غرسها في نفسي ومنها عدم الانخداع بالمظاهر الكاذبة أو البراقة, والبحث وراءها عن الجوهر الاصيل والقيمة الحقيقية.
وكان عبد المحسن بدر حنبليا بالمعني العامي للكلمة, حديا لا يقبل أوساط الأمور ولا يعرف المجاملة فالناس عنده صنفان من يستحق الاحترام وهم قلة قليلة, ومن لا يستحق الاحترام وما اكثرهم في زمنه وزماننا. وقد فرضت صرامته الأخلاقية الفكرية عددا من القواعد التي لم يتنازل عنها قط, وعددا من المبادئ التي لم يتخل عنها أبدا. ولذلك كان من النادر أن أسمع منه ثناء علي أحد, أو تقديرا لأحد. وكنت أوقن أن كل من يثني عليه عبد المحسن نموذج القيمة الإيجابية في صفائها النادر. ولذلك احترمت بدر الدين أبو غازي الذي عرفه عبد المحسن بدر الذي كان علي صلة وثيقة به بحكم التجاوب الفكري الذي زادته الجيرة. فقد كان عبد المحسن بدر يسكن في المعادي علي مقربة من منزل بدر الدين أبو غازي الذي كان يبادله الاحترام والتقدير والمحبة. وكان من عادة عبد المحسن بدر أن يحكي لنا عن علاقته بأساتذته الذين ظلوا أقرب إليه من غيرهم, وعلي رأسهم سهير القلماوي وعبد العزيز الأهواني اللذان كانا أقرب إليه عقلا ووجدانا وعن معارفه الذين لم يكن يتردد في إعلان احترامه لهم, وأذكر منهم أحمد بهاء الدين وبدر الدين أبو غازي, عليهم رحمة الله جميعا.
ولا أزال أذكر الحزن العميق الذي غرق فيه عبد المحسن بدر, عندما توفي الابن الأكبر, مختار, لبدر الدين أبو غازي في حادثة سيارة, علي طريق المعادي بالقرب من مستشفي القوات المسلحة. وكان حزن عبد المحسن حزنا عميق الأغوار, وأظنه لم يقصر في الاقتراب الحميم من الأب المكلوم بدر الدين أبو غازي, والتخفيف عنه, والمواساة له.
والمؤكد أن كثرة حديث عبد المحسن بدر عن صديقه بدر الدين أبو غازي هي التي دفعتني إلي اقتناء كتابه الضخم عن نحات مصر العظيم مختار. وكان بدر الدين أبو غازي ابن شقيقة مختار, فهو خاله الذي أورثه محبة الفنون, وعشق الجمال الذي ظل يرعاه دائما, عارضا وناقدا وداعما.
وأذكرأنني اشتريت الطبعة الأولي من كتابه عن خاله مختار وحياته في طبعته الأولي الصادرة سنة1949 من سور الأزبكية وقد أعاد طبعها وتنقيحها سنة1980, وعرفت- فيما بعد- أنه نال جائزة فرنسية عن كتابه مختار ونهضة مصر الذي كتبه بالفرنسية مع صديقه الذي رحل قبله, جبرائيل بقطر. وأضفت إلي ذلك معرفتي بكتبه عن محمود سعيد سنة.1960 وكتابه المهم عن الفن في عالمنا سنة.1973
هكذا, أدركت أن بدرالدين أبو غازي واحد من الرواد الذين أسهموا في تعميق شعور جيلنا ووعيه بأهمية الفن في حياتنا. وهي الأهمية التي كانت تؤكدها مقالات بدر الدين أبو غازي التي ظل ينشرها في الجرائد والمجلات المصرية, محاولا تنوير العقول وإغناء النفوس بكل نماذج الفن التي تضيف إلي الحياة حياة وعمقا وامتدادا وثراء, ولاشك ان كتابه الضخم عن خاله مختار كان مدخلي الاول الي عالم هذا المبدع العظيم الذي يظل علامة استثنائية في تاريخ الابداع المصري الذي نباهي به الدنيا بأسرها. وكانت عظمة مختار تتجسد امامي, صباح مساء في غدوي ورواحي من جامعة القاهرة, وذلك منذ ان انتقل التمثال الي صدارة الطريق المؤدي اليها, بعد نقله من ميدان التحرير وكنت أري التجسد نفسه في تمثال سعد زغلول في الاسكندرية وغيره من تماثيل مختار التي لا تزال تزهو بنضارتها وثراء دلالاتها في متحف مختار, سواء لجمعها ما بين الأصالة والمعاصرة أو قدرتها التعبيرية الفريدة عن العام من خلال الخاص, وعن الإنساني من خلال المحلي. وأقرب هذه التماثيل إلي قلبي تمثال الخماسين الذي هو درة فريدة في إبداع مختار, بل الإبداع الفني بوجه عام.