- 1 -
غرسوا حقنة البنج المخدر فى وريدى تمهيدا لإجراء العملية الجراحية التى قد تطيح بى بعيدا عن الوعى الى أجل محدد أو تبعده عنى الى الأبد.. لم أشعر بشىء.
- 2 -
وهو منهمك فى حبها وقد استبدت به النشوة ، لم يكن من الطبيعى أن ينشغل فكره فى تلك اللحظات بكونه مخلوق طينى نفخ فيه من روح الله. عند بلوغه الذروة ألقى بنطفتى فى قرار أمى المكين. ظلمة داخل ظلمة داخل ظلمة وغذائى دم. قيل لى اننى سأعيش حياة بسيطة لا أجوع فيها ولا أعرى. لن أملك قصرا أو ضيعة كما لن أملك ثروة ولا جاها ولا سلطة ولا شهرة. لم أدرك تماما هل يعنى هذا أننى سأعيش سعيدا أم تعسا ، فالأمر كما فهمت بعد ذلك مرهون بقدرتى على التصالح مع الحياة.
ما رأيته ولمسته و أنا فى غياهب الظلمات أن أبى لم يكن سعيدا على الاطلاق، رغم انه كان يتمتع بقدر من المال وبعض من الممتلكات ونوع من الجاه وشكل من أشكال السلطة. كانت أسباب السعادة الحقيقية مسألة صعبة على إدراكى الذى لم يكن قد تشكل بعد، بل و انها مازالت كذلك حتى اليوم .. اننى لم أعرف ان كانت هذه الأسباب ثابتة مطلقة ، أم أنها تختلف من إنس الى آخر. ما كان أغنانى أن أقع فى حبائل مثل هذه المسائل الفلسفية الشائكة لولا أن صاحبنا - بنهاية جولة متعته – قذف بى فى ارتعاشة لذيذة الى خضم الحياة ، ثم نسينى تماما.
-3-
لقد كتب على البحث والتجوال فى عالمى الداخلي فى اللحظة التى تشكلت فيها نطفتى على وجه التحديد.. ظننت أن انتقالى الى طور آخر سيعفينى من المكتوب ، أو يستبدل به مكتوبا آخر أكثر يسرا على النفس والعقل والروح ، لكن تبين لى انه قدر أزلى أبدى يحتوى أطوارى التالية جميعا ، فأبحث وأنا علقة ، وأجول وأنا مضغة ، وأستفسر وأدرس و انا عظام ، وأغوص فى قيعان الفكر وأنا لحم ، حتى أغرق فى لجة الوجود وأنا مخلوق آدمى بطينه وروحه.
العوالم الانسانية التى كتب على أن اجول فيها تحتمل مسميات عديدة ،فهى داخلية وهى سفلية وخلفية وماورائية ، وبنفس القدر فهى منطلقة من الأرض حيث الواقع و الخارج والداخل والعلوى والأمامى والورائى والفوقى والتحتى.. من هنا لم تكن هناك ضرورة لتسلسل التجوال من طور الى طور ، اذ امتزجت جولاتى بامتزاج أطوار خلقى السبعة ، فانشطر عنصر الزمن الى ذرات مشتتة تسافر حين تشاء الى أين تشاء...
ورغم ضآلتى اللانهائية ، الا أن مددا رهيبا من المعرفة كان يأتينى من مصدر شديد الغموض لم أجرؤ لحظة على التفكير فى ذاتيته ، فقد علمت منه مثلا أن خارج حدود جسد أمى هناك عالم وحياة ودنيا وأرض وسماء وكواكب وبلاد كثيرة تفصل بينها محيطات وأنهار ، ويتحدث أناسها بلغات عديدة ويدينون بديانات مختلفة..كما علمت أن الانسان يحب ويكره ، ويولد ويموت ، ويتشبث بالأرض ويتعلق بالسماء ، وأن قوته الحقيقية فى روحه لا فى جسده.
رغم معرفتى المبكرة بهذه الأشياء ، فقد كان همى الأول أن أكسر حاجز الجسد وأنطلق مستقلا الى فضاء الحياة. وعندما تحقق لى ذلك فوجئت بأننى كائن صغير الجسم لايتجاوز وزنه أربعة كيلوجرامات ، وبأن عدد السنوات التى سأبقى فيها على الأرض أمر مجهول لن يتسنى لى معرفته مهما كانت حصافتى ومهما بلغت قدرتى على التنبؤ.
-4-
ما أن امتلأ صدرى الصغير بأول شهقة حياة أوكسيجينية حتى تناثرت أمامى عشرات الأسئلة: من أنا وماذا أريد، وكيف ولماذا جئت، وهل بى رغبة أصيلة فى هذا المجىء الى هذا العالم، وكيف سأعاشر فيه الإنس والجن، وما الحكمة فيما كتب على من بحث وتجوال؟؟؟...اعتصرتنى الحيرة وشعرت بألم شديد يجتاح كيانى بأكمله، حتى خيل الىّ أن الحياة عذاب لن ينتهى، وأن العودة الى العدم أفضل بكثير من معاناة لاجدوى منها.لكن الفرج جاء مسرعا ، فإذا بصدرى ينشرح فجأة، وإذا بالطمانينة تغمر قلبى، وإذا بهاتف يؤكد لى بنبرات هادئة واثقة مطمئنة أن الأمر كله خارج عن إرادتى، وأننى مهما فعلت فلن أغير من الأمر شيئا رغم أننى مطالب بالاجتهاد والفعل منذ لحظة مولدى وحتى لحظة مماتى.
هكذا تمكنت فى لحظات خاطفة غامضة من التخلص من حمل ثقيل لامعنى لأن أثقل به كاهلى متطوعا دون ان يطلب منى ذلك...ولقد استوعبت الموقف على قدر فهمى المحدود ، وتركت نفسى سائحا فى ملك الله الواسع، وكان معى قلم وبضعة أوراق تحسبا لتسجيل ماقد ينتفع به غيرى من مشاهدات لأحوال وأفعال وأقوال.
ما أن أصبحت كائنا يدب على الأرض بقدمين حتى انقبض صدرى وفرت الطمأنينة من قلبى مرة ثانية، ولم أجد ملاذا لى غير حلم العودة الى ظلمة الرحم من جديد كى استفسر عن أسرار المتاهة التى وجدت نفسى حائرا فى أرجائها اللانهائية الأبعاد..ولما كان الأمر مجرد حلم فقد تعذرت على العودة الى الداخل ، إذ طردت بقوة ضاغطة هائلة الى الأرض مرة أخرى وسمعت صوتا هامسا يقول لى:
- انزل.لقد وجدت ، فلا معنى لأن تغيب
وجلست مع صديقى المقرب نأكل ونشرب ونتمتع ويلهينا الأمل.كان بصحبة كل منا رفيقته. نخوض فى الكلمات باهتمام وكأننا نحاول التأكد من وجودنا وإثبات أنه حقيقة. سمعنا طلقات رصاص خارج الملهى الليلى.خرجت وحدى أستطلع الأمر. المبنى شاهق وعليه عشرات اللافتات تعلن عن عيادات أطباء ومكاتب محامين ومحاسبين وشركات سمسرة وصرافة ومقاولات ومعارض للحاسبات الآلية وأساتذة علم النفس وتجار الأدوات الصحية. تداخل اللافتات أصابنى بالذعر..ما كل هؤلاء الناس المتدافعين للإعلان عن وجودهم وتواجدهم بتلك الكثافة المزعجة والتزاحم الخانق؟..ولما تبين لى أن أمر الطلقات لايهمنى ، هربت من رفاقى وحيدا الى الخلاء البعيد.. وتحت ظل شجرة علمت أن مجيئى الى الحياة لابد أن يكون مرتبطا بالقيام بعمل مؤثر يهم الناس ويفيدهم، حيث لامعنى لأن أولد لآكل وأشرب وأتناسل وأنام لفترة من الزمن طالت أم قصرت ثم أموت طبيعيا أو على أثر حادث.
نظرت فى نفسى فرأيتنى طفلا مرة وشابا مرة وشيخا مرة.عاودت النظر فرأيت الثلاثة وقد تجسدوا فى شخص واحد لكنه لم يكن أنا.. قال لى هذا الشخص بنبرة الناصح:
- انتبه..حياتك نعمة ولكن لامفر من البحث عن معناها!!
-5-
يمتلك هو ثروة هائلة، وتمتلك هى مؤخرة ذات استدارة متميزة . جلس على كرسى العرش فانتفخ واعوج لسانه ونسى أباه الكادح وأمه الغلبانة. فى زمن وجيز ابتلعت بغنجها ثروته بأكملها وجلست تدلك قدميه وهو منتفخ على كرسيه فساح وناح وقال ان الحياة بلا متعة لاقيمة لها، ولكنه لم يفكر فى نهايتها.
غطست فى الماء كى أتطهر. رأيت ثعلبا صغيرا مستغرقا فى الضحك.أمسكت بالوردة ذات اللونين الأحمر والبنفسجى وقد ذابا فى بعضهما بمرور الزمن. زوجها يحبها ويحترمها ويقدرها ولكن المسألة أنه لايحب الممارسة العملية لهذا الحب، ولايرغب فيها قدر رغبته فى عمله الذى يعشقه ويتفانى فيه مستغرقا به كل وقته. كرمه وعطفه وإنسانيته فشلوا جميعا فى القضاء على قلقها الدائم وتوترها العصبى ورغبتها فى ذلك الشىء الغريزى الممتع..الرجل كان ماشيا امامى كالثور منذ ساعات قليلة وإذ به يموت فجأة وكأنه هو صاحب القرار..أمسك الضابط مريض النفس بأدوات التعذيب وراح يتسلى فى ساديّة مقززة بأجساد المعتقلين.اشتهى من بينهم كاتبة شهيرة تجاوزت الأربعين. جمالها أصيل وقلمها سليط . تحرش بها فبصقت فى وجهه فصفعها بشدة على رقبتها..قالت له بثقة:
- ما أنت إلا عبد ، ولكن مايزعجنى حقا هو أنك سعيد بذلك
ولد صاحبنا فى وطن بائس يحوى شعبا بائسا يعيش حياة بائسة. الجمال والفن والديموقراطية والحب والموسيقا والشعر والحق والرخاء والوفرة والثقافة والعدل والمعرفة والحرية، كلها كلمات منقرضة.لم تعد مدونة فى قاموس كلمات هذا الوطن أو منطوقة فى لغته. أوجدنى فوجدت هنا كما قدر لى. سكن موج البحر تماما وتحول سطحه اللانهائى الى بساط أزرق يميل الى الاخضرار، وأجروا لها عملية ترقيع فى السر حتى تعود عذراء من جديد، فصاحبنا كان من ذلك النوع من الرجال الذين يهتمون اهتماما شديدا بذلك الغشاء ، والحق أنى أؤيده ، وإلا أصبحت الحكاية سداح مداح وهذا حرام فضلا عن أنه عيب..علمت أن ساسة الغرب يحتقرون الشعوب العربية ويسخرون من حكامهم. ركبت الجمل وخضت به الصحراء ، حتى انتهى بى الى عيادة طبيب شهير قال ان هناك ثقبا فى قلبى، وانه لابد من نشر أضلعى وتمزيقها حتى تتم عملية القلب المفتوح، وكنت فى غيبوبة داخل غيبوبتى الأصلية حين رأيت أشياء كثيرة تتساقط من قلبى، كل شىء فيها يناقض الشىء الآخر..ولن يكون هناك إخراج فى الجنة كما يقول الشيخ العلامة لأن خلقتنا ستكون فى صورة ملكوتية مختلفة عن صورتنا الآدمية الآن..ولن يكون هناك نهم أو جشع أو شهوة جامحة رغم وفرة الحور العين والكواعب الأتراب..المثير فى الأمر أن تلال الكتب ودوائر المعارف المختزنة فى تلافيف المخ ستؤول فى النهاية الى تراب، أما الروح فتسافر بعيدا الى أجل مسمى، وعندما تلتقى بجسدها من جديد سيكون الزمان والمكان والأحوال فى صورة مختلفة تماما. لن يسمع أحد كلمة أمريكا أو مجلس الأمن أو آبار البترول أو بورصة الأوراق المالية أو حرب الخليج أو الميكروسوفت أو القنوات الفضائية أو حكام العالم الثالث وكلابهم الدائمة اللهاث والنباح. سوف تختلف المفردات تماما. ستنعقد محكمة عادلة يتم تنفيذ أحكامها فى التو واللحظة لينال كل انسان ما يستحقه من نعيم وسط الحور والفواكه والخمر والجنان والأنهار ، أو من جحيم وقوده الناس والحجارة . مهما كانت مدة البقاء على الأرض فالنهاية واحدة وهذا أمر بديهى يعرفه الجميع . ترديدى لهذا الأمر البديهى لايعنى أنى أقدم شيئا جديدا، وإنما أنا أحاور نفسى ممعنا التفكير فى مغزى ألا يعرف مخلوق واحد على الأرض متى تقوم قيامته حتى يصرف أموره الدنيوية على هذا الأساس..وكنت أحلم بنظرة عطف منها فإذا بها تتذلل وأنا أنفر واتعالى ، ولاعجب فإنها دنيا الأغيار المحتشدة بالأعاجيب والأسرار، ومنها أن الشهوة زمنها غاية فى القصر وكلما ازدادت حدتها انطفأت جذوتها فى لمح البصر ثم أعقبها النسيان ، أما المسرات فهى كالأحزان تماما ، وخيبة الأمل غالبا ماتكون الحصيلة الأخيرة ورغم ذلك فالقتل لايتوقف أبدا بالرصاص والمدافع والغازات السامة والهراوات الغليظة والأقلام والقنابل وأسلاك الكهرباء الصاعقة وباغتصاب النساء وخرق الرجال ، وبالسكاكين والمشانق وبالأحكام المقننة، فهى اليوم اشتراكية وغدا رأسمالية وبعد غد فوضوية والناس تسير فى الشوارع تحمل الطعام لأولادها أو تسعى لأغراض أخرى والراكبون منهم والمترجلون يتوقفون دائما للفرجة وهم يعتقدون أن لكل شىء نهاية ولكن البعض منهم غير واثق من ذلك.
على وجه العموم فإن الغالبية العظمى ممن عرفت من هؤلاء الناس وممن لم أعرف كذابون، خاصة اولئك المهتمون بالاقتراب من السلطان، رغم أن دملا صغيرا فى المؤخرة أو احتباسا مفاجئا فى البول أو ارتفاعا طارئا فى ضغط الدم قد يسفر عن موت مفاجىء..حينئذ لن تكون هناك أهمية لبناء مسجد أو كنيسة أو لاعتداء مسلم على مسيحى أو مسيحى على مسلم ، او دخول ذكر فى فرج أو خروجه منه .
-6-
العربة طويلة جدا ماشاء الله ولكن بداخلها شلل رباعى وزجاجة ويسكى، وصاحبنا أصابه الفكر والتدبر بالعجز ولم يستطع أن يفعل لنفسه شيئا، فيما كانت ذكريات الحياة ضاغطة على أنفاسه ونبضاته . الماضى لايمكن أن يعود. حتى لو حاول اجباره على العودة فسيكون طعمه ماسخا وشكله شائها، وفى أغلب الأحوال سيكون مدعاة للحزن والرثاء وربما لسخرية الآخرين ، وإن من عبادى من لايصلح ايمانه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك، وكيف يمكن لأى مخلوق أن يداوم فى حياته على الشعور بالفرح والبهجة قدر استطاعته ولو لعدة ساعات كل يوم من عمره؟..التقلص والانكماش والتقهقر سنة كل شىء ثم الزوال فى الخاتمة، وقالت لى السيدة إياها ان زوجها كان عنينا ورغم ذلك فقد انجبت منه طفلا وطفلة ، لكنها طلبت الطلاق وظلت سنين عديدة تنتظر الفارس المغوار القادر على إشباعها حتى تجاوزت الخمسين دون أن يصل. انى أرثى لحالها فهى لم تتذوق لذة امتزاج مائها بماء رجل فى لحظة مقدسة هى سر الحياة..تلك اللحظة التى ينفق الخلق عليها الملايين ، ولأجلها تسيل الدماء وتهتز العروش والممالك..وكيف ينصحنى هذا المعتوه بألا أكبر بينما تقدم العمر أمر لاناقة لى فيه ولا جمل ، حيث لامفر من عذابات الشيخوخة وآلامها.. وبعض الذين لايصمدون ينتحرون فلا فرق هنا بين عالم أول وعالم ثالث ولا بين فرح أو الم ولا بين يأس أو امل.
كان ساذجا إذ واجه المرأة بالحقيقة ولم يعرف كيف يطرى محاسنها الوهمية وقدراتها الخارقة الزائفة وجمالها المقدم لها كعهدة مؤقتة من خالقها، بينما يختصر غيره الطريق فيضع لها فى سروالها هدية ثمينة تهيؤها لخلعه فى أقصر فترة زمنية ، وقد قال دستويفسكى انه لاشىء فى الحياة أصعب من التعامل مع المرأة بصراحة ولاشىء أسهل من التعامل معها بالمديح والإطراء.
أروع ما فى الحياة اننا ننسى أنها مجرد حلم لانفيق منه الا عند الموت ، وقال صديق ان الأيام الخراء فائدتها النوم ، ولذلك لاأجدنى أفيق أبدا من حلم الحياة، وما انتفاعى بحياة أولادى وأحفادى من بعد موتى حيث لن أشعر ولن أحس ولن أفهم ولن أتكلم ولن أعمل؟!!!...ولو أوجزت لى القصة بأكملها فى جملة واحدة هى:
- هو مات وهى تزوجت والولد انتحر والبنت هاجرت والبلد رايحة فى ستين داهية!!
- 7-
قالت لى آمال – والتى لابد أن تكون قد ماتت منذ زمن بعيد - ان الرجال السذج يعتقدون أن المرأة أكثر رومانسية من الرجل لجهلهم بأنها أكثر واقعية منه، ولكنها اعترفت فى الوقت ذاته بأنه ما من مصيبة تحل برجل إلا ويكون وراءها امرأة..وقال جل جلاله :"انى ادير عبادى بعلمى بما فى قلوبهم"..إننى اعانى من ذهول غبى حين أرى رجلا يتبرأ من العدل فيتآمر ويغتصب الحقوق متخليا عن كرامته وانسانيته لمجرد أن يجلس على مقعد معين فى حجرة معينة بمبنى معين لأجل مسمى رغم أنه لايعرف توقيته..هو يتصور فقط أنه سيد وكبير ومتميز وعال فى الأرض. العبد الحقيقى الطائع لسيد يكفل له قوت يومه يبدو فى رأيى أكثر تعقلا واحتراما منه ، وربما كان أكثر سعادة. حتى الآن أنا لا أعرف ماذ بعد أن اكون أغنى الناس وأشهرهم وأعلمهم وأعلاهم سلطة..ماذا بعد؟.. الناس الذين أحببتهم وماتوا كثيرون ويحز فى نفسى اننى لن أستطيع رؤيتهم مرة ثانية قبل أن أموت مثلهم، وقالت لى عفاف بنبرات حانية وعينين ودودتين تفيضان بالفضول والدهشة:
- أرنى يدك
سلمتها يمناى فأمسكت بها وراحت تتحسس بطنها برفق جميل ثم قلبتها وتحسست ظهرها، وإذ بها تضحك فى حياء صادق وهى تقول:
- ألا تلحظ أن يدك أكثر نعومة من يدى؟
- هذه حقيقة فأنا لا أغسل المواعين مثلك
- سلمت لى أصابعك التى خلقت لما هو أجل من ذلك
ورفعت يدى الى فمها وقبلتها بكل ما فى الدنيا من وداعة ورقة. لم تشفع لحظات الرومانس المتسامية لخيالى أن يكف عن تجريدها فى نفس اللحظة من ملابسها وأن أنصهر معها فى أتون النشوة الحالمة تحت ظل الشجرة قبل أن يتقلص عنا ظلها.
-8-
كان جل همه أن يستدرجنى بكل ما اوتى من حيلة وفطنة ، حتى يستضيفنى فى قصره العظيم بضاحية صحراوية من ضواحى الاسكندرية ذات الهواء الجاف المنعش والهدوء الفائق والسكينة التى تجلب للنفس الطمأنينة والصفاء. كان القصر فخيما تحيط به حديقة أشجارها نادرة مغطاة بأوراق وورود ألوانها تأسر العين، وكان تغريد الطيور على أغصانها يشفى علة القلب..ولقد نجح فى مسعاه، وأغلب ظنى ان نجاحه فى التمكن من إغرائى بقبول دعوته لم يكن راجعا بالدرجة الأولى الى حصافته بقدر ما كان راجعا الى حب الاستطلاع المرضى الذى يستبد بى منذ لحظة مولدى كما أشرت من قبل، فضلا عن نهمى الشديد للرغبة فى الغوص بأعماق كل نفس بشرية التقى بها فى حياتى ولو لثوان عاجلة، وكأن الله لم يخلقنى إلا لهذه المهمة فقط.
راح يقدم لى ما لذ وطاب من طعام وشراب ومخدرات لعلى أرى وأشهد بعينى ما قال أنه استطاع إنجازه فى حياته بعد جهد جهيد وقبل ان يحال الى التقاعد منذ أشهر قليلة.. والحق أننى لم أكن أدرى ، بل ولعلنى مازلت لا ادرى حتى هذه اللحظة ما الذى يفيده أو يفيدنى من رؤية هذا الإنجاز والتحقق من حدوثه. ذلك أمر لايعنينى فى شىء ، فضلا عن أنه عديم الجدوى تماما..ربما يشكل عنده أهمية واهية زائلة لن يلبث أن يكتشف عبثها بعد حين طال أم قصر، خاصة لو علم أننى رغم مرور أكثر من عامين على هذه الواقعة لم يتصادف أن رويتها لأحد، وبالتالى لم يعرف أحد من أصدقائى أو معارفى أنه يمتلك هذا القصر الكبير الذى أفنى حياته كى يتحصل عليه.
كنت أشفق عليه من شعوره الكئيب بالوحدة بعد وفاة زوجته العاقر التى كان يكرهها بشدة..نصحته بالزواج فوجدت لديه قبولا شديدا للفكرة، حتى أنه ظل يطاردنى بالهاتف لعدة أشهر ويسألنى عن أخبار من أعرف من نساء
قبل أن اقرأ نعيه فى احدى الجرائد.
بعد عدة أشهر مررت بنفس المكان لظرف قاهر فلم أجد القصر الفخيم ولا الحديقة النادرة ، كما لم أجد نفسى..كان هناك العدم ولا شىء غيره.
-9-
- انتظرنى انى قادمة اليك
-لا تتأخرى انى بانتظارك دائما
- حاضر..أنا فى الطريق
- ستذهلين لروعة المفاجآت التى أعددتها لك احتفاء بقدومك
- ولك عندى أيضا مفاجآت ستسر قلبك
الماضى والمستقبل لايعنيان لى شيئا فى هذه اللحظات. لامبرر للخوف من الزمن أو القدر أو المجهول فلا يد لى فى احدهم، وربما تجىء لتجدنى ميتا، وربما تموت بين يدى قبل أن نعيش معا نعيم الذوبان و نشوة التلاشى.
-10-
عندما بلغت السابعة والثلاثين قبل ميلادى، كان صاحبنا فى الخامسة والثمانين. يحدثنى عن زمن كانت تباع فيه البيضة بمليم- أى بمعشار قرش- فأخبره أنها تباع اليوم بسبعمائة وخمسين ضعفا. يحدثنى عن الدستور والحرية والديموقراطية والأحزاب ، وعن اللافتات التى كانت تتصدر مداخل عشرات البيوت فى الشارع الواحد معلنة عن شقق خالية للإيجار. قلت له اننى لم أستطع حتى تلك اللحظة أن أدبر مبلغا من المال يمكننى من الحصول على شقة، ولهذا كلما تقدمت لخطبة فتاة رفضنى أهلها.
دون أن ندرى تطور الحوار بيننا واحتدم حتى أصبحنا نتكلم فى وقت واحد ، ومن شدة حرقتنا لم يكن أحدنا يستمع الى الآخر. الأحفاد مشغولون بالانترنت وأغانى الفيديو كليب. الأبناء تلتهمهم أسماك القرش البرية فى وطنهم ، فيحاولون الهرب من الحدود الى أوروبا، معتقدين أنها طوق النجاة وباب الأمل للحصول على عمل. يغرقون وتلتهمهم أسماك القرش البحرية. الفنانات المحجبات تقدمن لمشاهدى القنوات الفضائية دروسا فى الدين والفضيلة، والسيدات أنصاف الحرائر يمارسن الشات على الكمبيوتر مع رجال لايعرفونهن باستخدام الكاميرات الشرعية التى سجلت عناقا حارا بين الرئيسين المصرى والاسرائيلى. سأل الرئيس المصرى أحد وزرائه عن البلدة التى ولد بها فأجابه الوزير بابتسامة عذراء ورأس منكسة الى الأرض فى حياء قائلا: كما تحب ياريس.. وهناك قانون مصرى يحدد مواصفات بدلة الرقص الشرقى بحيث لاتكشف الراقصة عن مفاتنها المخبوءة كلها فتسبب للشباب الوقوع فى الخطيئة وللشيوخ التهاب البروستاتا، ولكنه يقول إنه فقد الرغبة فى النساء بحكم التشبع والاعتياد والعجز والملل، كما أن كل الأشياء المتاحة بما فيها البنى آدميين لم تعد تجلب له سرورا أو طمأنينة. تعجبت كيف سيكون حالى لو عشت حتى هذا العمر ، فيأتى على يوم لاأفكر فى شىء غير انتظار الموت.
-11-
على شاطىء سانتا مونيكا المطل على المحيط الهادى سوف أجلس يوما لآكل السمك ، بينما تعاكسنى الأمريكية بالعبث بين الحين والآخر بمكان حساس من جسدى أخجل من ذكره، وسوف تشتعل النيران فى البيت المتهالك بالحى الشعبى، لكن سلم المطافىء الحكومى العتيق لن يستطيع الوصول الى الشقة التى اندلع فيها الحريق، ولن يكون أمام رجال المطافىء الشجعان إلا أن يقتحموا هذه الشقة من خلال نافذة شقة أخرى مقابلة. أجادت سناء البيسى وصف الواقعة بأسلوب عبقرى حين ذكرت أن رجال الاطفاء اكتشفوا أن هناك سيدة فى تلك الشقة المقابلة ميتة فوق سريرها وتحت غطائها منذ عدة سنوات حسب تصريح الطبيب الشرعى ، وأن أحدا من اهلها أو أصدقائها لم يسأل عنها أو يزرها خلال هذه السنوات، ورغم ذلك كان هناك رجل يحدثنى بلغة اعتراض غبية عن صديق مشترك ، قائلا انه أصبح اليوم يمتلك أموالا طائلة فى البنوك وعقارات لاحصر لها فى مدن مختلفة بعد أن كان متواضع الحال، وكنت أستمع اليه فى غيظ شديد، وفى النهاية لم أستطع أن ألتزم الصمت فنهرته مختارا كلماتى بعناية شديدة قائلا له:
- وانت مالك ياعرص.. امش من قدامى..
وكانت هذه فرصة مناسبة ليعرف رواد الخمارة الرخيصة الفارق بين التحديث modernization والتغريب westernization ، كما عرفت الراقصة الشهيرة انشراح الفرق بين الأصالة والمعاصرة، إذ انعكست معرفتها على ارتعاشات بطنها والتواءات خصرها واهتزازات مؤخرتها وانهيال أوراق البنكنوت على نهديها، وكان عوّاد الفرقة ينظر فى سخرية الى تساقط الأوراق على خشبة المسرح وريشته تتقافز بخفة على الأوتار متنقلا بين المقامات بخبرة عمره ليبعث فى الكون بأنغام شجية تذيب أحزان الدنيا فى أفراحها، وأنا أستبعد تماما أنه كان يفكر فى تلك اللحظات بانسداد ماسورة الصرف الصحى وطفح القاذورات على أرض شقته، وياسلام لو ربنا أكرمنا ، وياليل الصب متى غده، وياعينى عليك يامن تفهم للزمن معنى وللأيام مغزى وللحياة منهاجا.. دعنى أرثى لحالك ياشيخ وأخلع ملابسى وأرقص عاريا ابتداء من غروب الشمس وحتى طلوع الفجر لتسعة أيام متواصلة بلا انقطاع، فالواقع أننى على يقين من أن كثيرا من الناس جبناء..كينونتهم خواء. رجال بالشكل دون مضمون. يقبلون الظلم ويرضون بالذل ويستمرءون التسلط والقهر، وعلى قدر ثقتى بصفاتهم تلك ، فأنا أشك فى قدرتى على التوصل الى الأسباب التى تبرر قبولهم بهذه الدرجة الدنيا من الحضيض الانسانى واعتيادهم ذلك دون اهتزازة تململ واحدة بسيطة ، وكذلك أشك فى قدرتى على العثور على ذلك الكائن الانسانى المخلوق من آدم ، والذى يمكنه أن يستوعب الدنيا بأكملها فى عقله وصدره وقلبه وروحه استيعابا يجعله قادرا فى لحظة على استحضار خرابة جرداء تعوى فيها الكلاب فى منطقة مهجورة بأطراف مدينة قديمة فقيرة قذرة منهارة قبيحة ظالمة مظلومة، ويستحضر معها نقيضتها"جاملاستون"- المدينة القديمة باستوكهولم- حيث تبرق الشوارع - ذات البلاط البازلتى الأسود العتيق – بالنظافة ، وتحيط بها وتتخلل أزقتها الحدائق ، وترقص الزهور فى أوانيها المرصوصة على النوافذ والشرفات ، لتسرق العيون وتغمر النفوس بالمتعة والنشوة والانسجام..لو عثر علماء الحفريات على هذا الكائن فسيكتبون فى تقاريرهم أنه مات منتحرا وسيدللون على ذلك بأساليبهم العلمية، لأنهم لن يعرفوا أنه قد ترك ورقة مطوية كتب فيها أنه لم يستطع احتمال الحياة بعد أن قطع فيها شوطا طويلا..الأمر الغريب أن هذا الرجل نفسه جلس الى جوارى بصعوبة متناهية على مقعد من مقاعد صالة الانتظار بعيادة التأمين الصحى الضخمة الذى أنشأه جمال عبد الناصر. كانت أصابع يديه محروقة وملتصقة بعضها ببعض، وكان وجهه أيضا محروقا، وكلها حروق قديمة بقيت بعد إجراء العديد من العمليات الجراحية، رقد خلالها بالمستشفى ثمانية أشهر متعاقبة.كان يستند الى عكازين وكانت احدى ساقيه صناعية.. قال انه لم يستطع الحضور للحصول على علاجه منذ شهرين بسبب سوء حالته. سألته لماذا لم يرسل ابنه بدلا منه.قال ان الأبناء يختفون بعد زواجهم. من النافذة المطلة على فناء المستشفى رأيت شابا يحمل أباه الشيخ المشلول ليضعه داخل عربة أجرة كما لو كان يضع قفصا من الخضروات..قال لى جارى كلاما عن الوحدة والوحشة والخوف والموت والمرض والحياة قبل أن يصف لى تفاصيل الحادثة التى حطمته. كان يقود سيارته وبجواره صديقته التى يشتهيها ولكنها لاتمنحه جسدها خشية الحرام.اصطدم بعربة مسرعة فانفجر خزان الوقود واشتعل وانفتح الباب المجاور له بسرعة عن آخره. ما أن طارت منه رفيقته الى الأرض حتى قفل الباب من تلقاء نفسه بسرعة البرق ليبقى هو محبوسا وحده داخل العربة المشتعلة. أحاطت النار بالعربة مع تدفق البنزين من كل مكان . لم يتمكن من فتح أى باب من أبوابها الملتهبة.اضطر الى كسر الزجاج والقفز من داخله عبر سكاكين زجاجية حادة مشرشرة مدببة.كان تفسيره لما حدث أنه عقاب الهى لأنه كان يتخيل رفيقته خلال نومه مع زوجته.
استدرجته فى حوار طويل مراوغ حول مقولته حتى أتأكد إن كان صادقا أو معتوها فتهرب منى وخرج الى الزحام حيث تجرى كل الأجيال رجالا و نساء الى مصائرهم، وأجده يوما جالسا الى أحد الأرصفة يبيع أكياس الحلوى للأطفال مسندا عكازيه الى الحائط..أمنحه ورقة مالية كبيرة فيقبلها وهو لايكاد يصدق عينيه.بعد دقائق كنت أعانى الخوف والقلق والتوتر من كل الأشياء المجهولة فى حياتى، وكنت أشم رائحة الجنس والخمر ودخان السجائر والموسيقا والليل والنهار والشمس والقمر والرقص والغناء والحزن والبكاء والفراغ الجهنمى بداخل الصدر والقلب والنفس والروح وما يتولد عن ذلك كله من رغبة فى الفرار من الحياة لشدة حبى لها.
- 12 -
حين أفقت من أثر المخدر بعد انتهاء العملية استطعت بتركيز شديد أن أسترجع معظم الهلاوس والأحلام والأفكار والأحداث التى تراءت لى ، فتبين لى أن الأمر برمته لايستحق بذل الجهد لأجله فما حدث قد حدث ، وما سيحدث لا أعرف عنه شيئا ، وأنا إن كنت مخدورا أو غافلا أو نائما فلن أنتبه إلا اذا مت ، ولكنى أحمد الله على نعمة الحياة التى أعيدت الىّ بعد أن كنت على وشك الانتباه.
تحت البنج
فعاليات
مناقشة رواية النباتية لهان كانج الحاصلة على جائزة نوبل للأدب
نوفمبر 08, 2024
تمت منااقشة رواية النباتية يوم الجمعة 8 نوفمبر 202...
Art Auction: Support Palestinian Families in Gaza
أكتوبر 18 - 20, 2024
Join us on October 18th for Art for Aid, an online...
مناقشة نصف شمس صفراء لشيماماندا نجوزي أديتشي
سبتمبر 28, 2024
تمت مناقشة رواية نصف شمس صفراء للكاتبة النيجيرية ش...
إدوارد سعيد: الثقافة والإمبريالية
يوليو 27, 2024
تمت مناقشة كتاب الثقافة والإمبريالية لادوارد سعيد...