قراءة في ديوان ” اسمي ليس أنا ” لمحمد سليمان
صبحي موسى
المصدر مدونة صبحي موسى
قديماً كانت القبيلة إذا ظهر بها شاعر جديد أخذت تفاخر جاراتها به ، وكان الشاعر في ذلك الوقت يعد فيلسوف القبيلة وحامل مبادئها ومفاخرها ولسانها في كل صوب يضرب فيه ، ومن ثم فالعلاقة بينهما كانت مزدوجة إلى درجة أننا لا نستطيع أن نفصل بينهما ، ولا يمكننا أن نحدد أيهما سبب وجود الآخر ، ويبدو أن فعل المدنية وما يبديه من عداء للروابط العصبية قد أثر كثيراً في هذه العلاقة ، فمع انتقال العرب لدور جديد في حياتهم بظهور الإسلام ـ وهو مرحلة مدنية هامة ـ توارى دور الشعر والشاعر لصالح الدستور الجديد الذي ليس نظماً ولا خطابة ، وربما كان هذا ما استدعته فترة التأسيس في صدر الإسلام أو ما اصطلح على تسميته عصر الخلفاء الراشدين ، لكنه مع مجيء بني أمية إلى سدة الحكم ، والتحول من الشكل الانتخابي إلى الشكل التوريثي الملكي ، والعمل بمقولة معاوية بن أبي سفيان ” كانت من قبلي خلافة وأنا أول الملوك ” اتخذ الشعر دوراً جديداً في الحياة المدنية العربية ، حيث ارتبط الشعراء ببلاط الأمراء أو الخارجين عليهم ، وتحولوا من صوت القبيلة إلى صوت الجماعة أو الفرقة التي ينتمون إليها ، ورغم أن الشكل القديم لم يحمل تغييرات كبيرة غير أن تغيراً جوهرياً حدث في بنية هذه العلاقة ، فقد أصبح الارتباط واضحاً بين الشاعر والأمير الرسمي أو الخارجي أو الشيعي ، وحدث انزياحاً لدوره كمثقف الجماعة وحامل مبادئها ليكون اللسان الأيديولوجي للأمير ، وظهرت علاقة شبه شرطية بين ذيوع صيت الشاعر ومدى ارتباطه بواحد من البلاطات العديدة في العصر العباسي ، ومن ثم الفيلسوف المنظر توارى لصالح المداح الواصف ، بالطبع لكل قاعدة خروجاتها ، فالصعاليك في العصر الجاهلي ما كانوا يتحدثون باسم قبيلة ولكن باسم مبادئ إنسانية وفلسفة وجودية جعلت لشعرهم رونقاً خاصاً وعذوبة فريدة ، وأبو العلاء كان رهين المحابس الثلاث : العمى والمنزل وفلسفة الذات الوجودية، وفي الحضارة الإسلامية شعراء كثيرون قدموا ألواناً فريدة من الشعر لكن صيتهم لم يصل إلى شهرة شعراء البلاط في دولة بني العباس أو حماد أو بوييه أو غيرهم ، وللحق فقد قدمت هذه البلاطات نقلة حضارية هامة في الفكر والإبداع العربي ربما ما كان لها أن تحدث لولا رعايتها للكتاب والعلماء والشعراء ، النقلة الثالثة تأخرت كثيراً في العصر الحديث بفعل تأخر ثقافي جارم ، ومن ثم فلم تتضح بذورها إلا مع نهاية العصور الملكية في العصر الحديث ، ففي أربعينات القرن تجلت النزعة الرومنسية ، وظهرت الذات موضوعاً للشعر بعدما توقف البلاط عن دعم الشعراء ، وتفهم الشعراء أن هذه العلاقة قد انتهت وليس للشاعر سوى ذاته وما يعانيه ، ومع بدايات النصف الثاني من هذا القرن حدثت الإشكالية الأكبر في هذا الخط التقدمي ، إذ أن أغلب الثورات تحولت إلى الرؤية الاشتراكية ، ومثلما تم تأميم الممتلكات تأمم الفن ، ومن هنا عادت العلاقة بين الشاعر وقبيلته أو أميره أو حزبه ، في ذلك الوقت كانت الفكرة المدنية في العصر الحديث قد بدأت تؤتي ثمارها ، فانقسم الشعراء ما بين قابل للانسياق في فكرة الحزب الدولة من جديد وما بين خارج عليها ، وارتضى المنساقون بأنصاف الأشياء كنصف تفعيلة ونصف حرية ونصف ذات ، أما الخارجون فلم يظهر منهم أحد إلا من الدول التي لم ترتضي فكرة الحزب الواحد ، أو أنهم كانوا خارج نطاق هيمنة الدولة عليهم ، وهؤلاء أسسوا ما سمي بقصيدة النثر ، لكن هذه المعادلة تحولت إلى النقيض مع ثمانينيات القرن الماضي ، فلم تعد للحزب الواحد فكرة واضحة ، ولم تعد الأفكار الكلية والإنسانية التي دخل من أجلها الشعراء الفكر الوحدوي موجودة ، بل لم يعد الحزب أو الدولة معنياً بتصدير أحد أو تقديمه ، ومن هنا تحول الجميع برغبة أو رغماً إلى الذات من جديد ، وكلما زاد تجاهل المؤسسة للشعراء كلما زاد دخولهم إلى عوالمهم الإنسانية الصغيرة يدغدغون مشاعرهم وهمومهم من خلاله ، فأصبح الشعر وسادة الشاعر التي ينعي من عليها نفسه بشكل أو آخر .
هكذا تطورت علاقة الشاعر بمجتمعه ، وهكذا يقدم لنا محمد سليمان في آخر أعماله ـ ” اسمي ليس أنا ” الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية ـ نعياً طويلاً للشاعر ـ بشكله العام والخاص ـ ودوره التاريخي ، فقصائد الديوان تقدم ذاتاً مهملة تعيش وحشة وغربة في عالم تغير فيه كل شيء ، ولأن الشاعر لديه جزء من ميراث المبادئ الميثالية شبه المنقرضة في عالم تحكمه المصالح وتهيمن عليه قوة وجبروت رأس المال ، فإن الذات القابضة على هذه الميثاليات بنت زمن مضى ولم يعد حياً ، في حين أن الشخوص المحيطين بها أولاد شرعيون لمبادئ زمنهم وعلاقاته وفرضياته ورؤاه ، ومن هنا تنشأ المفارقة الشعرية لدى ” سليمان الملك ” ( عنوان أحد دواوين الشاعر ) صاحب ” هواء قديم ، بالأصابع التي كالمشط ، تحت سماء أخرى ” ، ولعل أولى المفارقات تكمن في العنوان ” اسمي ليس أنا ” الذي يوحي بأن صاحبه كيان أعظم من هذا الاختصار البسيط ” محمد سليمان ” لكن الواقع يقول أن أعلى تجليات أحلام الذات ـ سليمان ـ أن تتأكد من كونها مازالت على قيد الحياة :
الجثة التي في البيت ليست لي / والجثة التي على الرصيف لا تخصني / حي أنا إذاً / وأستطيع أن أواصل الصعود ساحباً ظلي / وأن أواجه العدو في السرير كل ليلة / هل ميت يكح هكذا ؟!/ أو يقذف الدخان مثلي ؟ / لا بأس بالأصابع اصفرت واللحية البيضاء / لا بأس بالشاشات حاصرت واستعمرت / لا بأس بالشوارع انتمت لحاملي المدى / كزورق تنقلب البلاد أحياناً / لا بأس بالنقود سارت وطناً / لا بأس بالأولاد يكبرون فجأة / ويحلمون بالمنفى / لا بأس بالصديق صار وجهه قفا / وبالمناضلين ما دحي الظلال .
المفارقة الثانية تأتي من تعريف الشاعر نفسه بـ ( أنا وحيد القرن / ظلي على الرصيف يتبعني / وصيحتي / في داخلتي ترن ) ، إذ يوقفنا الشاعر هنا أمام تساؤل عن المراد بوحيد القرن ، هل هو ذلك الحيوان الكسول الذي يتنقل من مكان إلى مكان ساحباً ظله خلفه ، ومطلقاً خواره الذي يتردد داخله أكثر من خارجه حسبما يصوره لنا سليمان ، أم أنه جملة ساخرة تتوازى مع قول المصريين ” وحيد زمانه ، فريد عصره ” وغيرها من المجازات التي توحي بالتهكم أكثر من توصيف الواقع ، وهل يتهكم سليمان على نفسه وما آل إليه وضعه التاريخي كشاعر أم أنه يطلقها بصدق منتجاً مفارقة شعرية بين كونه هذا العبقري الذي أضاعته قبيلته وأي فتى أضاعوا ؟! ، ربما كانت كل الإجابات صحيحة ، وأن هذا ما أراده الشاعر باستحضاره لهذا المضاف والمضاف إليه ، ولا ينحاز سليمان لدلالة بعينها من خلال توصيف يمكننا من التأكيد على إجابة دون سواها .
ولا تتوقف المفارقة عند ” اسمي ليس أنا” ، أو ” أنا وحيد القرن ” لكنها تشمل العناوين الداخلية للقصائد ، فالديوان يجيء في 90 صفحة من القطع المتوسط ، موزع على خمس قصائد هي : مثل وحيد القرن (وهي مجموعة نصوص مرقمة من 1 ـ 11 )، استراحة الجندي وتشتمل على عناوين ( أنا وحيد القرن ، من أنت ، استراحة الجندي ) ، اسمي ليس أنا (مجموعة نصوص مرقمة من 1ـ 3 ، الجثة التي في البيت وتشتمل على ( لم أخترع شمساً ، لأني لا أخترع الحرب ، شيء كبير فاسد هنا) ، دفاتر العزلة وتشتمل على ( قد أتذكر وجهي ، الريح تهب بعيداً ، لا أحد خلفي بخنجر سيعدو ، ببغاوات ، دائماً ، لم يستعر جرائدي ، جارتي ، قلت لهم ، عادي مثل الباص أنا ، من الذي ينتظر القصيدة ، 2000 ، لا أحد نجا ، أنا الذي هنا ، حتى ) ، وتأتي المفارقة من التوزع بين الأرقام والعناوين ، فتارة تجيء القصائد بأرقام وتارة يضع لها عناوين ، والمدهش أن كل العناوين سواءً أرقام أو كلمات جاءت وتراً ـ يوحي بالعزلة والفرادة والوحدة وعدم الكمال ـ ما عدا القصيدة الأخيرة ، ولعلنا نلحظ سيطرة الرقم ثلاثة على الأعداد هنا ، فهو مجموع عناوين أو قصائد ( استراحة الجندي ، اسمي ليس أنا ، الجثة التي في البيت ، وإذا كان لنا أن نعود إلى علم الحروف عند المسلمين في القرون الوسطى سنجد الرقم ” 3 ” = حرف الواو ، وحرف الواو حرف عطف وربط وتزامن ولا ترتيب في فكرته ، بل معية وصحبة وجماعة ، وهو بذاته لا يعني شيئاً إلا إذا استخدم كصوت مقارب لصوت الرضيع آن البكاء ، أما الأعداد 1، 2 ، 3 ، فهي تساوي على الترتيب الحروف أ ، ب ، ج ، ويمكن من خلالهم صياغة كلمات : ” أبج “ التي تعني في القاموس العامي المصري الراهن ( ادفع ) وجاء منها مصطلح ” أبجني تجدني ” أي ادفع لي مالاً أكن في خدمتك ، و كلمة ” جاب ” التي من معانيها في الفصحى ( تجول ) ، وفي العامية المصرية ” ( أحضر ) ، وكلمة ” بجا ” والتي تعني في العامية المصرية الراهنة الموت ، وإذا رسم الألف برسم الياء في نهاية الكلمة تحول معناها إلى ” أصبح ” وذلك باللهجة الصعيدية في جنوب مصر ، وهذه هي الكلمات ذات الدلالة ـ على قدر معرفتنا البسيطة ـ التي يمكن أن تكونها الحروف الثلاثة ، وجميعها يمكن أن تكون معناً واحداً يصب في ( الرحلة المفيدة هي التي لا غنى للإنسان عن المال فيها كي يحصل على ما يريد ويصبح شخصاً غير الذي كان قبل بدئها ) وهذه هي معاناة الشاعر في زمن لا يملك فيه المال ويريد أن يصبح شخصاً غير ما هو عليه :
لم أصطد الحوت إذاً / ولم أعد بالزيت / لم أعط عابراً يداً / أو تائهاً نشيداً
يبقى مجموع الحروف الثلاثة وهو ” الواو ” هذه التي لا تصح بنفسها ، ولابد من سابق ولاحق لها ، لا بد من عاطف ومعطوف عليه ، لا بد من قبيلة وجارات ، وأمير ودولة ، وزعيم وشعب ،فهي الجسر والمعبر الذي من خلاله يلتم الشتات ، و هي الشاعر والفيلسوف والناصح والمستشار والمتنبئ ، وبغير ذلك تكون :
سأبني على الرمل وحدي بيوتاً / وأسكنها … / وقد أترك للماء رأسي ورجليّ / وقد أتذكر وجهي / وأسماء من خنتهم
ولعل التساؤل الآن ، هل الشاعر هو الذي خان أم أنه المخون ؟ لا يعطينا سليمان إجابة واضحة في ديوانه ، فالإشكالية بين المجتمع والشاعر أكثر تعقيداً مما نظن ، قديماً استطاع الشاعر أن يتوافق مع معطيات عصره كي يتمتع بالهبات والنعم ويعلو صوته ، وكان الأمير بحاجة إلى وجود الشاعر في بلاطه كي يمدح ويهجو ويصف ، والأمير الذي بلا شاعر أمير فقير بلا منجز ولا ذكر ، لكن عصر الإمارة والأيديولوجيا والحزب الواحد انتهى ، ولا حاجة لمنشد أو مداح ، لا حاجة لوصاف أو هجاء ، ولم يعد أمام الشاعر سوى أن يعود إلى حيث كان في البدء ، ليمارس مهنته القديمة ، ليس على نحو الشاعر الجاهلي ، فالقبيلة تفتت ولا حاجة لها بالفخر أو الرثاء ، ولكن على طريقة محمد سليمان :
أنا محمد الصغير / أستطيع أن أجالس الأطفال أحياناً / وأن أعد الشاي / أستطيع أن أساوم الصغار كي يذاكروا / وأن أعلم الكبار أن يراوغوا / كي يصبحوا / أمام دائن دخاناً /
وأستطيع أن أكلم الكلاب في الممر / عن مواهبي / لكنني لا أوقظ الموتى / ولا أداوي من نفى عينيه واحتمى / بحائط العمى .
وهنا تكن المفارقة الثالثة ، وهي لا تأتي من عنوان الديوان ولا عناوين القصائد ومجموع أرقامها ولكن من خلال القصائد ذاتها ، فحين يصبح الشاعر عاطلاً عن أداء دور في مجتمعه ، بحكم استبعاده من شتى الوظائف المناسبة لرؤيته وطريقة تفكيره وأدواته ، فإنه لا يتخلى عن هذه الأداة ولا طريقة التفكير ولكن يختصرها في أداء دور خاص به ، دور زائد عن حاجة متجمع لن يتأثر كثيراً بتوقفه أو انتفائه ، بالضبط مثلما لا يشعر بوجوده الآن في ظل الفرضيات الجديدة :
هنا سليمان الملك / بمعطف بال / وسلة محشوة بالرمل والغيوم / لم يزل يخطو / ملوحاً للنمل والطيور / والأسماك / هنا محمد الصغير / يمدح الهواء في المقهى / ويشتم الأبواب والحوائط التي تسد / أو يستجوب الأشباح أحياناً / هنا وحيد القرن / يصيح كي يجدد الهواء في الصباح / أو يواجه المرآة غالباً / كي يصير اثنين / هنا المليجي الذي رأى / مليج صندوقاً / معلقاً في عنق الفرعون / والذي / من الشمال في الضحى أتى / معبأ بالشك / أين أنا ؟ هل تستطيع أن تدلني علىّ ؟
لعلنا نلحظ الوحدة والإصرار على أداء نفس الدور ، لكن لا أحد يرغب فيه ، ومن ثم فليس هناك ما يمنع من مديح الهواء أو هجاء الأبواب والحوائط ، هنا الرغبة في أن يصبح الشاعر اثنين كي يجد من يمارس دوره معه بديلاً عن إفراغ شحنته في الهواء الذي لم يعد يتجدد ، هنا المليجي الذي لا يقدر عمره بخمسين أو ستين عاماً ولكن بعدة آلاف من السنوات ، هنا الشاعر النبي أو النبي الملك يرتدي معطفاً بالياً يسأل كي أي التائهين أين أنا ، وإذا قدر له من يجيبه عن سؤاله هذا فإنه لن يجد من يدله على نفسه ، لأن نفسه هذه أصبحت بلا هوية أو دور أو أداء :
تغير الهواء / والأصدقاء بدلوا وجوههم / والنهر لم يعد مستودعاً للماء / من الذي ينتظر القصيدة ؟!
هنا يختصر الشاعر دوره إلى رثَّاء ، ويحول الشعر إلى وسادة يهدهد عليها ذاته ، وتصبح آلية الشعر ـ كل الشعر ” نثر أو تفعيلة أو عامود ” ـ سرد عن ذات مفقودة أو ضائعة تارة ، وملتهبة وغير راضية أو مغتربة وثائرة تارة أخرى ، ويصبح الشاعر هذا النبي الذي نام ففقد خاتمه وملكه وتاه بين البراري والحقول يسأل عن نفسه وذاته ودوره وقيمته واحتياج الناس له . يصبح عاطلاً مثل الهواء الذي لا يتجدد ، ومثل وحيد القرن الذي بلا عمل ، وليس أمامه سوى أن يجرجر ظله من مقهى إلى مقهى ، ومن شارع إلى آخر ، دون أن يشعر به أحد ، ليبقى الوحيد الذي يشعر بذاته في عالم لا يأبه بأحد .