من الأسود للأبيض عنوان يشد عشاق الفنون، وقد اختارته الفنانة الشابة جاناريتا العرموطي عنوانا لمعرضها التشكيلي الشخصي الأول في الأردن، وهذه الفنانة الشابة والتي عشقت الفن وتوجهت اليه منذ طفولتها، التقيتها وهي شابة وطالبة في بداية مرحلة الدراسة في الجامعة من خلال مشاركات فردية لها بعدد من المعارض المشتركة، وقد لفتت نظري بلوحاتها وشخصيتها التي تفوق عمرها، وحضرت لها معرض مشترك مع فنان فرنسي من أصول جزائرية خلال أحد زياراتي الى عمَّان الهوى، وقد انتبهت إلى لوحاتها تلك ودار حوار مطول بيننا وقلت لها: أنتِ فنانة تمتلك افكارا مختلفة ومتميزة، لكن أنتظر أن أرى لكِ في المستقبل بصمة خاصة بكِ، بحيث يستطيع المشاهد بدون أن يرى توقيعك على اللوحة أن يحدد أن اللوحة بريشتكِ، وهذا ما كرسه معرضها الجميل الذي تم في قاعة معرض شركة “لا في “la vie المتخصصة بالمعارض والندوات، مع الالتزام الكبير بأوامر الدفاع بسبب جائحة الكورونا التي تجتاح العالم، وهي قد درست الادب الفرنسي والانجليزي بالجامعة والفنون في معهد الفنون الجميلة التابع لوزارة الثقافة الأردنية، ونالت العديد من الجوائز والتكريمات، وتسلمت العديد من المواقع وشاركت اضافة للمعارض بالعديد من المؤتمرات.
الأسود والأبيض والتناقض بينهما تعبير عن الصراع في دوامة الحياة، ولكن هذا المعرض تميز بالعديد من الأفكار التي تثير الدهشة في روح المشاهد والمتأمل، وهذا ما احببت أن أشير اليه قبل الخوض بقراءة بعض من اللوحات التي تعبر عن المعرض، وإن كانت غالبية اللوحات تستحق كل لوحة فيها الى قراءة تفكيكية تتناول كل الجوانب والتأثيرات فيها، فالفنانة انتهجت حس مختلف في هذا المعرض أضافت له فكرة تخدم اللوحات التي تألقت بها روحها، فهي لجأت إلى لغة الألوان في بداية المعرض من خلال معجم لوني يعتمد على الطول الموجي لكل لون حسبما وردت عن العالم الكبير “نيوتن”، فقد وضعت لوحة في بداية المعرض تضم 30 قرصا مرنا ((CD ملونة بالألوان، حيث هناك 28 قرصا مرنا كل واحد له لونه الخاص وأسفل منه الحرف الذي يرمز له اللون بالعربية والإنجليزية، وأعلاها كإضافة مضافة لتنسيق وجمالية المشهد قرصين أحدهما باللون الطبيعي للقرص والآخر يضم أطياف اللون، فأصبحت الأقراص بعددها رمز لعدد لوحات المعرض، وبين القرصين الآخرين رسم للكفين الأيمن والأيسر عليها ألوان على الأصابع تشير لمراكز الطاقة البشرية، وحتى نفهم كل لون يجب الاتجاه للمعجم اللوني لمعرفة رمزية كل لون وحرفه وقراءة الجمل اللونية المكتوبة.
في لوحات المعرض استخدمت الفنانة اللغة اللونية من خلال الألوان، وفي بعض اللوحات كانت الأقراص المرنة جزءًا لا يتجزء من اللوحة، لتضيف للوحات حروف محددة من معجم الألوان، تتفاعل وتتمازج مع الألوان المستخدمة باللوحة وكل لون فيها له دلالته اللغوية، فأصبحت اللوحات تدور حول عدة محاور فنية، الفكرة ولغة اللون الهجائية ورمزية التعبير اللوني، لذا نرى في المعرض واللوحات انسجام تلقائي يترك أثره على المشاهد المتأمل للوحة ونبضات معاني الألوان لغويا وتعبيريا، دالا ذلك على قدرة ومهارة في الابتكار والابداع والخروج عن المألوف، بدون التقيد بالمدارس التشكيلية التقليدية، فمازجت في لوحاتها بين الثقافة والجمال والابتكار لتخرج علينا بعمل ابداعي متميز ومختلف، فقد انصهرت روح الفنانة مع سحر الألوان ومعانيها ودلالتها، مع التعبير اللغوي لكل لون، ومع فكرة تحملها كل لوحة في ظل دوامة الصراع التي يعيشها الانسان في مجتمعه، وحين تجولت في المعرض الجولة الثانية كنت أرى أن الأعمال الفنية فيه مكونة من أربعة مجموعات متصلة كصفحات رواية، لكن كل مجموعة تمثل فصلا من هذه الرواية المكتوبة بالريشة ولغة الألوان وأبجديتها وهي:
المجموعة الأولى: في جولتي بالمعرض وجدت خمس لوحات اعتمدت كليا على الأقراص المرنة الملونة وكل لون له معناه باللغتين العربية والانجليزية، وهنا يكون جذب المشاهد لفك لغز الألوان والعبارات التي تشير اليها الفنانة، وفي لوحة واحدة اعتمدت التضاد بين الأسود والأبيض بين نصفي اللوحة، وواحدة من لوحتين فرضت خلفية الجدار ذات اللون الأسود تأثيرها عليها أكثر من التأثير على باقي اللوحات، وحقيقة وجدت متعة بمعرفة الحروف المشار إليها بكل لون من الألوان وتركيبها حسب ترتيب الألوان في اللوحات.
المجموعة الثانية: هناك ثلاثة لوحات مرسومة بـألوان “أكليرك” على القماش الخاص بالرسم “كانفس”، لكن لوحتين منها كانت الأقراص المرنة تغطي الوجوه والثالثة كانت الأقراص تمثل القاعدة للوحة، وفي اللوحة الأولى كان يغطي الوجه ثمانية أقراص اعتمدت ثلاثة منها اللون الأسود، ومنها قرصان كان محور القرص ملون بالأبيض، وأربعة أقراص باللون الأبيض ولكن محاورها باللون الأسود، وبينها قرص باللون الرصاصي ومحوره باللون الأسود، في رمزية استخدمت الفنانة أبجدية اللون من جهة والدلالات اللونية من جهة أخرى، للصراع القائم في النفس البشرية والمجتمعات، وخلفية اللوحة كانت من اللون البني الفاتح وهذا اللون عادة يرتبط بالأرض، ومقسومة اللوحة الى يسار اللوحة بالنسبة للمشاهد حيث اللون الاسود للأقراص المرنة، واللون الأسود للجسم تحت الرأس وهذا الجانب موشح بالأسود مع اللون البني الفاتح، ويمين اللوحة حيث التوشيح باللون الأبيض، وهذه التوشيحات على شكل دوامة ولكن الغلبة في اللوحة للون الأبيض، وكأن روح الفنانة وريشتها من خلال أبجدية اللون ومعانيه تشير ان الصراع مستمر والأرض محورها والدوامة تلف البشر بلا رحمة، لكن الأمل يبقى قائما بغلبة الأبيض في الصراع على الأسود، ولكن اللوحة الثانية كان اللون البني الغامق هو خلفية اللوحة، والأقراص التي تتحدث في الأسفل والوجه مكشوف، لكن حجم الألم في الوجه والعينين واضح بقوة والفم مكمم دلالة على حجم القمع الموجود، ومع اللون البني الغامق والشديد العتمة يظهر الصراع بين الأسود الموشحة به اللوحة، والدوامة التي تلتف حول الوجه بالتوشيحات البيضاء المشيرة أن الفجر آت رغم أسدال العتمة، واللوحة الثالثة كان الوجه مغطى بسبعة أقراص مرنة تحمل حروفها الرسالة من اللوحة، والصراع بين الأسود والأبيض قوي جدا، لكن غلبة الفجر في الدوامة واضح على يمين ربطة العنق، التي حملت لون أزرق كما لون امتداد البحر ومدى السماء، موشحة على يمينها حيث تبدأ غلبة البياض على السواد باللون الأخضر رمز الراحة والخصب برمزية للغد الأجمل.
المجموعة الثالثة: وهي أكبر عدد باللوحات حيث نجد فيها تسع عشر لوحة اشتركت كلها برسم الوجوه بدون إضافة الاقراص المرنة، مكتفية فقط بالتعبير اللوني من خلال اللون وأبجدية الحرف اللوني، ونلاحظ في هذه المجموعة من اللوحات أن خلفية اللوحات بألوان مختلفة وفقط لوحتان بنفس لون الخلفية، وكل لون بخلفيات الصور له تعبير معين من خلال معجم الألوان في بداية المعرض، إضافة الى لغة الألوان التعبيرية المتعارف عليها في علم الألوان في الفن والثقافة اللونية، وهي مجموعة لوحات تستحق القراءة التفكيكية ولكن لضيق المساحة سأختار بعض منها لتعبر عن المجموعة الفنية الألقة، فهناك لوحة متميزة بفكرتها وأسلوبها لشخصية رجل أنيق يرتدي بذلته وربطة العنق، والرأس من البعيد على شكل الكرة الأرضية، لكن حين يقترب المشاهد يجد داخل الرأس وجهين متقابلين لذكر وأنثى، ووجه الأنثى من ناحية يسار اللوحة بالنسبة للمشاهد والذكر على اليمين، وما لفت نظري الفكرة خلف هذه اللوحة برمزيتها، فاللوحة مقسومة طوليا الى اللونين الأسود والأبيض ودوامة الصراع تدور بشكل حلزوني بخلفية اللوحة كما معظم اللوحات، والجهة اليسرى من الخلفية هي ذات اللون الأبيض، وفي نفس الوقت وجه الفتاة في هذه الجهة ووجه الذكر بالجهة المعتمة، وكأن الفنانة ترمز لصراع مجتمعي بين الذكور والأنوثة وأن حل هذا الصراع يأتي من خلال المرأة فتنهي هذا الصراع الذي يدور في رأس الرجل الأنيق باللباس الحديث، وكأنها رمزية أخرى أن التحضر بالأفكار وليس بالمظهر الخارجي فقط.
لكن بالمقابل نجد الصراع الداخلي في داخل المرأة أيضا من خلال لوحة لإمرأة شابة، نصف وجهها يسوده الابيض والنصف الآخر اللون الأسود في صراع داخلي في قلب دوامة الحياة، والملفت للنظر أن العين من جهة البياض ذات حدقتين، والمعروف علميا أن حدقتي العينين تلتقط المشهد وتحيله الى بؤرة واحدة في الدماغ فنرى مشهد واحد، فهل ارادت الفنانة أن تعطينا فكرة أن الصراع الذهني مستمر رغم تغلب الأبيض على الأسود؟ وهذه الرمزية بحدقات العيون تتكرر في أكثر من لوحة من لوحات الفنانة، وفي عدة لوحات نجد أن الرأس قد تحرك فتولد منه عدة وجوه في قلب دوامة الصراع الذي لا يتوقف، فالحياة تراها الفنانة صراع مستمر من الأسود للأبيض، دوامة تلف بنا بدون توقف، لكن يبقى الأمل قائم بكل اللوحات لغد أجمل، لا ينهي الصراع ولكن يعطي الجانب المضيء بتفوق على الجانب المعتم، وهذا ما نراه بلوحة جميلة لإمرأة ناضجة وجميلة وأنيقة واضح ان دماغها منشغل بالتفكير، تغمض عينيها وخلف وجهها ينعكس وجهان احدهما باللون الأبيض والآخر بالأسود، باشارة رمزية لصراع فكرتين من الأسود للأبيض في وسط الدوامة والصراع الذي يؤسس لخلفية اللوحة، وفي عدة لوحات أخرى ينعكس الجو العام والرعب من الجائحة الكورونية على روح الفنانة وريشتها من خلال عدة لوحات استخدمت بها القناع “الكِمامة” لتغطية الفم والأنف، وإن كنت أرى ان استخدام مصطلح الكِمامة مقصود به تكميم أفواه الشعوب، فهو لغويا يستخدم للجمال والحمير وليس للبشر حيث مصطلح اللثام والنقاب والقناع هو الأدق، ومن خلال استخدام هذه الأقنعة اسفل اللوحات للكتابة عليها والتعريف عن اللوحة من حيث الحجم ومادة الاستخدام اللوني.
المجموعة الرابعة والأخيرة: تتكون من ثلاث لوحات فقط لها رمزيتها ومعانيها، واللوحة الأولى منها لوجه امرأة واضح الصراع في وجهها، وينعكس عنها وجه آخر بلون أسود، لكن هذه اللوحة كانت الوحيدة التي كانت بدون دوامة ترمز للصراع كخلفية للوحة، حيث كانت خلفية اللوحة كإنهمار المطر من السماء بقوة من جانبي اللوحة مع صراع الأبيض والأسود، والدوامة تركزت على محيط العين على جانب اللوحة الأيسر ومحيط الخد، وبرمزية اراها لصراع تعيشه هذه المرأة الرمز وتراها بوضوح بعينها، بينما العين الأخرى ساهمة في قلب العتمة، ولوحة أخرى كان الحصان أو الفرس هو من في قلب الصراع، فإن كان جوادًا فهو يرمز للرجل وإن كان فرساً فهو رمز للمرأة وهذا ما اميل اليه، حيث مثلت المرأة غالبية اللوحات، واللوحة الأخيرة والمتميزة فهي تعبر بقوة عن الصراع الداخلي مع دوامة الصراع الخارجي.
والخلاصة رأيت ان الفنانة جاناريتا والتي بدأت منذ وقت مبكر بتسلق الطريق الشاق والصعب من خلال مشاركاتها الفنية والسعي لتطوير ابداعها، قد تمكنت من خلال اسلوبها المبتكر وابداع ريشتها من إثارة الدهشة في روح من يشاهد المعرض، ويدفعه للتساؤل والتفكير في دوامة الصراع والحياة من الأسود للأبيض، وقد استلهمت لوحاتها من خلال ما يسود العالم من صراعات من جانب ورعب وخوف من الجائحة الوبائية من جانب آخر، فأضافت الكثير من رمزيات تثير الدهشة الى لوحاتها، فكان استلهام اقتنص الجمال وسحره وتأثيره، في فضاءات لونية استخدمت فيها التعبير اللوني والهجائي اللوني أيضا، فكانت لوحات حافلة بالجمال والفكرة والغرابة، فأبدعت بلوحات ذات مدى يثير الدهشة، لم يخلو أسلوب اللوحات المستخدم من الغموض بالرمزية بثورة على المألوف، التعابير فيها كانت قوية نسجت سحر الألوان تاركة للقارئ والمتأمل أن يصل إلى ما يراه وينعكس على روحه، فهي تركت اللوحات بدون أسماء كي لا يكون للإسم تأثير على روح المشاهد تاركة له المجال للتفاعل الفكري والبصري، ولكنها في نفس الوقت ابتعدت عن التعقيد والرمزية المغلقة، من خلال لمسات ريشتها بلحظات أرى انها كانت متفاعلة مع ما تراه وتحس به، بإبداعية جمالية وبصمة فنية خاصة ومختلفة ومساحة بصرية مدهشة.