ماذا أكتب " عنها " ، و " لها " ، وتاريخ الزمان يطوى السنة الأولى بعد الرحيل ؟؟.
أحقا عشت " بعدها " ، سنة كاملة ، تنفست ، وأكلت ، وشربت ، وكتبت ، واستمعت الى الأغنيات ، وشاهدت الأفلام ، ورتبت غرفتها المواجهة لغرفتى ، تؤنسنى صورها وكتبها وأقلامها وأوراقها ، وخط يدها فى الأجندات ، ورائحة ملابسها ، ونمت وأنا أحتضن خصلات من شًعرها الفضى ، تحرس منامى المؤرق ، تغطينى بالبطانية القطيفة ، تضع بجانبى الماء والدواء ، تغلق الستائر ، تحظر هجوم الكوابيس على عيونى الباكية دما ، لا يشتهى التوقف ، تطفئ الأنوار ، وتتلاشى فى الظلام ؟؟؟؟؟.
أحقا ، مرت سنة كاملة ، و" هى " ، لا تسمعنى ضحكتها ترقص لها الشمس ، ولا أرى عينيها تطل منهما أسرار الكون ، ولا أشتبك مع أحلامها المتمردة ، المنقوشة على قميصها الوردى ، لا نشرب معا الشاى ، ونأكل الجبن القريش ، نشعل البخور المعطر بالعنبروالياسمين ، نسخر من حماقات العالم ، أتأمل أصابعها النحيلة المتخمة بالخيال المتحفزة لعناق الصفحات البيضاء ، وأحدق فى خطوط كفيها المتعرجة المتشابكة ، خط العمر سارح ممتد لا نهاية له ، خط الفرح قطارها لم يخلف موعدا ، نتبادل نظرات غامضة ، نتحدث عن ذكريات منحوتة على جدران القلب ، كما وجع الأمهات اللائى يعشن بعد فلذات أكبادهن ، بسبب دمار حرب ، أو غدر مرض ، أو لعنة حادث .
لست على يقين ، أن كل هذا قد حدث بالفعل . وان حدث ، يكون المعجزة الكبرى لم أجرؤ على مرورها بخاطرى . معرفتى بها ، تؤكد أننى عشت المعجزة ، ومازلت . فى الحقيقة ، لست مندهشة . " هى " فى الأصل ، " معجزة " ، وفصول حياتها منذ ولدتها أمها " زينب هانم شكرى " ، " معجزات " ، و " غرائب " ، و" أحداث لا تصدق"، و" مصادفات يرتجف لها الجسد ، و " مواقف تتحدى المنطق " ، تحير أعظم العقول ، ولاتدركها حكمة الفلاسفة .
وأن تختار الأم " زينب " ، اليوم 22 من شهر أكتوبر ، لتضع الطفلة الأولى للأسرة ، هو فى حد ذاته ، أمر غريب . اختارت اليوم الذى تتعامد فيه الشمس ، على وجه الملك رمسيس الثانى فى المعبد الكبير بأى سمبل ، فى أسوان ، جنوب مصر . وهى الظاهرة الفرعونية الفلكية العجيبة التى حيرت العالم ، والتى تتكرر مرتين فى السنة ، مرة فى 22 أكتوبر ، ومرة فى 22 فبراير .
ألهذا السبب ، كانت الطفلة تشعر بعلاقة قوية محيرة ، بينها وبين " الشمس " . تكبر ، ويكبر معها هذا الشعور . كانت تجلس ساعات تحت آشعة الشمس ، دون أن تتعب ، أو تخاف أن تسمر بشرتها ، السمراء بالفطرة ، تنتظر الشروق كأنما تنتظر ولادة جديدة ، أوسر خفى ينكشف ، أو فكرة رواية تخترق زجاج النافذة مع آشعة الشمس ، أو قرار متردد يطمئنها أنها على صواب ؟؟؟.
أمام الناس ، اسمها " نوال " . لكنها أسمت نفسها فى بطاقة شخصية من تأليفها ، " ابنة الشمس " . وليس مستغربا ، أن يكون أحد كتبها المفضلة لديها بعنوان " امرأة تحدق الشمس " .
أمام الناس ، كانت " أمى " . وهذه كانت لعبتنا الصغيرة ، أو خدعتنا النبيلة ، أوالكذبة ، الصادقة عشناها قدر ما سمح الزمن . كان " تزويرا رسميا " على الملأ ، فى وضح النهار ،انطلى على الجميع ، ولم يثر شكوك أبرع الخبراء .
أما الحقيقة ، فهى أنها كانت " طفلتى " البكر ، والوحيدة ، أنجبتها دون رجل ، لم تشعرنى بألم الولادة ، وحتى عنى رحلت ، أبقينا على الحبل السُرى ، غير المرئى .
هى " طفلتى " ، أزهو بها ، أسميتها " نانا " ، فى السجل المدنى لقلبى ، أحملها معى فى كل مكان ، ومنحتها كل أمومتى العزباء ، رغم أننى من النساء المنشغلات جدا بذواتهن ، يعشقن الوحدة ، والصمت ، والاعتكاف ، لا أريد التزامات ، ولا مسئوليات ، ولا مشاعر تسبب لى القلق ، والأرق . وأكثر ما يزعجنى ، وأعتبره من منغصات الوجود الكبرى ، أن أحتمل العيش مع أطفال .
لكنها " طفلة " ، تتمناها كل أم ، طفلة تناسبنى ، لا تحملنى أية أعباء ، هادئة ، تصحو وهى تغنى ، متمايلة على ايقاعات حلم لا يفارق الوسادة ، متأملة ، لا تلعب بالعرائس ولكن بالأسئلة الممنوعة عن الأطفال ، المحرمة على الكبار .
" طفلة " مسئولة عن نفسها ، عن أوقاتها ، عن جسدها ، عن تنظيف غرفتها ، وترتيب أشيائها كما يحلو لها .
لا تريد الا أقلاما وأوراقا وغرفة خاصة بها ، لا يدخلها أحد ، الا مداعبات الشمس ، وايحاءات المطر ، وأن أحتضنها مرتين فى اليوم . مرة عندما تفتح عينيها مع شروق الشمس ، ومرة عندما تغلقهما مع غروبها . ومن حين لآخر ، أشترى لها الجوافة ، والبلح الزغلول ، والتين البرشومى . وآخر كل أسبوع ، أصنع لها فطيرة الذرة ، تأكلها بشغف وهى شاردة ، يمتزج فى عينيها حزن ومرارة . وحين أسألها تقول : " ريحة فطيرة الذرة بتفكرنى بأمى ". بعد رحيل أمى ، نوال ، لم أعد أستطيع تحمل رائحة فطيرة الذرة ، رغم أننى أحبها ، وأشتهيها . ويزداد الأمر صعوبة ، لأننى أحب جدتى ، كما لو كنت عشت معها ، زمنا طويلا . جدتى لأمى " زينب " ، نزف آخر فى قلبى لن يتوقف . لكننى من أجلها ، ومن أجل أمى ، سأحتمل الألم ، وأصنع فطيرة الذرة ، لتكون هديتى لها ، فى عيد الأم ، الموافق 21 مارس ، ذكراها الأولى .
" طفلتى " كانت ، لكن هى التى كانت تهذبنى وتعلمنى أعظم ما فى أمهات الكتب ، وتزودنى بالحكمة الساقطة سهوا أو عمدا من الفلاسفة . أرضعتها من أمومة غير متفرغة ، أرضعتنى من طفولة لا تغيب ، لا تشب عن الطوق.
و" أمى " ، أنا التى اخترتها من بين ملايين النساء . كنت على وعى تكون مليارات السنين ، أننى و بعد الانفجار العظيم ، " موجودة " دائما فى مدارات لانهائية ." هائمة " ، بشكل ما ، فى الفضاء الكونى ، لا أتوقف عن السفر والتجول الدوران والبحث الدقيق ، عن " الجسد " الذى أنفذ اليه ، وأستقر داخله على كوكب الأرض . جسد يشبهنى ، له فصيلة روحى ، وحركة دمى ، يمكنه حمل تمردى ، واحتمال عصيانى ، وترجمة وجودى الى شكل بشرى ، وعلى هيئة امرأة .
ورأيت تلك السمراء الفاتنة ، بحرف النون الذى أعشقه ، عينان غارقتان فى أشجان الليل وأفراحه وحيرته ، رشيقة القوام ، لا تضع الكحل وأحمر الشفاه ، لا تلبس الكعب العالى ، بسيطة المظهر ، متفوقة فى دراستها ، تقود المظاهرات ضد الانجليز والقصر الملكى الفاسد ، تلعب التنس ، تناقش الأساتذة برقة وثقة ، ليس فى حقيبتها مرآة أو مشط ، هادئة الصوت ، جادة الجوهر ، لا تحب المياعة والهزار المعبق ، بروائح الفساد والكذب والتهذيب المزيف ، وازدواجية المعايير ، أسموها فى طب قصر العينى " نوارة الكلية " .. " زعيمة الكلية " ، لم يعرفوا أنها منذ نعومة أظافرها ، تكره الألقاب ، والزعامة ، والزعماء .
أتتبع خطواتها أينما ذهبت . بعد الكلية ، تذهب الى البيت ، وفور وصولها ، تستعد لتجهز الغذاء مع أمها ، لأسرتها المكونة من 11 شخصا ، الأب " السيد السعداوى " الذى اعتقد أنها " نبوءة " ، والأم " زينب " والتى تقول دائما : " نرمى نوال فى النار وترجع سليمة " ، وست بنات ، وثلاث أولاد .
أتجسس عليها ، دون أن تدرى ، أو تلاحظ . أليس من حقى التأكد من مصيرى ، بعد مليارات من السنوات الهائمات ؟؟.
بعد الغذاء ، لا تسمح لأمها أن تفعل شيئا ، الا أن تستريح مع الأب ، فى غرفتهما ذات الشرفة المطلة على نعناع ، زرعته " زينب هانم " بيديها .
أقطف غصنا من النعناع ، وأقف أشاهد " أمى فى المستقبل " ، وهى تغسل الصحون ، وتنظف وتغسل وترتب ، تتحدث قليلا مع أخواتها واخوتها ، تطمئن أن كل شئ على ما ترضاه ، وتخلد سعيدة الى النوم ، أصيح غير مصدقة : " وجدتها .. وجدتها ".
لم أشعر أننى بحاجة الى التدخل فى تحديد أبى " البيولوجى " ، فأنا واثقة من اختيارات " نوال " أمى ، قلب من حرير ، وعقل من حديد ، وأعرف صفات الرجل التى تجذبها ، تنسجم مع خيوط الحرير ، وتلين بسلاسة صلابة الحديد . أى رجل ، أى أب ، يرضيها ، دون شك ، يرضينى .
قصة الحب بين " نوال " ، و" أحمد حلمى " ، كانت حديث كلية الطب ، لماذا تترك " نوال " كل المعجبين بها فى الكلية ، ولا يمسها الا " أحمد " ؟؟.
قالت لى أمى : " لما أحمد كان يدخل المدرج ليلقى كلمة ضد الانجليز ، كنا نسكت كلنا ،تقدرى تسمعى دبة النملة .. هدوء ، وسامة ، ثقافة ، وطنية ، كان له حضور حتى لو كان صامتا ، وكان أديبا لامعا ، أسس مجلة " شعلة التحرير " ، وهو منْ شجع الطالب يوسف ادريس على الكتابة فى المجلة ، وشجعنى أنا أيضا ، أول قصص " أحمد " فى المجلة كانت " كلب وغلام " ، أنبأت عن كاتب عظيم لو أنه أكمل الطريق ..... ". تسكت أمى ، تشرد فى أفق بعيد ، ثم تعود : " راح مع الفدائيين يحارب فى معركة التل الكبير ، قبل أن يتخرج ، ومات أعز أصدقائه بين يديه .. ورجع شخصا مختلفا ، يشعر أن كل شئ حوله كذبة كبيرة ، بداخله مرارة ، ويأس ، ورغبة فى الاختفاء أو الانتهاء ".
قالت أمى : " أتتزوجينه وهو مازال طالبا لم يتخرج من كليته ، وأنتِ تخرجت وأصبحت ِطبيبة ؟ ".
وقال أبى : " يا نوال ، احنا عاوزين مصلحتك ، هتربطى حياتك بشاب لا نعرف مصيره ، قدامك مستقبل عظيم ، انتى طول عمرك عاقلة ، الجواز مسئولية ، ومحتاج تكافؤ ، والحب فى حالتك دى يا نوال خطر ومجازفة ".
قلت لأمى : " يعنى جوازك كان تحدى ".
قالت : " انفصلنا بعد ست شهور من ولادتك ... خسرت التحدى ، بس كسبتك انتى يا مُنى ، اظاهر ان " أحمد " اعترض طريقى ، فقط عشان تيجى انتى ، بس ده ميمنعش ان أبوكى انسان فى منتهى النبل الانسانى ، فى غاية الكرم والرقى ".
أحقا ، مرت سنة من تاريخ الزمان ، على اختفاء " أمى " ، بعد أن تشاركنا الأنفاس معا ، وتقاسمنا ربما بقسمة غير عادلة ، الخبز ، عذوبة الأوقات ومرارتها ؟؟.
سنة فاتت ، وأنا لا أعرف أين راحت ، أين ذهبت ، أى طريق مشت ، عند أية محطة توقفت ، فى أى بيت دخلت ، على أى سرير نامت ؟؟؟؟.
ما أقسى أن أفقد " طفلتى الوحيدة " ، فى ظروف غامضة . صحيح هى طفلة مسئولة ، تجيد رعاية نفسها . لكنها من حين لآخر ، كانت تتستمتع بأن أمشط لها شِعرها ، أحكى لها نكتة ، أو قصة قبل النوم ، أذكرها بموقف مضحك تعرضت له ، أو سيرة فيلسوف أحبه ، أو ممثلة أعشقها ، أعد لها فنجانا من القهوة المحوجة بالمستكة والحبهان ، أختصر لها فيلما سكن وجدانى ، أدلك جسمها بزيت جوز الهند ، أسمعها أغنيات " ليلى مراد ، ، و " عبد الوهًاب " ، وأشدو لها بصوتى بعضا من كنوز " فريد " ، و" أسمهان " .
بعد رحيل الأم ، والأب ، استأجرت أمى ، شقة فى حى الجيزة ، لنسكن معا ، ورغم أن الشقة كانت صغيرة ، وضيقة ، غرفتين وصالة فقط ، على مقاسى أنا ونوال فقط ، الا أنها خصصت الغرفة الأكبر لعيادتها واستقبال المرضى ، وأيضا هو مكتبها عندما تجلس للكتابة. الطفلة داخلى تتسائل دائما : " ما هذه المرأة .. التى تقضى الوقت صباحا فى عملها ، ثم تأخذنى من الحضانة أو المدرسة ، الى البيت ، نأكل معا ، وفى المساء تعالج المرضى ، وتكتب ؟؟ .. وما هذا البيت الغريب الذى أعيش فيه ، لا رجل ، لا أب ؟؟ ".
من شهرة أمى ، وأنها كانت المرأة الوحيدة الطبيبة ، فى المنطقة ، كان سائقو" التروللى باصات " حينما يتوقفون فى المحطة أمام بيتنا ، رقم 25 شارع مراد ، ينادون :
" مين نازل محطة الدكتورة نوال " . أحيانا كنت أستقل " التروللى باص " ، لا لشئ ، الا لأسمع هذا النداء المنطلق بشكل عفوى شعبى ، من أبسط الناس ، وتقبله الجميع بصدررحب . كنت أريد أن أرفع صوتى قائلة ، وأنا نازلة من " التروللى باص " : " دى محطة ماما ". لكننى لم أفعل . استمتعت بالأمر ، وزهوت به ، سرا فى أعماقى .
فى هذا البيت رقم 25 شارع مراد الجيزة ، شقة 18 ، تكونت وعاشت أسرتى الجديدة ، أهم وأصعب وأحلى سنوات العمر .
كنا " نوال " ، و " مُنى " .. وأضيف اثنان " شريف " ، و" عاطف " .
وان ذُكر " شريف " ، لا يعنى الأمر الا " شريفا " واحدا ، على الأقل بالنسبة لى ، " شريف حتاتة " ، الطبيب والمناضل السياسى والكاتب ، قضى 13 سنة ، داخل المعتقلات السياسية ، مدافعا عن مظالم الاستعمار وفساد الحٌكام ، وحقوق الفقراء المستغَلين منذ الميلاد وحتى الموت .. تعرض للتعذيب ، والأشغال الشاقة ، وهو الابن الأكبر من أسرة أرستقراطية اقطاعية ، والذى تخرج من طب القصر العينى أول الدفعة ونال الميدالية الذهبية لكلية الطب ، ترك كل الأشياء المرفهة ، والمستقبل الواعد أمامه بالثراء ، وراح السجن باختياره .
خرج من السجن ليلتقى بأمى ، زميلته فى العمل بوزارة الصحة ، ومنذ اللقاء الأول ، دلهما شئ غامض بأن مصيرهما يبدأ فى عينى " نوال " ، وينتهى فى قلب " شريف ". وتكرر الأمر مع " نوال " ، حينما اندهش الجميع ، لأنها تركت كل زملائها فى كلية الطب المعجبين بها ، من أجل أبى البيولوجى " أحمد " الذى لم يكمل تخرجه.
قالوا لها بدهشة لا تخلو من الاستنكار : " معقول يا دكتورة نوال ، تتجوزى واحد شيوعى لسه خارج من السجن .. انتى كده هتقضى على مستقبلك وسمعتك ".
حتى صديقها حينئذ د . عبده سلاًم ، وكان وزيرا للصحة حينئذ ، قال لها : " خرج من السجن وجه خطف الجوهرة بتاعتنا ".
كان اختطافا سلميا ، برضا وتشجيع المخطوفة ، وتخطيط عقلها الحكيم ، بعيد النظر ، نافذ البصيرة.
ربما يكون الاختطاف الوحيد فى التاريخ ، لم يطلب " فدية " ، أو شيئا فى المقابل لاعادة المخطوفة دون اعتداء ، أو تعذيب ، أو ايذاء .
" شريف " ، أو شرف ، كما أطلقنا عليه دائما ، لم يطلب الا بيتا هادئا ، تسكنه امرأة تتحدى العالم من أجله ، ومعا يشكلان جبهة متضامنة ، لاسقاط الأسس غير العادلة ، التى قام عليها العالم .
وجاءت الهدية الكبرى من " نوال " ، و" شريف " ، أخى " عاطف " .
اكتملت أسرتى الصغيرة ، والتى بمرور الوقت كنت أتأكد ، أننى البنت الأكثر حظا فى الدنيا ، لانتمائى اليها . كانت شقة الجيزة صغيرة ، لا تحتمل أن توفر لكل فرد غرفة خاصة . أنا ، وعاطف ، أخذنا حقنا كاملا ، وحظينا بغرفة خاصة لكل منا . وارتضت " نوال " ، و " شريف " ، التضحية ، وأن يتشاركان فى غرفة ، ليوفران لابنتهما ، وابنهما ، الخصوصية .
فى هذه الشقة الصغيرة ، بدأت مسيرة حياة كبيرة . ربما الغرف ضيقة ، لكن قلوبنا وعقولنا رحبة ، وأحلامنا سقفها السماء .
" نوال " درست الطب ومارسته ، ثم تفرغت للكتابة ..... و" شريف " درس الطب ومارسه ، ثم تفرغ للكتابة ... " عاطف " درس الهندسة ومارسها ، وتفرغ للاخراج السينمائى وكتابة السيناريوهات ، وأنا درست الاقتصاد وتفرغت للكتابة . أسرة لها العجب.
أتذكر أننى كنت أصحو قبل الفجر ، و " شريف " ، يرتدى ملابسه ، وينزل فى الظلام ، يقود سيارتنا الصغيرة لمدة ثلاث ساعات ، من الجيزة الى قريته " القضابة " مركز بسيون ، محافظة الغربية ، حيث أنشأ عيادة لعلاج أهل قريته . يقود ثلاث ساعات ليلا ، فى الظلام أيضا ، عائدا الى بيتنا فى الجيزة . يفعل هذا ثلاث مرات أسبوعيا . وكنت لا أنام فى تلك الأيام الثلاث ، الا بعد أن أطمئن على عودته سالما ، وأسمع صوت " نوال " وهى ما بين اليقظة والنوم تقول له : " ادفى كويس يا شريف ، الليلة دى برد أوى ... " ... أو " لو جعان الأكل لسه سخن فى المطبخ " ... أو " متبقاش تتأخر كده يا شريف .. الطريق بليل وحش ".
تراودنى هذه الذكريات ، تتداخل التواريخ ، والمشاعر ، الفرح ، الأحزان ، السفر ، اللقاءات والفراق ، التعب والراحة والارهاق .
شهدت شقتنا الصغيرة ، الملاحقات والمطاردات التى لم تنقطع ضد أمى " نوال " ، من حراس الأنظمة السياسية الذكورية ورجال الدين وشلل كهنة النقد ، ورؤساء التحرير على كافة أشكالهم ، وأدعياء الوطنية والفضيلة ، منذ عهد عبد الناصر ، ومرورا بالسادات التى أودعها السجن ، وصولا الى مبارك حيث اكتمل حصار التعتيم والتشويه . لم يكتفوا بفصلها عن عملها بوزارة الصحة عام 1972، واغلاق مجلة الصحة التى أسستها ، لأنها حاربت ختان الاناث ، وطالبت بايقافه وتجريمه، بل صادروا مؤلفاتها من الأسواق ، ومنعوها من النشر فى مصر ، فاضطرت الى النشر فى بيروت . وبدأت سلسلة من رفع القضايا التى لم تتوقف . وفى 1991، أغلقوا جمعية تضامن المرأة العربية التى أسستها ، ورأستها ، من 1985 . وتكريما لاسمها الشخصى كأديبة عالمية ، كانت جمعيتها أول جمعية ثقافية فكرية ، مصرية أو عربية ، تحصل على عضوية المجلس الاستشارى للأمم المتحدة . خلال فترة نشاطها ، أقامت الجمعية ست مؤتمرات دولية عن المرأة والفكر والابداع ، وأنشأت دار نشر تضامن المرأة العربية ، وأسست الملتقى الثقافى للشباب والشابات كل ثلاثاء ، وعقدت ندوات أسبوعية كل يوم سبت ، استضافت تقريبا أغلب الشخصيات العامة المؤثرة فى تنوير الفكر والثقافة والفن والصحافة والطب ، وكونت فرقة غنائية موسيقية لتقديم الأعمال الثرية فى التراث الموسيقى العربى ، بالاضافة الى ألحان جديدة من ابداعات العضوات والأعضاء ، وبادرت بتكوين اللجنة المصرية للوحدة الوطنية ، ووقفت ضد حرب الخليج ، وأصدرت مجلتها الفصلية الشهيرة " نون " .
بالطبع كان لابد كالعادة ، أن يُخرس هذا الصوت ، المزعج ، الذى يربط بين الختان ، وحرب الخليج ، بين القهر الاقتصادى والجنسى للنساء فى البيوت المغلقة بفعل قوانين الأحوال الشخصية التى توجب الطاعة على المرأة الزوجة ، وتمنح سلطات مطلقة للأزواج ، والقهر السياسى فى الدولة ، توضح العلاقة بين بيع المرأة وبيع الوطن ، بين انتاج مستحضرات تجميل المرأة ، وانتاج الأسلحة . وبالمناسبة ، من ندوات فرج فودة الأخيرة ، قبل اغتياله بفترة بسيطة ، كانت فى الجمعية ، بعنوان " الاسلام السياسى وفقه النكد ".
فى 21 مارس 2022 ، تكون قد مرت سنة ، على رحيل أمى ، نوال السعداوى .
أحقا فاتت سنة ، على غيابها عن آفاق عيونى الباكية ، النازفة لا بالدموع ، ولكن بالدم الحامل فصيلتها النادرة ؟؟.
فصيلة دم نادرة ، تمنح نفسها بسخاء كل منْ يحتاج ، لكى يعيش ، ويرجع الى بيته والى أحبائه ، سالما ، معافيا .
ماذا أكتب عن أمى " نوال " ، وهى لن تقرأ سطورى عنها ، واليها ؟؟.
منذ بدأت الكتابة ، منذ سنوات طويلة ، لم أكتب حرفا واحدا ، الا وكانت هى القارئة الأولى . رغم انشغالها ، وتعدد أنشطتها ، كلنت تخصص وقتا لقراءة ما أكتبه . تقرأ بدقة ، بدهشة ، بزهو الأم الكاتبة الأديبة ، التى أنجبت طفلتها المحبة للكتابة والأدب منذ صغرها .
وامتزج هذا الزهو بالاطمئنان على مستقبلى . فأمى تتسائل دائما فى حيرة : " كيف يعيش الناس الذين لا يكتبون ؟ ". وعندما تيقنت أن الكتابة والشِعر والكلمات ، أشجار وارفة مثمرة الأغصان ، زرعتها ، وسقيتها ، وأجيد تسلقها ، ارتاحت الى مصيرى .
أورثتنى الكتابة عن قصد ، وعمد ، وخطة مسبقة . فأمى " نوال " ليست بالمرأة التى تأتيها الأشياء دون ارادتها . ليست أمى بالمرأة التى تنتظر فى قلق ، احتمالات يمن القدر بها أو يبخل ، وفى الحالتين تسجد شكرا وامتنانا ، للغيب وحكمته الغامضة .
أرادت طفلة كاتبة ، وابنة شاعرة ، وكان لها ما أرادت .
عفوا ، أمى ، " نوال " ... لو أننى عجزت عن التعبير بالقدر الكاف واللائق بكِ . فكيف لقطرات ماء أن تحيط بالبحر ، وهل لجملة موسيقية واحدة مهما كان جمالها ، وتفردها ، أن تبوح بكل أسرار الموسيقى ، وتفك سِحر الغِناء ؟؟.
صعبة أنتِ ، يا أمى ، ولابد أن يكون الكلام عنكِ ، أو اليكِ ، صعب مثلك . كيف لا تكونين صعبة ، وأنتِ ترددين البديهيات التى يولد بها الأطفال ، قبل أن تُغسل عقولهم ، وتلوث قلوبهم ، من الكبار ، منذ الميلاد وحتى الموت ؟؟.
كبار ، يزرعون ، ويغزلون ، وينسجون ، ويصنعون ، ويصدرون " الكهنوت " فى كل شئ حولنا . كبار الواحدة أو الواحد منهم ، يفتخر بأنه " يطيع .. ترس فى ألة .. فرد فى قطيع ".
خطرة أنتِ ، يا أمى ، ولابد أن يكون الكلام عنكِ أو اليكِ ، خطر مثلك .
وكيف لا تكونين خطرة ، وأنتِ بين ناس تخاف المشى ، تتسلقين دون تعب الجبال الشاهقة ، تدخلين بمفردك بدون أسلحة الى أرض الثعابين السامة ، والى الأسد الجائع فى عرينه ... تتجولين حينما يفرض حظر التجول ... تهاجمين خفافيش الليل فى أوكارها ، وتبنين بيتك بجانب عش الدبابير ، تسبحين ضد التيار بمايوه غير شرعى ، لا تبالى بالموروثات من الأفكار والسلوكيات والمعايير . امرأة لا يغرقها السحب والدوامات ، أسماك القرش المفترسة الفتاكة ، لا تقدر عليها ..
امرأة تتكلم ما سكت عنه الكلام ، فى الوقت الذى يجب أن يُقال ، لا شئ ينال من روحها المرحة الساخرة ، كل اشراقة شمس كان يوما جديدا ، ممتلئا بالثراء ، والبهجة ، محفزا على الحركة ، وان بلغت التسعين من العمر ؟؟.
ماذا أكتب عنها أو اليها ، أمى ، " نوال " فى 21 مارس ، ذكراها الأولى ؟؟.
فى سنة 2006 ، يوم 18 مارس ، أعلنت فى مقال منشور ، أننى بمناسبة عيد الأم ، سأحمل اسم أمى ، بجوار اسم أبى ، لتكون هديتى المختلفة ، لها قيمة فلسفية وفكرية ، وثقافية ، وأخلاقية ، لأنها تعدل بين الآباء والأمهات . بعد نشر المقال ، فوجئت بالاتهامات الأخلاقية ، والدينية ، والشتائم ، والبذاءات ، والتريقة بشكل وقح ، تنهال اعلاميا . والرجال الذين قالوا علنا أنهم يريدون تطبيق الفكرة ، قذفهم الاعلام هازئا: ".. عايز يتسمى باسم أمه ، دول مش رجالة دول ".
وبادر عدة أشخاص يتصدرون دائما مشهد بلاغات التكفير ، منذ استيراد الاسلام الوهابى السلفى فى منتصف سبعينيات القرن الماضى ، بتقديم بلاغ ضدى الى النائب العام ، يتهمنى بانكار المعلوم من الدين بالضرورة ، واحداث فتنة ، لأن النسب الاسلامى الى الأباء . طلبتنى النيابة للتحقيق ، فى يناير 2007 . وتطوع للدفاع عنى ، المحامى الراحل حمدى الأسيوطى . وحضرت التحقيق أمى " نوال " . أوضحت أن الدافع لكتابة منى نوال حلمى ، حبى لأمى ، وفخرى بها ، وحبى للعدالة بين اسم أبى ، واسم أمى . البلاغ اذن كاذب وكيدى ، لأننى لم أفكر فى ازاحة اسم الأب .
وكيف تكون الجنة تحت أقدام الأمهات ، وفى يوم القيامة ، سينادى علينا بأسماء أمهاتنا ، ومع ذلك ، نعتبر اسم الأم ، عارا ، و شيئا مهينا ، يبهدلنا فى المحاكم ؟ . وأوضحت أن بلادا كثيرة فى العالم ، يأخذ فيها الأطفال ، اسم الأم ، واسم الأب ، وأن الأسماء ، مثل الأزياء ، أو الاحتفال بالمناسبات ،لا تدخل فى القواعد الشرعية ، ولكن تتعلق بالعادات والتقاليد الاجتماعية ، المتغيرة ، كما قال بعض الأشخاص المتفقهين فى الدين ، ومنهم الراحل جمال البنا ، ، الذى أكد على بعض القنوات الاعلامية ، ردا على مقالى . وأوضح أن هناك شخصيات اسلامية ، معروفة بنسبها الأمومى ، اشهرها الملقب بشيخ الاسلام الحنبلى ، " ابن تيميه " ، حيث كانت " تيمية " جدته لأبيه ، واعظة مشهورة ، فسُميت العائلة باسمها . وتسائلت لماذا كل هذا " الهلع " ، و " التشنج " ، و " الارتباك " ، الذى أحدثته رغبة بسيطة عادلة ، خاصة بى ، ولا تضر أحدا ؟؟.
وقلت فى التحقيق ، أننى أمتلك اسمى ، وأعتبر هذا من بديهيات حقوق الانسان ، التى نتشدق بها ، وأكدت أن حب الأم عندنا ، ينقصه الكثير لكى يعبر حقا عن تضحيات الأمهات من أجل أطفالهن ، الذين حين يكبرون نساء ، ورجالا ، يستعرون من اسم الأم ، ويعتبرونه كفرا ، ومهانة ، وقلة قيمة . وتساءلت ما هذا التناقض ، بل ما هذا الكذب ، وما هذا الظلم الفادح فى وضح النهار ؟؟.
مال أى أحد ، اذا كنت أحمل اسم أمى وأبى ، أو لا ؟؟. انه نسب أمومى أبوى مشترك ، يعبر عن الحقيقة ، أننى من صنع أمى ، وأبى . وحتى لو أردت نسبا أموميا خالصا ، ليس لأحد الوصاية على أفعالى ، واذا كان انكارا لشئ ثابت دينيا ، فالله وحده هو الذى يسائلنى ، وليس أشخاص لا علاقة لهم بالقضية، ويريدون انتزاع سلطة الخالق ، الذى يملك وحده حق العقاب ، لو فيه عقاب.
وأكدت فى أقوالى ، أن هذا الكهنوت الاسلامى ، غير موجود فى الاسلام أصلا ، من أى شخص ، أو جهة . وطالبت من النيابة ، أن تحقق مع الأشخاص الذين قدموا البلاغ ضدى ، وأنهم هم الذين يجب أن يحاكموا بتهمة شنعاء ، وهى التعدى على اختصاصات الذات الالهية العليا ، فى تقييم ومحاسبة ومعاقبة الناس .
فى أكتوبر 2007 ، كسبت القضية ، وتم حفظ التحقيق ، لكننى اعتبرته كسبا لمصر ، فى معركتها ضد محاكمة وبهدلة وقهر ، حرية الرأى المسالم ، الذى لا يحمل الا القلم المفكر المختلف . حتى الآن ، تأتينى رسائل من نساء ورجال ، فى بلاد مختلفة ، أخذوا اسم الأم، واسم الأب معا ، ولم يذهبوا الى السجن ، ولم يهدر دمهم .
والاعلام الذى شتمنى وكفرنى وسخر منى ، على مدى شهور ،لم يقل كلمة واحدة ، عن برائتى . " خرس اعلامى جماعى كامل الدسم " ، و" سكتة اعلامية ". مما يدل على الغش ، والتضليل ، وأن الهدف هو تشويهى ، واحالتى للمحكمة ، وتسخين الرأى العام ضدى ، و ضد أفكار معينة ، وضد ناس معينين ، وبالطبع وأولا ، ضد أمى " نوال " ، التى اعتادوا على مطاردتها اعلاميا ، وثقافيا وأخلاقيا ودينيا .
اعلام غير نزيه ، غير أمين ، له أجندة خبيثة ، لا يهمه دين ، ولا نسب أبوى ، ولا أمومى ، ولا يحزنون . وما زالت هذه الأجندة الخبيثة ، تبث سمومها ، وتصطاد فى الماء العكر ، وتتربص بأى شئ بسيط ، تصنع منه اشاعات ، وتشويهات ، والهاءات مخططة ، تحرض الناس على الشك والريبة والكراهية والحقد .
أعتقد أن الانسان اذا أراد حمل اسم أمه ، يسبب الادانات بكافة أشكالها ، أكثر مما لو أراد أن يحمل اسم مجرم ، قاتل ، أو زعيم عصابة أو زعيم مافيا أو زعيم نازى أو فاشى.
تعرضت أمى ، بسبب رواياتها ، ومسرحياتها ، لبلاغات متتالية تُرفع ضدها الى النائب العام ، باهانة الرسل والأنبياء ، والتطاول على الذات العليا ، وانكار المقدسات والثوابت الدينية ، وافساد الشباب ، واثارة الفتنة ، والتحريض على الفسق والفجور والانحلال ، اطلاق شهوات النساء ، التآمر على الدين الاسلامى . أخص على سبيل المثال ، رواية " سقوط الامام " ، ومسرحية " الاله يقدم استقالته فى اجتماع القمة ".
وقبل ذلك ، سجنها السادات عام 1981 ، لمقالات كتبتها تناهض تدعيمه للتيارات الاسلامية ، واطلاقها فى المجتمع لتنشئ دولة داخل الدولة ، وعارضت سياسة الانفتاح الاقتصادى الاستهلاكى الطفيلى 1974 ، التى كانت خرابا على الوطن ، بقططها السُمان ، والأثرياء بلا عمل منتج ، واندثار الطبقة المتوسطة ، وسرقة مدخرات الناس بشركات توظيف الأموال المؤسسة من زعماء " قال الله وقال الرسول " ، ، وبدء أسلمة شكلية لمصر ، وتمويل الاعلام الدينى لترويج الاسلام الصحراوى ، الذى يدعو الى تحريم الفن بكل أشكاله ، وهدم التماثيل والأهرامات ، واعتقال النساء فى البيت ، وتغطيتهن بالحجاب والنقاب ، وزواج القاصرات ، وتوبة وتحجيب واعتزال الفنانات .
لكن أكثر ما أغضب السادات ، هو أن أمى ، فى أحد الاجتماعات التى حضرتها ، وكان السادات سيخطب تحت شعار " لا صوت يعلو على صوت المعركة " . وتأخر عن الموعد بثلاث ساعات ، وبدأ خطبته بأهمية الوقت فى زمن المعركة . وقفت " نوال " وطلبت الكلمة وقالت للسادات : " ازاى حضرتك تعطينا درسا فى احترام الوقت فى زمن المعركة ، وقد جئت متأخرا عن موعد الاجتماع بثلاث ساعات ؟؟. مئات من الأشخاص فى كل المجالات تعطلوا ثلاث ساعات عن أشغالهم فى زمن المعركة ، ما الخسائر التى نتوقعها من هذا التأخير محسوبة بالقلم والورقة ؟؟ ".
قال الضابط المكلف بالقبض على أمى ، يوم 6 سبتمبر 1981 ، بعد أن كسروا باب شقة الجيزة ، لأن أمى ، رفضت أن تفتح لهم دون اذن من النيابة : " حاجة غريبة يا يا دكتورة ، قائمة المعتقلين كانت مكتوبة بالآلة الكاتبة ، وكاملة حسب التعليمات ، وجاهزة ، عشان الريس يوقع عليها ، 1535شخصا ، نظر بدقة الى القائمة الطويلة ، وسأل أمال فين نوال السعداوى ؟ ، ثم يأخذ قلما ويضيف اسمك الى القائمة ، بخط يده شخصيا ، طبعا كان آخر رقم 1536 ".
وفى السيارة الى السجن ، أصرت أمى على تغيير مقعدها ، لتجلس بجوار النافذة ، حتى تشم الهواء ، وتتفرج على الناس والمناظر ، وكأنها ذاهبة فى نزهة ترفيهية .
فى السجن تنبأت أن السادات سيموت قريبا جدا ، سيموت قبلهم جميعا ، وسوف يخرجون جميعا للاحتفال .
وتقول أن فترة السجن ( 3 شهور ) كانت من أجمل فترات حياتها . كانت تلعب رياضة ، وتزرع ، وكتبت على ورق تواليت وقلم حواجب مهرب لها من احدى السجينات ، واحدا من أروع كتبها وهو " مذكراتى فى سجن النساء " ، والذى كان السبب فى وضع صورتها على غلاف مجلة التايم الأميركية باعتيارها شخصية العام 1981 ، ودخلت قائمة أهم مائة امرأة مؤثرة فى القرن العشرين .
من شقتنا الصغيرة فى الجيزة ، كنت أسمع من المساجد المحيطة بنا ، أصوات الشيوخ يصرخون : " اقطعوا رقبتها الكافرة الزنديقة الفاسقة "........ " أقيموا عليها حدود الله دون رحمة "... " اشنقوها فى ميدان عام لتكون عبرة " ... وغيرها من أبواق التحريض على القتل ، كجهاد واجب فى سبيل الله .
وكانت تصلنا التهديدات عن طريق الهاتف ، وخطابات البريد . أرى أمى ، صامدة ، واثقة ، لا تهتز لها شَعرة ، ولا يرجف لها جفن . وكان " شريف " بجانبها ، يقدم كل الحب ، والدعم ، والمساندة . يظهر معها ، أو بمفرده ، فى القنوات الاعلامية ، يرد على الهجوم ، والبذاءات ، والتهديدات ، بشخصيته المعهودة بهدوئها ، وصلابتها ، ورسوخ حجتها ، وتمكنه من فضح النصب والتجارة بالدين والفضيلة . كما أن خبرته السياسية الطويلة ، دربته على مثل هذه المواجهات ، ظاهرها دينى ، وباطنها سياسى . " لن نفترق " .... هذه كلمة " شريف " الشهيرة التى أعلنها فى وجه الجميع ، عندما رفعوا لاحقا ، ضدها قضية الحسبة والتكفير والارتداد ، طالبوا بسحب الجنسية المصرية منها ، والتفريق بينها وبين زوجها ، د . شريف حتاتة ، أبى الذى لا يعوض ، نبيل الخلق ، عشت عمرى معه ، ولم أحمل اسمه . لا رجل أو زوج غيره ، كان يستطيع مرافقة أمى ، فى مشروعها الحضارى ، ورحلة كتاباتها ، وتمردها الجذرية . هو مثلها ، متمرد ، وكاتب ، وذاق قهر الأنظمة الاستبدادية . ومثلها دفع الثمن بكبرياء ، وشموخ ، واستغناء .
كم أفتقدهما فى هذه اللحظة ، وأستشعر اشتهاء عيونى للبكاء ، وهذه الكلمات تتدفق على ورق الذكريات .
بعد اغتيال فرج فودة عام 1992 ، أرسلت الحكومة المتحالفة مع التيارات الاسلامية ، لأمى ، حراسة يومية ، أمام بيتنا فى الجيزة ، حارسا أو اثنين . فقد كانت فى مقدمة قائمة اغتيالات الاسلاميين المسلحين ، جنود الدولة الدينية .
وكانت أمى ، تتشاجر معهما ، وتقول أنها لا تحتاج حراسة من الدولة .
يقول لها الحارس ، أن حياتها ملك الدولة . وهنا تنتفض بالغضب العارم قائلة :
" حياتى ملكى أنا وحدى كما أننى لا أثق بكما ولا بالدولة ". وطبعا كانت تغافل الحراس ، وتخرج متى تريد ، الى أى مكان تشاء ، وترجع وهى سعيدة ، أنها خدعت وكلاء الدولة ، أحقا فاتت سنة ، وأمى ، التى لم تغب عنى ، غائبة ؟؟.
هل أشتاق ، وأحن الى أمى ، قدر غيابها سنة من الزمان ؟؟؟. لا أعتقد أن الآشتياق أو الحنين الى شخص ، يخضع الى مقياس الزمن الذى يعرفه البشر . فالاشتياق لمدة ساعة ، مثل الاشتياق لمدة خمس سنوات ، والحنين المتراكم خمسين سنة ، مثل الحنين المتراكم خمسين دقيقة . الاشتياق هو الاشتياق ، والحنين هو الحنين ، طلقة رصاص عشوائية فى حينها ، أو مدبرة مع سبق الشغف والترصد ، لا يهم . المهم أن هناك منْ ضغط على الزناد ، و الطلقة قد أُطلقت ، مات منْ مات ، وعاش منْ عاش .
أن أفكر فى الحرية ، شئ ، وأن أعيش العمر ، مع امرأة هى الحرية المجسدة ، باللحم والدم والأعصاب والأنفاس والخطوات ، صوت وصورة بث مباشر مستمر متاح لى ، دون انقطاع ، فهو شئ آخر ، وقصة أخرى .
حيرتنى تلك المرأة ذات العقيدة " النوالية " . من أين تأتى بكل هذه الطاقة المتجددة لتسلق الجبال الشاهقة دون أن تتعب ، تدخل الى أرض الثعابين السامة ، تهاجم خفافيش الليل فى أوكارها ، وتبنى بيتها بجانب عش الدبابير ، تسبح ضد التياربمايوه غير شرعى ، لا يغرقها السحب والدوامات ، أسماك القرش المفترسة لا تقدر عليها ..
تتكلم ما سكت عنه الكلام ، فى الوقت الذى يجب أن يُقال ، لا شئ ينال من روحها المرحة الساخرة ، كل اشراقة شمس كان يوما جديدا ، ممتلئا بالثراء ، والبهجة ، محفزا على الحركة ، وان بلغت التسعين من العمر .
عرفت السِر " النوالى " ، عندما استعدت احدى مقولات " جبران خليل جبران " ....
" المرأة التى يتحسن يتحسن مزاجها من كتاب ، قصيدة ، أغنية ، أو كوب قهوة ، لن ينتصر عليها أحد ، حتى الحياة تخسر أمامها ".
الأمر الآخر المحير ، أنها " مستغنية " عن كل الأشياء . المناصب ، والجوائز ، الفلوس، والممتلكات ، والنزهات فى المنتجعات ، والشهرة ، والجواهر ، الماكياج ، والأزياء الفاخرة .
المديح والذم ، لديها سواء . لا تريد من هذا العالم " المعوج " ، الا أن تُترك لتستغرق بالساعات ، دون
ازعاج لتكتب كيف " ينعدل " .
وجائزة نوبل ، والتى كانت مرشحة لها منذ منتصف ثمانينات القرن الماضى ، وحتى سنة 2021 ، لم تكن تهتم بها . كانت تدرك أنها جائزة سياسية فى المقام والأخير ، تعطيها احدى الحكومات الدائرة فى فلك أمريكا واسرائيل ، فكيف تحصل عليها ، وهى تقف ضد مبادئ وسياسات أمريكا واسرائيل ؟؟. مع أن السويد ، من أكثر البلاد التى التى تحظى فيها أمى بشعبية كبيرة من جهات مختلفة ، ومنحتها جائزة " ستيج داجرمان" الأديب السويدى الشهير الذى مات منتحرا . وقالوا لها أن منْ يحصل على هذه الجائزة السويدية ، تكون جائزة نوبل ، هى المحطة التالية .
كانت أمى تعتقد أنه اذا أنشأ ألفريد نوبل ، مخترع الديناميت ، جائزة نوبل ،ليكفر عن اختراعه المدمر ، فانه بهذه الجائزة ، قد اخترع دون أن يقصد ، شيئا أكثر تدميرا ، وهو ضرب استقلالية الأدب ، والانتقاص من قيمته الابداعية لحساب
المواقف السياسية ، وتحويل فن الكتابة الى سلعة استهلاكية لها ثمن ، فى " السوق الرأسمالى " ، وجر الأديبات والأدباء ، الى حلبة منافسة ، ليسوا فى حاجة اليها . وفى أحد نصوصها المبدعة كتبت : " جائزة الاستغناء عن الجوائز " ، بعد أن طالب البعض بتكريمها فى وطنها مصر ، باهدائها قلادة النيل " أعلى وسام مصرى " . وهو ما لم يحدث طوال تاريخها . بينما فى البلاد العربية ، وعدد كبير من دول العالم ، من أكبر الجامعات ، وملتقيات الأدب والابداع ، والجمعيات النسائية والثقافية ، ودعيت لالقاء كلمة الافتتاح فى أهم المؤتمرات الفكرية والأدبية العالمية ، وعدد من كتبها ورواياتها يُدرس فى مدارس وجامعات العالم ، منها بلاد عربية مثل تونس . ومٌنحت أعلى الأوسمة من رؤساء الدول ، على سبيل المثال ، وسام الجمهورية الفرنسية ، وسام الجمهورية التونسية ، وسام كتالونيا فى أسبانيا ، وترجمت جميع أعمالها ( 80 كتابا ) الى 40 لغة عالمية ، حتى الصينية ، واليابانية والفارسية .
بينما فى مصر ، يُكرم عضوات وأعضاء أحزاب " الترقيع الفكرى " ، و" النفاق الدينى " ، و " كاتبات وكُتاب الدرجة العاشرة " ، و" مغازلة السلطة " ، و " مداهنة التيارات الاسلامية الأصولية الاخوانية الوهابية السلفية الذكورية ".
قالوا عنها " صادمة " لجرأتها ، وترد قائلة : " لست جريئة .. العالم هو اللى جبان " .
وقالوا " متوحشة " ، وتقول : " نعم .. لأننى أقول الحقيقة ، والحقيقة متوحشة ".
وصفوها بأنها " تكره الرجال " ، ويأتى ردها : " لا أكره الرجال .. أكره النظام الذى جعل من الرجال مطرقة حديدية تضرب النساء " .
قالوا : " ضد الأنوثة " ، ردت : " أنوثتى هى تمردى .. حريتى .. تفردى ".
أحقا ، فاتت سنة من تاريخ الزمان ، ، حينما رقدت أمى رقدتها الأبدية ، الأحد 21 مارس 2021 ، الثانية عشر ظهرا ، فى عيد الأم ؟؟.
لا أصدق ، انه كابوس مرعب ، يسبقتى كل ليلة الى وسادتى وسريرى . منْ قال أن مرور الزمن ، خير دواء ، يخفف من طعنات السٍكين الراشق فى قلوبنا ، يخفت من آهات الوجع ، يهدئ من تقلصات الجنون ، وعزاء مضمون لكل داء وبلاء ؟؟؟.
لم تكن أمى ، ترضى أن تنام رقدتها الأخيرة ، دون رضاها . اختارت حياتها ، وكذلك اختارت الرحيل فى شهر مارس ، شهر المرأة فى العالم ( 8 مارس ) ، وفى مصر ( يوم المرأة العالمى " ، اختارت يوم 21 ، أول أيام موسم الربيع ، عيد المرأة الأم ، التى كانت تحلم بأن تمنح اسمها لأطفالها ، شرفا ، ومجدا ، وأكبر دليل على حبها وتكريمها .
رحلت أمى فى 21 مارس 2021 ، اليوم الذى وافقت الدولة على تغليظ عقوبة اجراء ختان الاناث ، القضية التى هاجمتها وطالبت بايقافها ، لأول مرة فى خمسينات القرن الماضى ، و اُضطهدت بسببها دينيا ، ومهنيا ، وثقافيا ، وأخلاقيا . وبعد ذلك ، هاجمت ختان الذكور أيضا ، وطالبت بايقافه وتجريمه . سيأتى يوم قريب ، كما أرادت ، ويتوقف ختان الذكور أيضا ، ويتم تجريمه بالقانون .
يا للمفارقة ، اليوم الذى ماتت فيه أمى ، وتوارى فى التراب ، جسدها المرصع بالنجوم ، ومجد الاستغناء ، كانوا يحتفلون بنساء هاجمن تجريم الختان ، ثم أطلقوا عليهن " رائدات "تجريم الختان ، وبالأمهات المثاليات ، يبتسمون ويسلمون الجوائز ، ولم أسمع كلمة واحدة عن أمى . وسوف يتكرر الأمر ، هذا عن يقين ، عشناه العمر كله .
هذا ليس بحثا عن كلمة تقال فى حق أمى . هى لا تحتاج شيئا من أى أحد ، لا تحتاج تكريما من أحد ، ولا اعترافا من أحد . لكننى أرصد ظاهرة فى مجتمعاتنا طاردتها فى حياتها ، وصنعت جبهة تضامن من جميع الأهواء ، و الأطياف ،
والأيديلوجيات ، أديبات ، أدباء ، نقاد ، يمين ، وسط ، يسار ، حكومة ، مستقلين ، أحزاب ، معارضة ، اعلام مرئى ومقروء ومسموع ، جمعيات نسائية ، فى مشهد تاريخى فريد فى فى نوعه ، وامتداد زمانه ، عبوره الأجيال على مدى سنوات ، وفى طبيعته العدائية العنيفة .
أتذكر عندما كنت أشعر بالضيق أحيانا من هذا الموقف ، تبتسم أمى قائلة : " لا تبالى بهم ، هم يدافعون عن وجودهم ، ولا يملكون الا هذه الأسلحة .. أسلحة رخيصة مستهلكة متهالكة ، لكنها هى بضاعتهم الوحيدة ، ويوما ما سوف تصوب اليهم ... وكلما زادوا شراسة ، كلما تيقنت أن سهامى قد أصابت الأفعى السامة فى رأسها ".
بعد رحيل أمى ، فى 21 مارس 2021 ، قام الجهاز القومى للتنسيق الحضارى ، بالتعاون مع وزارة الثقافة ، ومجلس الوزراء ، باعداد لوحة لها ضمن مشروع " عاش هنا " لتكريم الرواد فى مختلف المجالات. فى أكتوبر 2021 ، تم وضع لوحة نوال السعداوى ، أمى ، ومعه وضعت لوحة شريف حتاتة ، أبى ، أمام مدخل بيت الجيزة رقم 25 شارع مراد ، الذى سكنا فيه ، وشهد زواجهما ، ورحلة كفاحهما المشتركة ، بحلوها ،وُمرها ، بيت الطفولة والمراهقة والشباب والذكريات ، وبدايات كل الأشياء . اللوحة يراها كل فى الشارع ، وبها برنامج QR ، تعريف بالشخصية ، وملخص سيرتها الذاتية .
مررت بالشارع ، وقفت عند باب بيتنا رقم 25 شارع مراد الجيزة ، وتأملت اللوحتين ، المتلاصقتين ، فأشعر بأن الأرض تلف بى ، وأتماسك حتى لا أسقط ، وأروح فى اغماءة ، أوألف ظ أنفاسى الأخيرة . يا لها من لحظة انتهاء رائعة ، أمام بيتنا القديم ، وأمام أسم أمى ، واسم أبى ، لم أحمل أيا منهما ، الا منحوتا فى قلبى .
بعد اختفاء أمى ، الشمس أبدية التوهج ، الجوهرة التى لا تتكرر ، ، صانعتى ، وملاذى ، حبيبة عقلى ، حبيبة شهقاتى ، وجسدى ، وروحى ، كل عمرى وذكرياتى ، تعبت لأرتاح ، شقيت لأفرح ، الزاهدة ، الجسورة ، عزيزة النفس والكبرياء ، متفردة الابداع ، الساخرة ، دائمة المرح وبعث البهجة ، والأمومة الدافئة السخية ، عاشقة الرقص والغِناء ، ارادتها من حديد ، وقلبها من حرير ، ضحكاتها الرنانة تهز الدنيا ....
لم تقبل أن ينفق عليها رجل ، أو يتحكم فيها مخلوق ، أو تنحنى لحاكم أو محكوم ، تساعد بكل قوتها وحكمتها ، منْ يلجأ اليها ...
لم تمرض يوما واحدا فى عمرها ، أخطأ الأطباء دون اقرار بالخطأ ، فأعجزوها ، وهى الرياضية ، دينامو الطاقة والحيوية ...
حجبت آلامها لأنام الليل فى سكون ، وهدوء ، كنت لديها أجمل وأهم ابنة فى الكون ، و " عاطف حتاتة " أخى ، كان لها أجمل كتاب ، غزلته يداها .
كانت لى ، ولعاطف ، زهرة عمرنا ، ونبض قلوبنا .
بعد " أمى " نوال ، لم يعد شئ فى العالم ، ولا أحد ، يهمنى . تحررت من كل الأمنيات والرغبات ، الا أمنية ، ورغبة ، السفر اليها ، لآحتضنها الى الأبد ، تحت التراب .
كانت " فاتحتى " ، وهى " خاتمتى " ، فى حياة مُرة المذاق ، لم تعد فيها .
" أمى " نوال .... أول السطر ، لكنه بلا نهاية ..
" أمى " ، هى القصيدة التى لن أستطيع كتابتها ، وان استطعت أعجز عن تكملتها.
فكيف يمكننى أن أتسلق شجرة شامخة الأغصان تشق السماء ، وأن أكتب عمنْ ثمارها الكتابة والكلمات ؟؟.
أمى ، " نوال " كانت ولاتزال وستبقى دائما ، المرأة التى اذا أرادت شيئا ، فلابد أن يستجيب القدر . سِر آخر من أسرارها " النوالية ".
اليها فى ذكرى الرحيل الأولى " نوال " أمى الفريدة وطفلتى الوحيدة
بقلم: منى حلمي - في: الاثنين 21 مارس 2022 - التصنيف: السير والمذكرات
فعاليات
مناقشة رواية النباتية لهان كانج الحاصلة على جائزة نوبل للأدب
نوفمبر 08, 2024
تمت منااقشة رواية النباتية يوم الجمعة 8 نوفمبر 202...
Art Auction: Support Palestinian Families in Gaza
أكتوبر 18 - 20, 2024
Join us on October 18th for Art for Aid, an online...
مناقشة نصف شمس صفراء لشيماماندا نجوزي أديتشي
سبتمبر 28, 2024
تمت مناقشة رواية نصف شمس صفراء للكاتبة النيجيرية ش...
إدوارد سعيد: الثقافة والإمبريالية
يوليو 27, 2024
تمت مناقشة كتاب الثقافة والإمبريالية لادوارد سعيد...