عبدالكريم كاصد الأحد 9 يناير 2005 - المصدر إيلاف .
حين قدمتُ إلى جامعة دمشق في بداية الستينات لم يكن ممدوح آنذاك قد نشر أيّ نص له في أيّ مطبوع عربيّ ، فكيف حدث أن تعرفت عليه ؟ لا أدري. كلّ ما أذكره الآن هو أن ممدوح عدوان كان صديقاً حميماً للشاعر علي كنعان الذي قرأتُ قصائده في مجلة الآداب. ومثلما كان ممدوح نقيضاً لعليّ في الكثير من طباعه كان نقيضاً لي أيضاً في العديد من الطباع ، ولكن يمكن القول إنني كنت أقف في البرزخ بينهما فأنا على اختلافي عن شخصية ممدوح كنت أقرب طبعا إليه من عليّ في اندفاعاتنا أحياناً... وبقدر ما تقربني هذه الحالات الاستثنائية من ممدوح وتبعدني عن عليّ فأنني أقرب إلى عليّ في حالاتي الأعتيادية، ولعلّ هذه المراوحة في السلوك هي التي جعلتني صديقاً لشعراء لا يشبهون بعضهم بعضا بل لشعراء متنافرين. ففي الوقت الذي كنت فيه صديقا حميما لممدوح كنت صديقا حميما أيضا لشاعر آخر نقيضٍ لممدوح تماما هو الشاعر فايز خضور .. ولم أجد في ذلك تناقضاً بل كنت أمارسه بعفوية تامة، وكان الاثنان لا يجدان في ذلك مأخذاً على بعد الشقة بينهما.
كان ممدوح في السنة الثالثة أو الرابعة في جامعة دمشق وكنت أنا في السنة الأولى في قسم الفلسفة . كنا غير متشابهين حتى في مصادر ثقافتنا . كان يتنقل خفيفاً كالفراشة بين كتبه الأنجليزية التي كنا نحتار في نقلها حين نبدل سكننا – وما أكثر المساكن التي انتقلنا إليها – بينما كنت أقف متجهما كغراب أدغار إلن بو على كتب الفلسفة الثقيلة التي كان يمرّ بها ممدوح متأففا ... وحين كنت أعتمد عليه أحيانا في ترجمة بعض النصوص الفلسفية التي ينبغي أن أقدم فحصاً بها كان يشترط علي مبتسماً ابتسامته الودود ألا ّ أسأله عن معنى النص بل أكتفي بالترجمة الحرفية . وكنت أرضى بشرطه على مضض وأكتفي بترجمته الحرفية الخالية من المعنى غالباً والشبيهة بالكلمات المتقاطعة . وبالفعل كانت نصوصا تعافها النفس لهيوم ولوك وباركلي . ولم تفارقه ( خفّة الكائن ) هذه حتّى في كتابته في ما بعد . كانت أوّل قصيدة له تنشرفي مجلة الآداب اللبنانية تتحدث عن المدينة .. الموضوع المفضل لدى كثير من الشعراء العرب القادمين من الريف .. من بين أحداثها ، كما أتذكر أمرأة تلقي بسطل ماء على الشاعر أثناء مروره تحت شرفتها، ولم يكن النقد الذي كتبه محيي الدين صبحي في عدد آخر عن القصيدة ايجابياً، ولكن ذلك لا يستوقف ممدوح بل قد يكون مفتتحا لصداقة مع الناقد.. هذه الروح المرنة حقّاً كانت تعوزالكثيرين منا نحن أبناء المدن حيث يفترض العكس ... كانت المدينة طموحا لدى ممدوح بينما كانت تمثل لي صراعاً . وفي الوقت الذي كنت أعمق معرفتي بالمدينة عبر قراءتي لتفاصيلها كان ممدوح يكتشفها في واقعها ذاته .. يقتحمه جريئاً لا بتصميم مسبق بل بعفوية اين الريف الذكيّ الساخر . وكانت انتقالة ممدوح من ذلك الولد الذي التقيته بسترته الزرقاء القصيرة وكميها الطافرين إلى ذلك الشخص الذي يعرفه الآخرون انتقالة سريعة ، فبعد اختبار اجتازه بسرعة في جريدة الثورة – كما اتذكر – عين مترجماً ثم محرراً بل كان يأتيني مفتخراً بكتابته افتتاحياتها ، ولم يكن ذلك غريباً على ممدوح فهو لا يتوقف عن المغامرة أبداً. كان يجتاز حتّى جهله بحكمة العارف ولم يتورع عن السخرية من نفسه إذا تطلب الأمر ذلك .
مرةً أوفدته جريدة الثورة إلى أندونسيا، في فترة عصيبة من حكم سوكارنو ، وهناك قابل سكرتير الحزب الشيوعي الاندونوسيّ موجّهاً إليه أسئلة اكتشف ممدوح سذاجتها البالغة في ما بعد وكان يضحك ويسخر من نفسه كلما تذكر ابتسامة السكرتير وتربيتته الحنون على كتفه ، وهو يوجه إليه اسئلته بثقة الجاهل. لم يكن اقتحامه المدينة دونكيشوتياً. كان مكتشفا حقا ولم تخل مغامراته من غرابة أو طرافة لم تكن أبداً طرافة ذلك البطل الوغد ، المنتهز للفرص ، السائر إلى هدفه دون أن يتطلع حوله بل ذلك الريفيّ القادم إلى المدينة والذي لم تغادره القرية قط. ويبدو أن صدمة ممدوح بالمدينة كانت مبكرة كاكتشافه لها .. وهذا ما يتضح ليس من خلال انطباعي عنه ، وانما من خلال شعره ولاسيما قصيدته المعنونة ( مقتل المغني الردئ ) في مجموعته ( طفولات مؤجلة )
يقول ممدوح :
كنت تطمح أن تجتني من زرائبهم شعرة فتنفست نتناً تصاعد من نفس وعرقْ تغافلت عن زرقة الوسخ المتحجر تحت أظافرهم صفرة اللؤم فوق الشفاه اسوداد العفونة ما بين أنيابهم واختفاء المخالب تحت تناغم همساتهم للبغاء تغافلت عن قدرة المشتري أن يحز ضحاياه منذ اشترى ما تصافق من حر مال سرقْ وجاريت سكرهم بابتسامة جبن تنحنحت تطلب إذنا لتبدأ فاسمك في حلبة اللهو دون رنين وقع خطوت إلى حيث يسقط نصل الإضاءة .... إلخ
وإذا كانت هذه القصيدة تعكس صدمته بالمدينة عبر فشل تجربته السياسية فأن هذه الصدمة قد تعبر عن نفسها عبر أبرزمعالم المدينة ذاتها كالشيراتون كما في قصيدة ( أمام الشيراتون ) في المجموعة نفسها:
بردى قبل دخول دمشق يهدئ خطوته كي يتأدب ويسير ككهل متعب خشية أن يقلق نوم ضيوف غرباء
بردى يتباطأ بين بقايا شجر مخلوع وتراب أجرب قبل دخول دمشق يمد الشرتون إليه ظلالاً فتقص له غرته وتربت فوق الكتفين إلى أن يهدأ تخصيه وتلجمه وترجل فيه الشعر الأشعث تخفي ذاكرة النهر عن المنشأ تلبسه الياقة والقبعة ثم تقص أظافره ليليق بصحبة هذي الأضواء تربطه حول الشرتون ولا تأذن أن يدخل فيه تتركه للفرجة أو الترفيه ويطل من الشرفات العالية رجال ونساء تنبعث الشهقات المستغربة وترطن : هذا ماء
هذه القصيدة هي المعادل الموضوعي - إذا صح التعبير - لقصيدته الأولى المباشرة التي نشرها في الآداب ... الموضوع ذاته بعد ثلاثة عقود من الزمن ويبدو أن الانطباع الأول الجزئيّ عن قسوة المدينة ولا مبالاتها ممثلة بالمرأة التي تلقي بسطل الماء على العابر من شرفتها أصبح انطباعاً يكاد أن يكون كلياً عبر التجربة السياسة الفاشلة ، والوعي الاجتماعي الذي تجاوز طموحه الفرديّ الذي غدا ذاتياً يحفر في النفس أكثر مما هو طموح يمتد إلى الخارج . لم يعد طموحه موقعاً وظيفيا أوحزبيا بل غدا طموحاً فنياً أن صح التعبير جوهره الشعر وامتداداته الفنية الأخرى من كتابات ونشاطات عرف بها ممدوح في ما بعد ، يرثي فيها لا المدينة وحدها بل وحتى قريته التي لم تعد ذلك المكان المنشود للخلاص. والمفارقة في هذه التجربة إن الذي خبر المدينة واقعاً كان أسرع وقوعاً في الصدمة منا نحن الذين خبرنا المدينة نصوصا. يقول ممدوح في قصيدته ( هواجس الحوت الصحراوي ) من مجموعته ( طفولات مؤجلة ):
عواصم آلت مقابر قاحلة وتضيق بنا - - وإليها يفيض بنا الوطن المرتهن شواطئ راحت تسلمنا للخضم الخضم لخصم وخصم لأهل وأهل لحوت وحوت لغيم وغيم تقاذفنا كالخضم إلى شفرة المقصله وفي موتنا كل موت نسائل : أين سنخفي البدن ؟
وصدمته هذه تجسدت في أقرب الناس إليه. يقول في رثائه لصديقه الدكتور حامد خليل في قصيدته ( قفزة في العراء) في المجموعة نفسها :
والله يا حامد لولا مطامعنا الدنيئة بالبقاء لخلعت كلّ مخاوفي وكشفت عما يغتلي في القلب عن نقص الوفاء وكأنه نقص الهواء ولبحت بالوجع الدفين بما تقيّح في الفؤاد من الذين بدوا لنا كالأصدقاء ولقلت إني لم أشاهد منهم في ضيقنا واحد ولقلت إني صرت أمقتهم وصرت بعيشهم زاهد ما كنت آمل أن يكون فخارنا هذا المماتُ ما كنت أحسب أنني سأعود نحو الأهل ما في جعبتي إلا الرفاتُ لو كان هذا الموت بغيتنا لمتنا في قرانا وانتظرنا أن يسترنا البياتُ
أمّا يأسه من القرية فيتجلى في مقطوعاته التي احتوتها مجموعاته العديدة فهو يخاطب قريته ( قيرون ) في قصيدته ( قيرون مكان في الذاكرة) في ديوانه ( للريح ذاكرة ولي ):
قيرون ليست قريةً ليست مكاناً آمنا قد كنت فيه أحلم ُ بل إنها رمانة مكنوزة تشقّقت في البرد حين تصلّبت سال الدمُ وتشي نماذجه الهامشية في الريف عما آلت إليه العلاقات في القرية ، كما في قصيدته ( صطوف ) و ( أم عبدالكريم ) في مجموعته ( وعليك تتكئ الحياة). في القصيدة الأولى يتحدث الشاعر عن صطوف الطفولة الذي يهرع لمساعدته أناس القرية رغم إدمانه على الخمرة وشجاراته :
إنه يكمل في البيت شجاره أو ينادي لحصاد اليوم جاره وإذا ما دبّ صطوف علينا صوته طالباً عوناً ... أتيناه اشتغلنا شغله ثم تركناه ولم نسمح بأن يُقرى وأن يشعل ناره
غير أن القرية سرعان ما تغيرت فهي الآن مضاءة بالكهرباء ( كهرباء باغتتها ) . وناسها سرعان ما تغيروا أيضا وحين مات صطوف لم يحضر دفنه أحد منهم :
منذ شهرين مريض وتوفاه الذي تعرفه يوم الأحد دون أن نسمع بالوعكة أوبالموت لم يذهب إلى الدفن أحد أنا بالصدفة ، أبصرت بأطراف البلد ورقة النعوة يلهو وهو مسروراَ بها ، هذا الولد
أما تلك القرية ، قرية الطفولة ، فهي ليست إلا ّ نوستالجيا إلى عالم لم يعد له وجود إطلاقا لأن المدينة امتدت إليه فهاهم أصحابه في القرية يواجهون المصير ذاته الذي يواجهه أصحابه في المدينة كما يقول في قصيدته ( مصياف) في ديوانه ( للريح ذاكرة ولي ) :
هذا صديق غاب في سجن وهذا مات من قهرٍ وهذا تاه في المنفى وهذا راح في الحرب
ويبدو أن صدمته بالمدينة أمتدت بعيدا لتتخذ موقفا كليا من الحياة ذاتها بل من الإنسان، فلا تدري هل كتابه الأخير ( حيونة الإنسان ) هو كتاب في طبيعة الإنسان أم في طبيعة السلطة ، وإذ تتراكم الأمثلة تختلط المنطلقات بالنتائج ، فيغدو ما هو قمعيا طبيعة وما هو طبيعة قمعيا ، ويبدوا ما هو عرضياً جوهرا، وماهو استثنائي في الإنسان شيئاً راسخاً كمثاله عن الرياضيين الذين تحطمت طائرتهم في الأنديزفأكلوا جثث زملائهم ، رغم استدراكات ممدوح الكثيرة في الكتاب ، لكن استدراكاته لم تنقذه من تعميم مفرط ، وأمثلة تفتقر إلى المعطيات وتذهب في الطريق الخاطئ فمثاله للدكتاتور عبدالكريم قاسم وليس صدام حسين ، وأمثلته على العسف الجيش الإيراني ( الذي اغتصب آلاف العذراوات "لكي لا يدخلن الجنة" ) ص56 وليس الجيش العراقي ، وباختصار أن تراكم أمثلته لم تقده إلى تعميم معرفي صلب بل إلى نتائج تفتقر إلى المعطيات والمنطلقات الصحيحة معتبراً بعض الافتراضات حقيقة علمية.
وهو في الوقت الذي يراكم الأمثلة للبرهنة على حيونة الإنسان جراء عسف الأنطمة أجد نفسي أكثر اقتناعا برأي سارترالموجز الذي يورده ممدوح بعجلة في بحثه دون التوقف عنده كثيرا وهو " إنك حين تجعل فرداً من أفراد نوعنا البشرى أشبه بالدابة فإنك تقلل إنتاجه ، والإنسان الذي يصبح حيوانا أهليا يكلف من النفقات أكثر مما يعطي من الأرباح ولهذا السبب يضطر المستوطنون إلى وقف الترويض في منتصف الطريق وتكون النتيجة أن لا يكون هذا المستعمر إنساناً ولا بهيمة . وإنما يكون من نوع السكان المحليين " وهذه ما تفعله الأنظمة العربية بشعوبها ، ولكن الكتاب بمجمله يظل صرخة حقيقية في وجه القمع وفضحاً له رغم كل المطبات النظرية والمعالجة غير المتأنية للعدوانية في الانسان التي لا يرى فيها كثير من علماء النفس شيئا مخيفا في طبيعة الإنسان إن لم تكن حافزا لتطويره إذا ما اتخذت السبل الصحيحة للتعبير عنها.ولعل ما ينقص الكتاب هو إضافة فصل أخير إليه يحتوي على مواقف الكتاب العرب الذي يستشهد الكتاب بنصوصهم المناهضة للسلطات والشاجبة للقمع، والذين لا يختلفون عن رجال الدين الذي يتحدث عنهم في فصل ( الدين والحكم ) في مواقفهم العملية الموالية للسلطات وتبرير أفعالها.
لم يبق لممدوح بعد كل هذه الخسارات من خلاص سوى الكتابة ولاسيما كتابة الشعر. كنّا حين نسمعه مديحا لقصائده الجديدة – وما أقلّ ما نسمعه ذلك ! – كان مستعدا بسخريته المحببة وسعاله المتواصل الذي كأنه ولد معه أن يدعوك إلى أفضل مطعم في دمشق ... وإن كان لا يملك نقودا ونادراً ما يملك ذلك لإنفاقه السخي على الأصدقاء ، وعدم حرصه على النقود ، يأخذك إلى مطعمه الخاص الذي يدفع له على الحساب نهاية كلّ شهر ... مرة ضاقت الأمور بي ولم تصلني حوالة الأهل التي أبت إلا أن تذهب إلى عواصم أخرى خطأً، سجلت معه في قائمة المدينين لمدة شهرين . لم يتغير موقف صاحب المطعم مني أبداً كيف وشفيعي ممدوح زبونهم الخاص الأثير الذي يجلب إليهم دوماً ضيوفه الطارئين المداومين في آن واحد.
ما الذي جمعني بممدوح وأية أخوة ربطت بيننا رغم الهوة التي تفصلنا في الموقف السياسي ، بل وحتّى في الموقف الشعري الخاص بتفصيلاته الدقيقة بين منحى في الشعر هو أقرب للتعبير عن العام ، وبين موقف شعري لا يرى العام إلا عبر تفصيلات الواقع التي تنأى عن العام رغم تجسده فيها حدّ الاختفاء؟ ولثقتنا المفرطة بهذه الأخوة لم نكن دقيقين أحيانا في الحفاظ عليها، مثلما لم نكن خائفين قط من فقدانها . إنها من الثبات شبيهة برابطة الدم بين الأخوة في العائلة الواحدة . كان ممدوح وعلي الجنديّ الصديق الحميم الآخر من المدعوّين الدائمين إلى المربد. ما أن يصلا إلى البصرة حتى يتصلا بي لنسهر معا في أحد منتدياتها رغم الرقابة المحكمة من قبل السلطة ودعواتها الباذخة وتدليلها الفائض لهما باعتبارهما رفيقين سابقين ، ولكن ما أبعدهما عن مثل هذه الدعوى ، ورغم ذكائهما الشديد في التخلص من شرك الدعوات لم يفلتا من خيط أو خيطين من الشرك فكثيراً ما يأتيان وبرفقتهما إما مخبر أو شاعر سلطوي ، ففي مرة كان مخبرهما دكتوراً كشفا عن هويته ما أن وصلا ولكننا سرعان ما نسينا أن ثمة رقيباً بيننا بل أن الرقيب سرعان ما نسي دوره واستعاد إنسانيته معنا، وأخذ يهتز طرباً لنكاتنا وضحكنا المتواصل. ومرة جاء معهم الشاعر البعثي سامي مهدي وقد فا جأنا بمعلومة سمجة لا ندري ما موضعها من جلستنا إذ أخبرنا أنه حصل على ساعة الشهيد سلام عادل سكرتير الحزب الشيوعي العراقي من جلاديه. كانت معلومة رهيبة أطارت الخمرة من رؤوسنا ولا أزال أتذكرها بامتعاض.
ولعلّ جرأة ممدوح المتراكمة أتت أكلها في العراق في أول مربد أطلقه كالصاروخ في سماء الشعر فقد ألقى قصيدته بعد الجواهري مباشرة، وهذا ما يربك أي شاعر آخر، إلاّ أن الحظ كان معه هذه المرة إذ ألقى الجواهري قصيدة دالية مليئة بالحوشيّ من الألفاظ والإشارات الصعبة على أفهام خليط المستعمين في القاعة ، مما جعل ممدوح يتقدم إلى منصة الشعر وهو يشتعل حماساً ليصدح منذ بدء قصيدته طربا منتشيا بأبياته نفسها وهو يردد فيها أعز ما في ذاكرة العراقي : كربلاء واستشهاد الحسين. قال لي ممدوح في ما بعد وكرّر ذلك في زيارته الأخيرة لي في لندن هو ورفيقة عمره أم زياد وزياد أنه لم يعش فرحا ولانشوة كهذا الفرح وهذه النشوة في حياته قط ، مما عزّز حضوره في قلوب العراقيين على اختلاف مشاربهم. لكنه ظل غريبا عن المنحى الشعريّ السائد في العراق، بتياراته المتعددة سواء منها الشكلية المولعة بالتجريب الفاقد الحياة، أو بتياراته الأخرى ذات المنحى المفتوح على التجارب الشعرية واللصيقة بالهم الأنساني لا عبر المفاهيم المجردة بل عبر تعيناتها الحياتية وتفصيلاتها الغنية الصعبة على الالتقاط. وكلما حاول ممدوح الاقتراب من هذا المنحى الأخير تجذبه الأحداث بعيداً عنه وجمهوره الذي شهدتُ حماسه ، في دمشق ، لشعر ممدوح وأشاراته التي يفهمها جيدا والغائبة عنا نحن المعنيين بالشعر . ولعل ما يستوقفني في تجربة ممدوح هو مغامرته الحياتية التي قصرت عنها مغامرته الشعرية إذ وقفت هذه الأخيرة عند حدود لم يتخطها... حدود ضيقت من مساحة اكتشافه العالم الذي سعى جاهدا إلى اكتشافه منذ خطواته الأولى في المدينة ، بل أن قضية كبيرة كالقضية الفلسطينية بكل تعقيداتها ظلت في شعره محافطة على بساطتها ... ظلت ريفاً يفتقد ومواويل للرباب ورائحة برتقال : كما يتبين ذلك في قصيدته ( هواجس الحوت الصحراويّ ) في مجموعته ( طفولات مؤجلة )
وفلسطين نجهلها وهي تعرفنا لم نغن مواويلها للرباب لم نعد نتذكر رائحة البرتقال وطعم الشراب الدماء تغطي أحاديثنا فيبور الكلام وتشرق بالدمع إذ يتحرَّق فينا السؤال ونمضي بلا أثرٍ كالسحاب
ولكن رغم منحاه المحافظ هذا استطاع ممدوح أن يمدّه بشجن خاص وغناء نادر، أحيانا ، نأى بشعره عما هو شائع عام في الشعر:
آه يا صاحبي كان هذا الزمان قليلا كان هذا الزمان علينا بخيلا كان هذا الطريق طويلا فتمدد .. تخفف من الآه لا أملك الآن إلا ذراعي ذراعي صديق وليس بقبر توسّدْهُ .. واسترخِ قبل وقوع السيوف عليه ولتكن ، مثلما كنت في النائبات ، جميلا كلنا يحمل الآن حبا يغص به والهوى صار في حلمنا مستحيلا صار حتى الهواء ثقيلا فلتكن بجعا يتهيأ للموت بالأغنيات يودع بالأمنيات فتى ما تردد عند نداء فتى لم تلد مثله امرأة في النساء وقد وحمت أمهات عليه طويلا
ويبدو ممدوح أكثر توفيقا في قصيدته (وعليك تتكئ الحياة ) فهو بالأضافة إلى ما تضمنته من شجن وغناء خاصين بدت أكثر تحديداً في اقترابها من موضوعها وتفاصيله الصغيرة دون التوقف عند حدود هذه التفصيلات ، بل اختراقها إلى ما هو أعمق وأكثر نفاذا، لما تتضمنه من مفارقات عصية على الإمساك، ودلالاتٍ شتى:
فار الحليب وفاضت النسوان نهراً من إنائك بدأت خيانات كثيراتٌ وأولها خيانات الجسد الظهر مال فصرت تحتاج العصا قد كنت أمس، عليك تتكئ الحياة لكي توازن ما تخلخل واضطربْ بدأ الجبين يميل نحو الأرض كان يضن حتى بالصلاة فما سجدْ مت يا أبي مت كي ترى حبي الذي أخفيت عنك طوال عمري في رثائك
بل أنه يبدو مفارقا لموضوعاته الشائعة وهذه من مغامراته الشعرية النادرة في قصيدتين هما( قصيدة يوسف) و(الطفل في القصيدة) الخادعتين بشكلهما التقليدي الظاهر، ولكن العميقتين بدلالاتهما التي تتسع كلما أعدنا قراءتهما. يقول في الأولى:
لكنّ يوسف مات قبل وداعه في الحلم أو في العلم - - أخوة يوسف انتبذوه قبل الموت ( أطفال الحكايات الجميلة كلّهم ضاعوا صغاراً ثم ظلّوا في حكايتهم صغاراً ) ظلّ يوسف في الطفولة ألف عام كبّرته ودفعته نحو الرجولة قبل أن ينهي الفطام لكنّ أخوة يوسف افتقدوه. ما وجدوا أباً ليغصّ في قهرٍ فيعميه البكاء وتحيّروا بقميصه البالي فليس على القميص دمٌ تلوّن بالرياء لم تبق أمٌّ كي تردّ بسحر رائحة القميص إلى ضرير القلب ومضاً من ضياء لم يبق دئب كي يحمّل وزر مقتول ويخفيه الدعاء وقفوا تعزيّيهم ويوسف بينهم متقبل فيهم عزاء شيخ غريب ظلّ ينشج وحده وحفيف ترتيل على شجرات بّلوط يمدّ على التراب تنهداً يهدي سبيل الذاهبين المسرعين إلى الوراء شيخ يمد أمام من وقفوا بساطاً من سكوت ويعود يوسف بينهم متنكبا زوّادة القهر المعاتب: كان يبحث عن أخٍ حبٍّ يقيم الأود تحنانٍ يحيل الماء عند الضيق، نبع دم - ذبالة عمره لم تكفه كي تصبح الأعذار قوت فيعيش يوسف كي يموت
ويقول في مطلع القصيدة الأخرى ( الطفل في القصيدة) :
يقفز الطفل بين سطور القصيدة أعجبه الوزن فيها فراقصه والقوافي استراح عليها وأنزل رجليه هزهما ، وتخيلهما كالأراجيح يضحك لي فأقول: انتبه لارتجاج القصيدة سف تفيض ويندلق البحر منها فيمسح إصبعه ، كي يشاكس ، بالحبر أصرخ : خفف من القفز
هاتان القصيدتان وحدهما تحتاجان إلى أكثر من وقفة وتشيران إلى أن تجربة ممدوح الشعرية التي ظلّ يؤكدها باعتبارها تجربته الأكثر تمثيلا لإبداعه هي الأعمق في تجاربه الكثيرة في كتابة الأنماط الأدبية الأخرى .