حوار: أحمد وائل أخبار الأدب
‘حواديت الآخر’ هو العمل السادس لحسام فخر.وقد تنوعت أعماله بين الرواية والمجموعات القصصية. يعود فخر في عمله الأخير إلي أقاليم ألف ليلة وليلة ، حيث يحكي عن مدينة النحاس، التي يقول فخر إنها تتشابه مع نيويورك .. : لكنها ليست نيويورك بالضبط.. . تختلف حواديت الآخر عن أعمال سابقة لفخر، لهذا تمثل خطوة جديدة بالنسبة له كما تحتل مكانة خاصة عنده..وعن هذه المكانة والكتابة والعيش في نيويورك كان لنا هذا الحوار ..
قسمت حواديت الآخر إلي قسمين الأول في الثمانينيات، والآخر في الألفية الجديدة، هل كتبت العمل علي مرحلتين؟ أم أنك قصدت من هذا التقسيم صنع زمن بين القسمين، بمعني أن تكون الفترة بين القسمين فترة فنية وليست حقيقية؟..وإذا كان العمل مكتوب علي قسمين فما هي قصة كتابته؟
الفترة الزمنية حقيقية وليست فنية. العمل مكتوب من جزئين يفصل بين كتابتهما ثلاثة وعشرون عاما بكاملها. عندما صدرت مجموعتي القصصية الثانية أم الشعور قوبلت كسابقتها البساط ليس أحمديا بصمتي مدوي يصم الآذان. بالطبع كان حزني علي ذلك التجاهل عظيما وإحباطي أعظم. ولكن أكثر ما تسبب في حسرتي هو أن حواديت الآخر بالذات لم يلحظها أحد. كنت أظن وقتها أن تلك الحسرة ناشئة عن أن هذه القصة هي أحب أعمالي إلي قلبي (والحب أمر لا يخضع للتفسيرات المنطقية)، ولكنني اكتشفت بعد ذلك بسنوات طويلة عند كتابتي ل وجوه نيويورك وبعدها حكايات أمينة أن هناك سببا آخر وأكثر أهمية. في المرحلة الأولي من كتابتي كنت أسعي جاهدا للعثور علي صوتي الخاص والخروج من أسر العملاق العظيم يوسف إدريس الذي كنت (بحب وإعجاب هائلين ومبررين) واقعا تحت سطوته بشكل يكاد يكون كاملا. ولم أدرك عام 1985 عند كتابة الجزء الأول من الحواديت أنني قد وضعت بها قدمي علي أول الطريق ووجدت الشكل الذي تكرر في الأعمال اللاحقة: أي القصة الإطار التي تتفرع منها قصص أخري تشكل سويا عملا وعالما واحدا. كانت بذور ذلك كله كامنة في الجزء الأول من حواديت الآخر التي مثلت (دون أن أدري) نقطة تحول فاصلة في تطوري ككاتب قصة. في صيف 2007 أتي جمال الغيطاني لزيارة نيويورك وكانت تلك هي المرة الأولي التي أعرفه فيها عن قرب. قضينا نصف يوم نسير في شوارع نيويورك ونتحدث عنها. كان جمال الغيطاني يتكلم عن مدينة يزورها للمرة الأولي وأنا أتحدث عن مدينة عشت فيها أكثر مما عشت في القاهرة مدينتي الأم. أدهشني بل أذهلني التماثل الكبير في إحساسنا بها رغم الاختلاف الشاسع في زاوية الرؤية. تناقشنا قليلا في تلك النقطة ثم قلت له سأرسل لك عملا قديما قد يفسر ما أعنيه بتطابق إحساسنا بهذه المدينة. وقد كان، وأرسلتها له. وكم كانت دهشتي كبيرة ومفاجأتي سارة عندما كنت في زيارة للقاهرة في ديسمبر 2007 ووجدت جريدة أخبار الأدب تنشر أجزاء من الحواديت وتختتمها بقولها أنها “جزء من مجموعة قصصية تصدر قريبا ، ولا أعرف حتي الآن (وربما لن أعرف أبدا) إن كان هذا خطأ وقع بحسن نية، أم محاولة ماكرة وودودة من جمال الغيطاني لتوريطي في استكمال العمل كما اقترح علي بعد قراءة الجزء الأول!!! المهم، في نفس يوم نشرها في أخبار الأدب كتبت الحدوتة الأولي من الجزء الثاني. وبعد عودتي إلي نيويورك وجدت الحواديت التالية تتدفق رغم ضغوط العمل وثقل المسئوليات وإيقاع الحياة المهلك حتي أنني أنهيت الكتابة الأولي والثانية في أقل من خمسة أسابيع.
ما هي دلالة اسم الآخر ؟ لقد كنت شديد التخوف من اسم الآخر . كما قلت لك الجزء الأول من هذا العمل كتِب من 23 سنة. وقد أوقعتني هذه الفترة الزمنية الطويلة في مأزق فني وأخلاقي عميق. عندما كتبت الجزء الأول في عام 1985 لم يكن مفهوم صراع الحضارات قد ظهر بعد، وراج معه مصطلح الآخر . وطبعا خفت من سوء الفهم ومن أن يقرأ أحد الآخر في هذا السياق الذي لم يخطر لي وقتها علي بال. وتساءلت وأنا أكتب الجزء الثاني: هل يجوز للكهل الذي شارف الخمسين أن يتدخل بالإضافة أو الحذف أو التعديل فيما كتبه إبن السادسة والعشرين؟ وبعد تفكير طويل قررت أن أحترم ذلك الشاب الذي كنته وألا أتدخل في عمله بأي شكل. لعل الدلالة الوحيدة لهذا الاسم هي تنصل الراوي من أي مسئولية عما يقوله الآخر أو يكتبه.
تأخذ الرواية شكلا أقرب إلي ألف ليلة وليلة، في طريقة الكتابة، وتتالي الحواديت، هل قصدت أن تكتب ألف ليلة وليلة بشكل أكثر حداثة؟ ألف ليلة وليلة واحد من أعظم الأعمال الأدبية في تاريخ البشرية إن لم يكن أعظمها علي الإطلاق. العديد من الكتاب استلهموه وعادوا إليه وأثروا كتاباتهم به. ولا أراني استثناء لهذه القاعدة. من بداياتي القصصية في سن المراهقة وحتي هذا اليوم وأنا أتحرش بهذا العالم الجميل شديد الثراء مستوحيا إياه ومحاولا الاستفادة من نبعه الذي لا ينضب، لكنني _ مهما كانت درجة غروري _ لا أستطيع أن أتبجح بالزعم أنني قصدت أن أكتب ألف ليلة بشكل أكثر حداثة أو بأي شكل آخر.
ما هي رؤيتك للحواديت، هل تري أنها قالب جيد؟ البعض يعتبر أن الحدوتة كشكل فني غير جذاب الآن، بمعني أن الكاتب عليه أن يهرب من كتابة حدوتة..كيف تري ذلك؟ لحظة الإبداع الفني في رأيي هي اللحظة الوحيدة التي يقترب فيها الإنسان من الحرية المطلقة، ولذلك أنا أعجز عن فهم هذه التقسيمات والقواعد الصارمة المتعسفة. لا أفهم معني القول بأن الكاتب عليه أن يكتب كذا أو “عليه ألا يكتب ذاك. من الذي يحدد؟ ومن الذي يضع هذه القواعد الديكتاتورية؟ أنا شخصيا أحب الحواديت وأعشقها وأستمتع بها كثيرا ولا أستطيع أن أكتب شيئا لا يحكي حدوتة، ولكنني لا أري نفسي وذائقتي الشخصية مقياسا وحيدا للصواب والخطأ. هناك أعمال تخلو من الحدوتة وتبعث في نفسي متعة كبيرة. كل أشكال التعبير الفني الصادق جميلة وجديرة وبالتقدير، المهم هو أن تنبع من القلب.
في مدينة النحاس يتم ضرب برجين و يعيش الناس من دون أرواح.. هل هناك ترابط بين مدينة النحاس ونيويورك؟ هل قصدت أن تكون الرواية تعليقا، في جزء منها، علي الحلم الأمريكي، الذي لم يعد كذلك؟ الفن لا يحتاج إلي هوامش أو مذكرات تفسيرية. لقد قلت ما عندي في الرواية بأكبر درجة استطعتها من الصدق. ليس من حقي أن أصادر حرية القارئ في أن يراها ويفسرها كما يتراءي له. لا يسعني أن أنكر أن مدينة النحاس تتشابه مع نيويورك وتتقاطع وتتشابك وتتصادم معها في كثير من المواضع، لكنها ليست نيويورك بالضبط. إن كان هناك من يريد أن يري مدينة النحاس علي أنها نيويورك، أو الرواية علي أنها تعليق علي الحلم الأمريكي، أو بلاد الحرية التي لم تكن كذلك ولم تعد كذلك فهذا حقه وليس لي أن أتدخل بتفسيرات وتعليلات. الرواية عن مدينة النحاس كما رآها وحكاها “الآخر فقط لا غير.
من الممكن أن تحدثنا عن شعورك بالغربة، هل كان لذلك سببه في كتابتك لنص بلغة تراثية أقرب إلي ألف ليلة وليلة.؟ الحوار في وجوه نيويورك يكاد يكون كله بالعامية القاهرية (وقد أثار هذا استنكار الكثيرين لسبب لا أفهمه حتي اليوم)، الحوار في يا عزيز عيني كله بالعامية، وقد رأي البعض في ذلك تعبيرا عن إحساسي بالغربة ومحاولة لاستعادة الوطن ولو بتحويل نيويورك إلي قاهرة أخري. حكايات أمينة فيها قصص مكتوبة بأكملها بالعامية. عندما أبدأ في الكتابة لا أتخذ قرارا واعيا أي لغة أو لهجة سأستخدمها. ولكن ما دمت قد سألتني عن الغربة فاسمح لي أن أقول إن شعوري الممض بالغربة في نيويورك لا يدانيه إلا شعوري بالغربة في القاهرة. ولا أري لهذا أو ذاك صلة باللجوء إلي اللغة التراثية أو العامية المصرية.
الكتابة عن الحلم، مثل الحديث عن مقابلة فتاة مستحيلة، هي الأميرة التي حبسها القزم، وزارها رجال غامضون، ووقوع الراوي، الآخر، في حبها.. عذرا للإطالة لكن هل تتفق مع الرأي القائل أن اللجوء إلي الخيال يكون في الغالب هروبا من الواقع؟ اللجوء إلي الخيال قد يكون هروبا من الواقع، وقد يكون إعادة صياغة للواقع أو تفسيرا له أو تنويعة موسيقية عليه. الخيال قد يجمٌل الواقع وقد يشوٌهه وقد يبعده قليلا عن بؤرة العدسة ويعطينا زاوية رؤية مختلفة. ما الذي يدعونا لوضع قواعد صارمة لتفسير وتنميط كل شيء؟ ألا تكفينا القواعد الخانقة للحياة اليومية؟
كيف تري المشهد الأدبي في مصر؟ البعد الجغرافي الذي يحول دون التواصل اليومي يحتم علي أن أقترب من هذا الموضوع بحذر شديد لأنني لا أريد لما أقوله أن يبدو كشهادة مستشرق أو صورة يلتقطها سائح. من متابعتي الناقصة أقول إن المشهد الأدبي (والفني عامة) في مصر هو واحد من الأشياء القليلة التي تبعث علي الغبطة والاستبشار. لقد استعادت القراءة قدرا من اعتبارها المفقود بعد أن مرت علينا فترة كانت معظم الأعمال الأدبية فيها ملزمة بأن تعزف من نفس المقام وأن تغرق في الغرابة واستعراض العضلات اللغوية دون أن تقول شيئا، وكانت نتيجتها إفقارا محزنا للحياة الثقافية وعزوفا شبه جماعي للناس عن القراءة. اليوم هناك تنوع وثراء يتناقض مع المناخ الخانق في بقية مجالات الحياة، وهناك جرأة ما كان الواحد ليتخيلها قبل سنوات قليلة وانتزاع لمساحات من الحرية وشجاعة في اقتحام موضوعات كانت كلها تقع في الماضي القريب في دائرة ما لا يمكن أن يقال ، وهناك أخيرا وليس آخرا تلك الباقة الشابة الرائعة المعروفة باسم ‘المدونين’التي تدفعني انجازاتها الواعدة لأن أرتكب جريمة التفاؤل وأقول بما يشابه الاطمئنان: ‘بكره أجمل من النهارده’.