تعَطْل الساعات لا يعني توَقْف الزمن، فلسفة حياتيّة اخْترَعتَها وسرْتُ عليها وأصْبحَت نهجًا له مغزى في حياتي، بدأتُ بطرْحِ هذا السؤال البسيط والصعب والمُعقّد في وقتٍ واحد، الإنسان يُولد ولا يعرف من هو؟ ويموت ولا يعرف من هو؟ ذات الإنسان مزْدوَجة وتحتويها ألف شخصية بداخلهِ، كلّ إنسان تحاصرهُ شخوصٌ تتحرَك في نسيجِ مشاعره وأفكاره ولا يعْرف عنها شيئًا وقد يكون مرّة مع القطيع الضال وقد يخرج منهُ ويعْتقْ روحه خارج القطيع، وهذا ما أسَميّه بالوعي والإدراك للحياة. تجارب وخبرات كثيرة يمرُّ فيها المرء، نجاحات، إخفاقات، حروب وهدنة، مرض وصحة، حزن وفرح، ارتفاعٌ وسقوط، كلّ هذه تُعتبر حزمَة تجارب يعيشها المرء، قد يتعلم منها وقد لا يتعلم، وهذا رهْنٌ بالوعي والإدراك الذي يكتَسبهُ من هذه الحياة وهنا الفرق بين أن تعيش مع الخراف الضالة وتنتهي بك الحياة في قبرٍ صغير، وربما تكون سعيدًا وقد تعيش تعاني من ألمِ الوعي وينتهي بك المطاف أيضًا إلى نفس القبر ولكن على الأقل عرَفتَ من أنت.
كما ذكّرتُ في بداية السيرة، وُلِدتُ ولم أتعَرّف لا بالشّكل ولا بالوعي على أبي، حيث رحلَ عن هذه الدنيا لروحهِ السلام، مبكِرًا جدًا، وكان بوظيفة خارج الوطن، بالمملكة العربية السعودية، إذ كان يعمل بخطوط التابلاين للنفط في النصف الأول من القرن الماضي، نتيجة حادث سيْر، ولم يُكْتب لي رؤيته مرّة بحياتي. وحُرِمتُ حتى من طيْفهِ، بحلمٍ، لأنّنا نحلم بوجوهٍ لم نرَها... ربمّا رأيتهُ وشعرتُ بدفئهِ لكن لم يُكْتب أن أعيَّ بذاكِّرة الطفولة تلك اللحظات، وهذه واحدة من المنعطفات التي تمخَّضَت عن سؤالٍ من أكون؟ ودفَعتْ بيّ لأظلَّ باحثًا بمتاهاتٍ طوال الوقت عن ذاتي. هذا البحث المضْنّى، لا يتعلق بالطبع من هو والدي؟ ومن أي عائلة؟ فهذه خيوطٌ متوَفِّرة بجذور الأسرة ولكن الأمر العميق والمسألة الجوهريّة في الوجود هي، ماذا أكون؟ وماذا أفعل؟ وكيف أعيش؟ ولماذا أحياء؟ وماذا علَيّ أن أُقَدم؟ كنت أوشك أن اتْرك ذلك كلهُ خلفي وأكتفي بوظيفةٍ وزوجة وأبناء وقبر في نهاية المطاف، لكن ذلك لا يشفي غليلي ولا يترك لي خيار أن أكون رقمًا من الأرقام التي تفْرِزها ماكينة الحياة البشرية بالمليارات، طفَقتُ أبحث منذ البداية عن معنى لوجودي، وكان الطريق صعبٌ وشائك، وربما بدا في بعض الأحيان مستحيلاً، لكن اللغز فكَّكتهُ وعرَفتُ من أين أبدأ، فكانت القراءة. كان درب القراء موحشًا في البداية، بمختلف الكتب المتَدَرِّجة بالروايات العربية السطحية بالمرحلة الابتدائية، ثم انفتح عالم الكتب العميقة، الوجوديّة والسياسية والعقائديّة والفلسفيّة والتاريخيّة وحتى الدينية بدءاً بالقرآن والعهد القديم الكتاب المقدس، ثم الانجيل العهد الجيد، وكتب الذات والمناهج الأدبية والنقدية وغيرها ممّا يتوفر، وكانت أهم الكتب تأثيرًا بمسار حياتي في بداية القراءة هي الكتب الوجوديّة لجان بول سارتر والبير كامو وسيمون دي بو فوار وفرانسوا ساجان، بالإضافة للكتب الماركسية، لنين وماركس وغيرهما، وهذه جاءت هذه القراءات إثر تعرفي به في نهاية الستينات، وكنت يومها شابٌ يُفْترَض أن أكون مراهقًا، لاهيًا، غيْر أن الصدفة قد تكون هي التي قادتني لعضوية نادي الجزيرة بمنطقة حالة أبو ماهر لأتعرف هناك على المناضل محمد بونفور لروحه السلام، حيث توَلّى تثقيفي بالمواد السياسية والإيديولوجية، إذا أول ما بدأتُ قراءتي، وكنت وقتها بسِنِّ الرابعة عشر من عمري، روايات الأم لمكسيم غوركي والفولاذ سقيناه لنيقولاي استروفسكي وكتاب عشرة أيام هزّت العالم، لجون ريد، الذي كان له تأثيرٌ بالغ عليّ ويروي الأيام العشرة الحَرجَة، التي رافقت ثورة أكتوبر البلشفية، ثم تطوَّر الأمر لقراءاتٍ إيديولوجية، منها كتب خطتا الاشتراكية وما العمل ومصير الشعوب للينين وبؤس الفلسفة لماركس، كتب موتسيتونغ وحياة جيفارا...توالت القراءات في هذا المجال، بالإضافة للكتب التي اقتَنيتُها بنفسي وأكاد التهم كلّ يومين أو ثلاثة كتاباً، فتأسّست لدي مكتبة لا أتكهنّ بالضبط عدد الكتب بها فلم أكلف نفسي إحصائها...ومن الكتب التي ترَكَت بنفسي تأثيرًا كبيرًا على حياتي عند بدء القراءة، كتاب آ لام فارتر لجوته الألماني الذي أهداني إياه صديقي وأستاذي، وأنا بالصف الأول اعدادي احمد المناعي وله فضلٌ كبير أيضًا في تشجيعي الكتابة، وكنتُ ما زلت بالصف الثانوي الأول، بعد الالتحاق بأسرة الأدباء والكتاب.
من أنا؟ قادني هذا السؤال أيضًا من عالم القراءة لعالم الكتابة حيث بدأت بالقصة القصيرة، وكنت قبْلها قد قرأت الكثير من القصص والروايات بدءاً بنجيب محفوظ والبرتو مورفيا بقصصه الجنسية المثيرة، البير كامو وأهم عملين له سيزيف والغريب، فرانسوا ساجان وغابرييل غارسيا ماركيز وغيرهم، وكانت أول قصة قصيرة لي تفوز في مسابقة نظمتها الأسرة مع صحيفة الأضواء الأسبوعية من "أجل حفنة قمح" ثم نُشِرَت أول قصة قصيرة ليّ بكتاب طبعته الأسرة لعددٍ من أدباء البحرين لتسعة أصوات في القصة القصيرة بعنوان "سيرة الصمت والجوع" منهم خلف احمد خلف وأمين صالح ومحمد عبدالملك، كانت تلك البداية في عالم الكتابة لتمْتَد حتى اللحظة بمجموعة الروايات والمسرحيات والدراسات.
ودون الدخول في تفاصيل عالميّ القراءة والكتابة، بدأت أصيغ حياتي من خلال الكلمة، كان العالم كله يدور حول الكتابة التي أصبحت محور حياتي. ورافقها العمل السياسي واندمج الثقافي بالسياسي منذ ذلك الحين.
لقد أدرَكتُ مبكرًا أن الحياة ليست عدوة لي بل صديقة حتى في خضَم المِحن والأزمات الذاتية، تدرَبتُ على إدراك ووعي بأن ما تُفكِّر فيه هو ما يصْنع مصيرك، ولابد من فكرٍ ومعْرِفة، لتَفْلت من السوداويّة ولذلك جعلتُ منهجي في التعامل مع الآخرين، من منطلق التفّرس فيهم وسبر أغوارهم وفهم مما تنْتجهُ تصرفاتهم، فمراقبة التصرفات والسلوك لدى الآخرين تمنعك من الوقوع في أخطائهم التي تشاهدها أنت ولا يشاهدونها هم بحكم أنهم لا يتأمّلون الداخل وهي الطبيعة البشرية.
من الوجودية تعلمتُ الحريّة الفكرية بعيدًا عن التزَمُت والتعصب ومن الماركسية تعلمتُ أن الفكر الحيّ لا يموت وأن رسالة الإنسان ليست في الفردية إنما في سلوك اجتماعي جماعي، معرفة لا علاقة لها بالشيوعية كفكر سياسي، تعلمتُ منها الجوهر الفلسفي الذي له علاقة بالوجود باعتبار الفلسفة الماركسية قد أنتَجت المتضادات، والجدليّة التاريخية المُسْتنبَطة من منهج هيغل، تعلمتُ من الرأسمالية كيفية التغيير المُستَمر الذي يقود للتطوُّر الطبيعي للمجتمعات بصرف النظر عن التطبيقات الكارثية في السياسات للدول والمؤسسات، كما تعلمتُ من الكتب المقدسة الثلاثة أن التاريخ الإنساني واحد والحضارة الإنسانية واحدة فرقتها العصبيات والتشنجات اللاهوتية، ومن الروايات والنقد الأدبي تعلمتُ حرفة كتابة الرواية، فقد كان مكسيم جوركي ونجيب محفوظ والبرتو مورافيا وجون شتاينبيك وارنست هيمنجواي وغابرييل غارسيا ماركيز بالتحديد دوراً محفزاً بالتحريض على اكتساب التقنية والخبرة في دراما الرواية، من كلِّ تلك الكتب والقراءات تشكلت هويتي منذ البداية حتى اللحظة.
عصر الكمبيوتر والانترنيت قفزا بي قفزة هائلة كمّا لو هوَت بي من قمة جبل، كانت صدمَة التحوُّل من القلم والورق إلى الكيبيورد، مع بداية العام 2002بجريدة الأيام التي كانت أول صحيفة بالمنطقة تطبع على الكمبيوتر، كان لذلك أثرهُ الايجابي بالتعاطي مع عالم الكتابة، دفعني ذلك كلهُ للـتأليف عبر الكيبورد لملفاتي الأخرى كالدراسات والروايات، وقد نظَفت محيطي من الورق ونشَرت أول كتاب طبعتهُ عن طريق الكمبيوتر وهو كرة الرماد، وتلته عدة كتب...كانت نقْلة الكتابة من الورق للكيبورد لها تأثيرها الشديد في تكثيف الكتابة من حيث الشكل والمضمون، إذ كانت شاشة الكمبيوتر عِبارة عن مساحة بيضاء شاغِرة تتحداك أن ترْسمها بالكلمات، بل تسْتدرجُك لخلقِ وبناء صور مكثَّفة، وجدتُ سعادتي المفاجأة بالانتقال للكمبيوتر، وساهًمَت بقية الأدوات التقنية في تحسين الرؤيّة الإبداعية لسهولة تفريغ الأفكار على الشاشة، إذا لا تحتاج عناء الخط بالحبر والانحناء على الورق، جهاز الكمبيوتر شرسٌ ووعر بالتفاعل وسريع الإيقاع في الاستدراج، وقابل للعودة للوراء وتغيير الفقرات والعِبارات ونهج التفكير المُتلازِم مع الصوّر بدلاً من الصياغة الورقية، لكن المشكلة في العيْن والذهن، إذ يسلبك الكمبيوتر القوة ويُنهكّك من خلال تحريك الأصابع بذات الوقت الذي يتَقد فيه الذهن، ويشتعل الجسد بالوهْن.
كانت جريدة الأيام التي أسسَها الوزير طارق المؤيد لروحه السلام، ونظام الطباعة الالكتروني فيها منذ لحظة صدورها فرصة سانحة للتفاعل مع العصر الالكتروني، وقد دفعني ذلك لمزيدٍ من التأليف فأصْدرتُ في تلك الفترة خلال التسعينات من القرن الماضي دراسات أهمها (كرة الرماد) التي نفذت وكذلك (الديمقراطية الالكترونية) و(الديمقراطية الانقلابية) وهما كتابين، بعكس الكتب والمسرحيات التي صدَرَت قبل ذلك كمسرحية (أبونواس يرقص الديسكو) ومسرحية (فجان قهوة للرئيس) الصادرتان عن دار الفارابي بيروت بالثمانينات من القرن الماضي واستخْدمتُ في كتابتِها الحِبر ثم تولى بعض الأصدقاء طباعتهما على الآلة الكاتبة التقليدية، إذ لم أكن على علاقة وطيدة بهذه الآلة منذ البداية لاعتقادي بأنّها تؤخرني عن التأليف وتفريغ الأفكار بالسرعة التي توازي الحالة الكتابية الانفعالية. هنا اكتشّفتُ روعة الـتأليف الالكتروني بديلاً عن التأليف الورقي الذي ظلَّ العالم لقرونٍ وسيلته الوحيدة، هذا الانقلاب الالكتروني بجميع وسائل النشر حلَ معضلة الحْبر التي كانت تعرقل التعديلات والإضافات.
هامش: فقرة من سيرة ذاتية للكاتب تصدر لاحقًا بعنوان (ثلوج يوليو)