تهاني فجر
الغاوون العدد 45 – كانون الأول 2011
بلغة متمرّدة ومفتوحة على الحداثة يكتب الشاعر اللبناني جوزف دعبول ديوانه الثاني «الأخبل» (دار الغاوون). يحشد نصوصه بكثير من الرموز والدلالات التي تحمل مختلَف الإيحاءات المشرعة على القضايا الإنسانية الذاتية والوجودية، لذلك نلمس ذلك الخطاب الشعري المعرفي الذي يُخبر عن موقف غامض إزاء الذات والكون: «علِّل أيها الجماد إحساسك. أيها الإحساس عقلك. أيها العقل إلهك. وانصهر بي علِّي أُبصر اليوم المضى».
صورة جوزف دعبول الشعرية هي صورة متعدّدة الدلالة، تعبّر عن الذات التي تتشظّى في عالم خارجي قاسٍ لا يعرف الرحمة، فصورته الذاتية تتداخل ضمن عناصر الطبيعة، فيبدو العنصر الخارجي واحداً من ذواته تلك، فتتولّد بينهما حركة صراع دائم، كما تُسهم الصورة الشعرية لديه في خلق سياق النص. وهنا تأتي الوظيفة الدلالية لصورته الشعرية التي تتلوّن بتلاوين غامضة وصعبة. وحقيقةً إن صاحب «البحر وردة الرؤيا» يواصل هذا الأسلوب الذي ينتهجه منذ ديوانه الأول، ويستكمله في ديوانه هذا الذي نستطيع أن نلمس فيه اللغة الموحية التي تحمل طابع الدينامية، في معنى أن الصورة الشعرية لدى الشاعر تولّد صوراً شعرية أخرى متوالية: «طائر لم أقنصه/ زرافة لم آكل لحمها/ حبيبة لم أُضاجعها/ أحثّ الخطى إلى جبل الذهب/ أتجرّع نبيذ الآلهة/ أهدم أركان بيتي/ مبخرة الكاهن أسرق/ أجوب السهول والجبال والتلال/ الأنهار والبحار على كتفيّ/ ماضياً إلى كهفي حيث تلتهمني الذئاب».
نلاحظ هنا العبثية الفنية التي يلتزم بها الشاعر في كتابته الشعرية، عبثية الصورة واللغة، لكنها عبثية مدروسة ومنظّمة لها قدرة البناء الشعري، وقدرة الفعل الشعري الذي ينهض بالمأساة وبالهم الوجودي والذاتي، وهذه العبثية هي من نجَّت أسلوب جوزف دعبول من فِخاخ النمطية، فخرج إلينا بلغة جديدة وخاصة استطاعت مواكبة الحداثة الشعرية التي ينتمي إليها. ولم يغفل الشاعر الحب الذي رافق الكتاب في جميع نصوصه، فكان للجسد الذي يجرّده من وظيفته أحياناً نصيب وفير، بل إنه شكّل كما الموت ثيمة أساسية في الديوان: «في مبايعة الجسد للجسد أبجديات نورانية، غزل توراتي، سومري، بابلي، فُلك يتهادى حياة فوق حياة الموت، فراشات، شهب تستدعي شهباً، فولادة، تيارات فضّية تحمل الفلك إلى أفلاك أخرى، نتبادل الأنخاب، نزيح السماء السوداء، نبني سماء ملوَّنة بالأشعار، نستدعي كيوبيد ليحرسها، وبروميثيوس ليُشعلها ألحاناً، وربَّات الجمال ليكنَّ الإلهات».
ما يميّز هذا الديوان هو اعتماده على التأمُّل الشعري الذي هيّأه حسّ الشاعر المرهف ونظرته الرقيقة إزاء كل ما حوله، فكانت لغة الروح الشاعرة هي اللغة المسيطرة. ليس هذا وحسب، بل إن نصوصه أفشت بطابع ملوّن من خلال استخدام الألوان بكثرة، فكان ثمة حضور بصري للأزرق والأصفر والأحمر، حتى يمكن القول إن نصوصه لهيَ نصوص مائية، حيث مزج اللون بالماء الذي يحضر بشتّى الأشكال والتجسُّدات: «علِّمني أيها الماء، ركام الأجساد واسفح جليدي من عصور».
«الأخبل» ديوان عاقل لشاعر مجنون بالتأمُّل.