تقرير: رشا عامر عن الاهرام الثقافي
عندما كتب الأديب الفرنسي المبدع ألبير كامي, رائعته الأدبية الغريب لم يكن يعلم أنه سيكون سببا في فوز أديب آخر بجائزةimpacdublin الأدبية, تلك الجائزة التي تم إهداؤها أخيرا للأديب المغربي الأصل, الفرنسي الجنسية, طاهر بن جلون, أحد مبدعي الرواية الحديثة, فالغريب في رائعة كامي يواجه الموت وحده في زنزانة بلا بصيص ضوء, أو أمل, ولكنه الكبرياء الذي يجعله يموت في شموخ, مثل الأشجار عندما تموت واقفة.
غريب ألبير كامي, لا يزال موجودا بيننا حتي لو مات, سيظهر مكانه ألف غريب وغريب, وكأن الإنسانية أبت إلا أن ترتدي ثوب الوحشية والهمجية, فهاهي رواية طاهر بن جلون تلك العتمة الباهرة والتي استحق عنها الجائزة بجدارة, تكشف زيف الإنسانية من خلال فضح معسكرات التعذيب الصحراوية في المغرب أواخر الثمانينيات, تلك المعسكرات التي لم يتم غلقها إلا عام1991, أي في أوائل القرن الحادي والعشرين وها هي المآسي تتكرر الآن في سجن أبو غريب, إذ يبدو أنه الغريب دائما الذي يعاني طويلا قبل أن يموت, وقبل أن يشعر به أحد.
ربما اختلف اسم بطل رواية بن جلون, عن رواية غريب كامي, فالبطل اسمه سالم, ولكنه لم يختلف عن باقي أبطال زنازين التعذيب, فالجميع يسعي لمواجهة الموت حتي لو كان ذلك عن طريق التحالف معه أمام كل من يتصور أنه يستطيع مصادرة الحياة, فليس هناك أسهل من اللامبالاة في مواجهة الأشخاص, إنها كما يقولون السهل الممتنع خاصة عندما تكون هذه اللامبالاة في مواجهة الموت.
سالم بطل رواية تلك العتمة الباهرة يستعيض عن الوحشية التي يشعر بها, وعن رائحة الموت, التي يستنشقها مع كل نفس بقص رواية الغريب علي زملائه في الزنزانة, وكأنه يستمد طاقته في مواجهة هذا العالم المحدود بنفس النبع, الذي استمد منه الغريب طاقته في مواجهة موت يتربص به ولا قدرة له علي الهروب منه.
رواية بن جلون هي بحق صدمة للإنسانية, ومن يزعمون الدفاع عن حقوق الإنسان, أو حتي الحيوان وتلك ليست المرة الأولي التي يصدمنا فيها الكاتب بمثل هذه الأحداث, فكل رواية من رواياته تفتح عيوننا علي كل ما نراه ونتعامي عنه, فلقد استغل هجرته إلي فرنسا وكتابته باللغة الفرنسية, لكي يكسر كل القيود التي تفرضها عليه القيم الاجتماعية البالية, في نفس الوقت الذي يفضح فيه هذا المجتمع الراقي الذي يأكل لحم العرب بالشوكة والسكين.
المفارقة أن هؤلاء العرب أنفسهم, بعد كل ما تعرضوا له اعتبروا أن فضح بن جلون لما حدث لهم هي تهمة يستحق عنها العقاب, وليس وسيلة لتسليط الضوء علي بحر الظلمات الذي يقبعون, فلا يجدون أدني اهتمام من أحد.في بحر الظلمات, هذا كان يلفه هو أيضا منذ مولده في فاس عام1944, حيث التحق بمدرسة لتحفيظ القرآن الكريم, ثم بمدرسة مغربية فرنسية, وذلك قبل أن يهاجر مع أسرته إلي طنجة عام1955, حيث حصل فيها علي شهادة البكالوريوس, في العلوم الفلسفية, ولكن بعد دراسته للفلسفة تم إلقاء القبض عليه بتهمة التحريض علي مظاهرات الطلبة عام الشهيرة1965, ثم يفرج عنه في يناير عام1968, ليصبح في نفس العام أول أستاذ للعلوم الفلسفية في الجامعة, وينشر في نفس العام أيضا أول قصيدة له في مجلة' نفحات' التي كانت تصدر آنذاك سرا, واستمر هذا الحال لمدة عامين, انتقل خلالها بن جلون إلي التدريس بجامعة الملك محمد الخامس بكازابلانكا, قبل قراره بالرحيل إلي فرنسا, للحصول علي درجة الدكتوراه, بعد صدور قرار بتعريب دراسة الفلسفة.
وصل بن جلون إلي باريس في11 سبتمبر1971, حيث أقام بالمدينة الجامعية بمساعدة أحد الصحفيين الفرنسيين, ففي مجال الأدب استطاع نشر أول مقالة له في جريدة لوموند في19 يونيو عام1972, ثم تلاها بقصيدة شعرية بعنوان ندبات الشمس. ويشهد شهر سبتمبر عام1973, نشر أول رواية له بعنوانharouda حيث تلقي بعدها العديد من رسائل التهنئة من كبار الكتاب, كان بن جلون في ذلك الوقت يشغل منصبا مهما في ملحق الكتب الذي يصدر أسبوعيا مع جريدة لوموند, وفي عام1974 أرسله رئيس التحرير إلي مكة لكتابة تحقيق صحفي من مكة, حول فريضة الحج, وجاء التحقيق من ثلاثة أجزاء, حاز بهم إعجاب الجميع, قبل أن ينال منهم السخط العارم, عقب نشر دراسة مفصلة حول المشكلات التي يتعرض لها مهاجرو شمال إفريقيا في فرنسا, وقد رفضت كل دور النشر طبع الدراسة فيما عدا دار نشر'سوي' التي تحمست للفكرة شريطة أن تتولي هي نشر كل روايات بن جلون بعد ذلك.
وتأتي رواية بن جلون الثانية' سجن انفرادي' التي يوضح فيها بعض أشكال التعذيب في السجون, ولكن حتي صدور هذه الرواية, لم يكن بن جلون قد لاقي النجاح الذي يستحقه, إلي أن جاءت روايته' أقصي درجات العزلة' في منتصف السبعينيات, والتي فجر فيها المآسي التي يعيشها المهاجرين المغاربة, فالبطل في هذه الرواية يعاني من كثرة متطلباته, الأمر الذي يجعله يهاجر إلي فرنسا متصورا أنه وجد ضالته المنشودة, لكن علي العكس يفاجا بأنه مقابل إرضاء احتياجاته المالية, فإن هناك إهمالا قاتلا لاحتياجاته العاطفية والنفسية, فمنطق رأس المال هو الحاكم بأمره هناك, إلي الحد الذي يصل فيه إلي كراهية كل ما هو إنساني, وفي الوقت الذي يتعمد فيه أصحاب البلد إهمال وإذلال المهاجر بطل الرواية وكأنه لا وجود له فإنهم يتوجسون منه خيفة إلي حد ملاحقته وقتله!! وقد أحدثت هذه الرواية ضجة في الشارع الفرنسي عقب نشرها خاصة بعد تأكيد بن جلون علي مصداقية وواقعية كل سطر فيها لأنه هو شخصيا عاشه مع المهاجرين المغاربة.
لم يكن انخراط بن جلون في سلك الرواية, يعني الابتعاد عن الشعر إذ ظل يصدر الدواويبن الشعرية بين الحين والآخر, وكذلك الروايات إلي أن جاءت روايته صلاة الغائب عام1981 والتي يقول بن جلون إنه ضاع منها أول ثلاثة فصول, فاضطر إلي الجلوس في نفس الأماكن التي كان يجلس فيها أثناء الكتابة كي يسترجع ما كتبه, وفي النهاية ظهرت الرواية, وكانت بحق صدمة هي الأخري ليس للشارع الفرنسي, ولكن للشارع المغربي, وخاصة أهل مدينة فاس مسقط رأس الكاتب, والتي وصفها بأنها مستسلمة لسبات عميق, كما أن حرارة جوها خانقة وتجعل من التنفس عبئا كبيرا, تماما مثل هذا السأم الذي ترزح تحته المدينة, الأمر الذي جعلها لم تعد تفكر في شئ إلا اللامبالاة حتي عندما يذهب الجميع لأداء صلاة الجمعة, ويأتي الخطيب ويبادرهم بخطبة قوية طالبا منهم في النهاية إقامة صلاة الغائب, لا يجرؤ أحد علي سؤاله أي غائب هذا الذي سيقيمون الصلاة علي روحه, وكأنهم يعلمون ضمنيا أن كل واحد فيهم يجسد هذا الغائب الذي ابتلعه الصمت وقتله الاستسلام.
وبعد عامين من ظهور هذه الرواية, وتحديدا عام1983, ظهرت رواية بن جلون الجديدة' الكاتب العمومي' التي يمكن اعتبارها سيرة ذاتية للكاتب, حيث يشرح فيها معني كاتب عموم, فيقول كاتب يكتب بالأجر لمن لا يتقن الكتابة, ولكن بطل الرواية يكتب لنفسه, وعن ذاته, وعن ماضيه, محاولا البحث عن سنوات أهلكها العنف والتأخر, ولم ينس بن جلون الحديث عن مدينة فاس التي يبدو أنه لا يكن لها أية مشاعر فيقول: كل مدينة يولد فيها المرء تحمل في جوفها قليلا من الرماد و فاس, ملأت لي فمي بالتراب الأصفر والغبار الرمادي, كيف أحب هذه المدينة التي سمرتني في الأرض, وحجبت نظري زمنا طويلا, كيف أنسي طغيان حبها الأعمي فترات صمتها الثقيل الطويلة الأمد وغيباتها المضطربة.
وتمر أربع سنوات يكتب بن جلون خلالهم بضع روايات, تتحدث معظمها عن العنصرية في فرنسا إلي أن يأتي عام1987, وتصدر له رواية' ليلة القدر' التي هي استكمال لروايته السابقة' طفل الرمال' ويحصل برواية ليلة القدر علي جائزة جونكور الأدبية لتصعد به إلي مصاف كبار الكتاب, ويقول بن جلون في روايته ليلة القدر: هنا تكمن قصة حياتي, فكل تجعيدة طريق عبر ليلة شتوية, عين ماء صافية صياح من الضباب, لقاء في غابة قطيعة مقبرة شمس محرقة, ولعل تعبير عين ماء صافية هنا يذكرنا برواية طفل الرمال التي جاءت كجزء أول لرواية ليلة القدر, حيث يحكي بن جلون قصة الطفل محتار, والذي أراد أن يرمز باسمه إلي الحالة العربية كلها, المهم أن هذا الطفل يسير في رحلة تنتهي في الصحراء الكبري, التي يحفظها علي الجانب الآخر عن ظهر قلب الشيخ الثائر ماء العين, القضية في مجملها تحكي واقع المغرب الذي رزح طويلا تحت وطأة الاستعمار, البؤس ولا تزال ذاكرة سعيه تحفظه عن ظهر قلب تماما مثل الشيخ ماء العين.
لم تكن جائزة جونكور سوي دفعة قوية لـ' بن جلون' لاستكمال رسالته الأدبية التي بدأها مبكرا, فاستمرت رواياته الواحدة تلو الأخري, منها ما يحصل علي جوائز محلية, ومنها ما يحدث ضجة في الأوساط الأدبية, مثل رواية' ليلة الغلطة' التي ظهرت عام1997 واستغرقت أربع سنوات في كتابتها لدرجة أن بن جلون يقول إنه أعاد كتابتها ثلاث مرات, بطلة هذه الرواية هي' زينة' التي يوم أن ولدت توفي جدها, فأصبحت هي رمز النحس الذي جعلها تعيش علي الهامش بعد إصابتها بلعنة القدر الأبدية, فرغم جمالها الأخاذ إلا إنها قررت استخدامه في غواية كل عشاقها لتدميرهم.
لم يكد يمر عام علي صدور هذه الرواية, حتي فاجأنا كاتبنا برواية جديدة هي رواية العنصرية, كما شرحتها لابنتي والتي يتناول فيها ظاهرة العنصرية, والتزامه بالكفاح ضدها, ولكن يؤخذ علي الكاتب في هذه الرواية أنه غض الطرف عما ترتكبه القوات الإسرائيلية في فلسطين بأنه ذهب إلي حد الإشادة بالتعايش السلمي القائم بين يهود المغرب ومسلميها, متناسيا أن يهود المغرب الذين تكلم عنهم, ما هم إلا أفراد في جيش الاحتلال الذي يمارس مجازره نهارا جهارا دون رادع أو رقيب, وقد ترجمت تلك الرواية إلي أكثر من25 لغة, وبيع منها ملايين النسخ, ثم ظهرت روايته فندق الفقراء التي كتبها عام1999, عندما زار إيطاليا وتحديدا مدينة نابلس والتي تضم بين جنباتها فندقا بهذا الاسم وينر عام آخر ويأتي عام2000 لتخرج علينا صاعقته الأدبية الجديدة' تلك العتمة الباهرة التي يتحدث فيه عن معسكرات التعذيب الصحراوية في المغرب العربي التي اضطرت السلطات إلي إغلاقها عام1991 أي قبل أن يكتب بن جلون روايته هذه والتي أخذ عليه فيها أنه تأخر كثيرا حيث افضح هذه الممارسات العنصرية في روايته, التي هي عبارة عن أحداث واقعية مستلهمة من شهادة أحد معتقلي سجن تزمامارت وكما قلنا في البداية, فلقد استحق بن جلون جائزةimpacdublin الأدبية عن هذه الرواية رغم ظهور روايات أخري له بعد ذلك مثل الإسلام, كما شرحته للأطفال عام2002, والذي جاء لتوضيح صورة الإسلام في أعقاب11 سبتمبر, وقد ترجم هذا الكتاب إلي حوالي عشرين لغة, ثم رواية عواطف ساحرة عام.2003 المهم أن بن جلون رغم كل هذه الإصدارات والجوائز, لم يتوقف لحظة عن الكتابة الصحفية سواء في الجرائد الفرنسية, مثل لوموند أم الجرائد الأوروبية الأخري مثل البايس الأسبانية أو لاريبوبليكا الإيطالية وغيرهما.