الناقد والأديب طلعت رضوان جريدة القاهرة
الكتابة عن (الوطن) بلغة السياسة تختلف عن الكتابة بلغة فن الرواية. والروائى عندما يتناول قضية (الوطن) فكأنما يمشى داخل حقل ألغام . فهو ينجوإذا تسلح بمفردات فن الرواية ، ويفشل إذا لجأ للغة الخطابة وللشعارات وللمباشرة . وتبدوالصعوبة أكثرإذا كان الكاتب من جنسية غير جنسية الوطن الذى يتناوله فى عمله الإبداعى . وهذا ما اكتشفته عندما قرأتُ رواية (موسم الفراشات الحزين) للكاتب أسامه حبشى ، الصادرة عن دارصفصافة للنشروالتوزيع والدراسات- عام 2010، فلأنّ الرواية تتناول قضية الوطن الفلسطينى المحتل ، اعتقدتُ أنّ كاتبها فلسطينى الجنسية ، ثم كانتْ المفاجأة عندما لفتَ نظرى فى الصفحة الأولى (الخاصة بالناشروالتى لم أهتم بقراءتها فى البداية) أنّ الكاتب مصرى . وإذا كانتْ قراءتى الأولى للاستطلاع والاستمتاع ، فإنّ قراءتى الثانية ، لم تكن بهدف الكتابة النقدية فقط ، وإنما لحل معضلة المفارقة التى شغلتنى : كيف اجتاز الكاتب حقل الألغام ، فنجح فى التخلص من المباشرة والخطابة والشعارات ، وكيف (وهوالمصرى) عبّرعن هموم الشعب الفلسطينى ؟ عزف متنوع النغمات على كونشرتوالوطن : تأخذنا الرواية على لسان الراوى الذى يتذكرأنه عندما كان فى التاسعة من عمره ، كان فى ((منتصف السنة الثانية بعد الإبعاد والحرب . أقصد حرب 48 حرب النكبة كما يقولون)) (ص 11) وفى الصفحة الأولى من الرواية فى فصل (البئروالتين) قال الراوى ((كان جدى يجلس هناك.. فى مواجهة البعيد.. من ورائه المخيم ومن أمامه الغياب.. ينظروحيدًا باتجاه وطن كان لنا)) (ص7) والراوى يربط بين وجه الجد والوطن فيقول ((أغوص فى غياب حاضرأمامى.. أغوص فى جدى ومنزلنا الذى كان)) هذا الربط بين وجه الجد والوطن ، تُعمّقه الفقرة التالية مباشرة ، إذْ قال ((تفصلنى عن جدى بضع خطوات – مسافة قليلة- ولكن ما هى المسافة ؟ هل المسافة- فقط – تُقاس بالخطوات والأمتار.. أم ببعد الروح عن الجسد أيضًا ؟)) وتكون الدلالة أقوى عندما يطلب الراوى (المتمتع بعنفوان الشباب) من جده العجوزقائلا ((قم وساعدنى فى السيرإليك)) (ص8) وفى ربط آخر بين وجه الجد والوطن قال الراوى ((جدى كان والبئر شيئًا واحدًا)) (ص11) وعندما يسأل الراوى جده ((أيمكن أنْ تكون هنا بلادنا ؟)) فيكون رد الجد ((بلدتك لاتخصك وحدك.. وإنما تخص أباك ووالد أبيك وجدك وأجداد جدك.. وهكذا إلى أول النسل)) (ص14) وفى نهاية هذا اللقاء مع الجد يمشى الراوى وهويناجى نفسه ((ليل جديد فى وطن بديل.. وخيمة من حليب.. ولكن كيف الحليب دون حقل وعنز وبئر؟ )) (ص16) والكاتب يعزف على قضية (الوطن) بتنويعات تُعمق المعنى ، فإذا كان الشعب الفلسطينى يُعانى من مشكلة (التهجير) فإنّ أم الراوى تقول ((لنا ديارهناك.. وإنْ متنا فى سبيل الوصول إليها ، فذلك أكرم لنا من البقاء هنا)) (ص21) والراوى عندما يتذكربداية المأساة قال ((صرتُ أعرف ما هوالانتداب البريطانى الذى أحلّ بنا . ومن بعد أورثنا لبلد أعلن قبل الحرب أنه سيحل محلنا . وعرفتُ ما هى حدوة الحصان . ولماذا يتحدث عنها كثيرون. كانتْ الحدوة هى طريقة العدو فى محاصرة القرى. كانوا يحاصرون القرية من جميع الجهات إلاّجهة واحدة.. وبالطبع هى جهة الهروب من العذاب والتهجير)) (ص41) وإذا كان الكاتب ربط بين وجه الجد والوطن ، فإنه ربط (أيضًا) بين وجه الجد والحقل ، فيقول الراوى ((هذا الحقل مثل جدى.. لايتوانى عن تقديم المفاجآت كالشتاء.. الورد فى ممرات.. والممرات متلاصقة.. ليس هناك أشجارعالية وسط الورد أوبالممرات. عندما تتأمل الممرات بوردها ، تجد كلمة تخطربذهنك.. الكلمة مقروءة أمامك ومقصودة.. الممرات تكتب كلمة على الأرض.. أتصدق هذا؟ أيمكن أنْ يكون الزارع قد قصد هذه الكلمة ؟ ذهبتُ يمنة ويسرة.. شمالاوجنوبًا لعلّنى أتأكد أننى لا أصطنع هذه الكلمة. ولكن الكلمة هنا واضحة أمامى.. تقرأ نفسها بنفسها وتقول : وطن صغير)) (ص59) يتسق مع هذا قول الراوى ((صرتُ أحسد جدى على إصراره على الموت بجانب بئره وشجرته ووسط حقله)) (ص53). الراوى نموذج للمثقف الرافض للأحادية : اختارالكاتب لشخصية الراوى بعض الصفات النفسية والعقلية ، ولكى يُعمّق هذه الصفات أضاف إليها خاصية عضوية ، فهومحروم من نطق حرفىْ الراء واللام ، ويكون رأى الراوى على ذلك ((أعتبرأننى محظوظ لأننى لا أنطق كلمات : الحرب.. السلام.. النار)) (ص11) لعلّ هذا التمهيد (البنائى) فى رسم شخصية الراوى، كان ضروريًا للتفسيرالموضوعى عن تصرفاته ، فهويوافق على الانضمام إلى الحزب الشيوعى الفلسطينى ، بناءً على نصيحة رفيقة صباه (ساره) حتى يستطيع الكتابة فى صحف ومجلات الحزب . هذا الإنسان الذى لايستطيع نطق كلمتىْ (الحرب والسلام) ومع المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلى ، إلاّ أنه (فى نفس الوقت) يتمرد على الواقع النافى لخصوصياته ومعتقداته ، لذلك قال ((بدأتُ أذهب إلى الحزب.. أستمع.. أقرأ.. وبدأتُ أتدرب على الكتابة بجريدة الحزب.. صرتُ رفيقًا ضمن الرفاق. كتبت وكتبت وكم من الأوراق مزقتُ ؟ الكثير)) (ص49) بدا الرواى كالخلية الغريبة وسط الكيان العام لجسم الحزب ، خاصة بعد أنْ كتب عن ثورة الفلسطينيين عام 1936وأشارفيها إلى ((الجماعات التى كانت السبب فيما نحن فيه.. لم تكن وقت الانتداب بذات القوة التى هى عليها الآن.. وكانت تعمل مع الانتداب)) (ص50، 51) ويبدوأنّ الكاتب أسامه حبشى قرأ كثيرًا عن قضية الشعب الفلسطينى ، إذْ أنّ ماكتبه عن الجماعات الفلسطينية التى تعاملتْ مع الانتداب البريطانى ضد القضية الفلسطينية ، أكده المؤرخ الفلسطينى عبدالقادرياسين الذى كتب عن ثورة 1936وما تلاها قائلا ((أما الثورة المضادة ، والمتمثلة فى حزب الدفاع الوطنى ، فقد شكلتْ عصابات اجرامية أسمتها (فصائل السلام) وقامت تلك العصابات ببعض الأعمال البشعة فى أوساط الجماهير، ونسبتها للثورة بهدف تشويهها وتنفيرالجماهيرمنها . ثم بدأتْ تلك الفصائل فى فرض الاتاوات على الفلاحين وملاحقة واغتيال الثوارأينما التقتْ بهم)) (كفاح الشعب الفلسطينى قبل العام 1948- مركزالأبحاث – منظمة التحريرالفلسطينية- لبنان- ط مايو1975- ص 178) الراوى فى رواية (موسم الفراشات الحزين) رغم أنه مع النضال الفلسطينى ضد الاحتلال الإسرائيلى ، إلاّ أنه (فى نفس الوقت) ضمن الفصيل الإنسانى الذى يرى أنّ نظرية (تطابق المثلثات) فى الهندسة لاتنطبق على البشر، لذلك فهويعترف (كنتُ أعلم أننى أسيرضد التيار، أقصد ضد كل ما يُحيط بى ، سواء من أهل بلادى أومن جانب العدو(ص57) ويتساءل تساؤل المحب لكل البشر((كيف يكون هنا القتل والأشخاص على مختلف الديانات يغدون ويأتون بلا توقف ؟ كيف يكون القتل هنا والقمريحرس أبواب مدينة الله وأزقتها..كان الناس ينظرون إليك وكأنك الغريب الذى لابد له من الرحيل.. غربة فى بلدك وغربة داخلك.. تلك الغربة التى تأكلك من العظم قبل اللحم.. كم أنت قاسية أيتها الحياة.. ولكن لابد لنا من أنْ نحياك)) وعن (مدينة الله) ذكر((مدينة تصلح لألف دين وألف ملة إنْ أرادوا أنْ يعيشوا بها فقط ، وليس أنْ يقتتلوا . الأطفال يلعبون لعبة العسكروالحرامية فى بطون شوارع ليست بعيدة عن شجرالتين والزيتون . والأحلام تختبىء من قنبلة فى أحشاء دراجة.. مدينة الله بخيلة فى شمسها.. وعفيفة فى أمطارها.. وخبيثة فى ظلمها.. كيف لمدينة تخجل من الحقول أنْ تُصبح رحيمة.. تقتلنى المدينة المقدسة عندما أستسلم لحبها.. وعندما أحتاط منها تلاحقنى بدلال ومكركثير.. أنا هنا فى المدينة المقدسة.. ويجب أنْ أعيش.. ويجب أنْ أجبرها على الخضوع لظلى ولورودى)) (ص76، 77) وبعد أنْ خاضت مصرحرب أكتوبر1973لتحريرسيناء ، قال إنّ مصركانت تحارب من أجل تحريرأرضها ، وليس من المفترض أنْ تحارب من أجلنا.. كانت هذه احدى مشاكلنا منذ حرب النكبة.. ننتظرمن بلد آخرالحرب من أجلنا.. ولكن هل يُعقل أنْ نطلب من آخرالموت من أجل حقولنا ؟)) (ص69) وما ذكره أسامه حبشى على لسان بطل روايته ، أكده الكاتب الفلسطينى أ. عبدالقادرياسين بلغة المؤرخ المحايد فكتب ((على أنّ التضامن العربى على اتساعه وعمقه وفائدته العملية للكفاح الفلسطينى آنذاك ، كان له جانبه السلبى أيضًا ، إذْ أدّتْ المبالغة فى قوته وفعاليته إلى تعويل الجماهيرالفلسطينية عليه أكثرمما يجب . كما أنّ تلك المبالغة فتحتْ الباب واسعًا أمام تدخل الملوك العرب ، الموالين للاستعمارالبريطانى ، لوأد الثورة لصالح أسيادهم المستعمرين)) (مصدرسابق – ص 176، 177) وإذا كانتْ الرواية بها شخصيات مثل أم الراوى وأبيه وجده وصديق الجد المتشبثين بالأرض وبفكرة العودة . وكذا شخصية (الدليل) الذى يرشدهم إلى بيوتهم ويرفض أخذ المقابل المادى ، ففيها أيضًا شخصية ابن ابراهام الذى تعامل مع العدوحتى رأس الحكومة الفلسطينية. وفيها سارة حفيدة ابراهام التى كانت رفيقة صبا الراوى ، ولكنها تهاجرإلى أمريكا وتصيرنجمة مشهورة تحت اسم (إيرما) وتصنع ((أفلامًا تُمجد بلدًا ولد من إعلان للهرب من مسئولية تحمله فى مكان آخر)) (ص108) فى إشارة دالة على أنّ سارة الفلسطينية تصنع أفلامًا تُمجد دولة الاحتلال الإسرائيلية. وبينما ابن إبراهام وحفيدته سارة يعملان لصالح العدو، فإنّ إبراهام لصيق بالوطن الفلسطينى ومؤمن بحق الشعب الفلسطينى فى أرضه ، لذلك قدّمه الكاتب كأحد أصداقاء جد الرواى . وكان الكاتب موضوعيًا وهويطرح رؤية الفصائل الفلسطينية من معاهدة السلام بين مصروإسرائيل ، فكتب على لسان الراوى ((كانت الجهة التى تُمثلنا كالمفاتيح التى نحملها ، مسكينة. تنتقل من بلد لبلد كأنّ الترحال مصيرها كمصيرمن تُمثلهم. نعم كانت عنيدة هذه الجهة ومحبوبة وقوية. ولكن أنْ تود استرداد منزلك من شخص يُقيم فيه.. أمرصعب كصعوبة أنْ تصنع فيلمًا عن وردة. وجدتْ جهتنا فرصة للجلوس فى اتفاقية السلام .. ولكن لم تحضرجهتنا.. الحقيقة.. كانت هذه الاتفاقية محل خلاف شديد من الجميع)) (ص83). رمزالمفاتيح والفراشات : اعتمد الكاتب على عدد من المفردات والاشارات (بلغة فن الرواية) لتعميق أبعاد فكرة الوطن (خاصة الوطن المحتل) فنجد الشخصيات يتردّد على لسانها كلمة (المفاتيح) فى أكثرمن موضع فى الرواية. فعندما يتذكرالراوى أهله وجيرانه قال ((تستطيع أنْ تقول إنهم قد تأقلموا مع هذا الوضع الجديد.. ولكن على الرغم من كل هذا فلم يفقد أحد المفتاح الذى بجيبه.. كم كانت كثيرة هذه المفاتيح التى تدل على منازل هناك.. كان الجميع يحتفظ بمفتاح بجيبه أوفى رقبته. يختلس النظرإليه أحيانًا فى أوقاته الصعبة الحزينة)) (ص17) وعندما بدأتْ انتفاضة الحجارة (التى لم يشرإليها الكاتب بأية اشارة مباشرة) قال الراوى ((استيقظتْ مفاتيح المنازل.. تلك المفاتيح الصدئة فى الجيوب)) (ص96) أى أنّ الكاتب ربط بشكل فنى بديع بين بداية الانتفاضة الفلسطينية واستيقاظ المفاتيح ، فى رمز دال على التمهيد لعودة المهجرين الفسطينيين إلى بيوتهم. والسيدة أم رضا المعتقل ابنها فى سجن المحتل الإسرائيلى تقول ((هدموا منزلى فى الصباح يا ولدى. ولم يعد هناك مكان لوضع الورد الذى آخذه منك . أشعربأنى سأموت قريبًا ، ولابد أنْ يصل مفتاح المنزل إلى ولدى)) (ص104). أما رمزالفراشات فله أكثرمن دلالة. فهذا الكائن الرقيق قادرعلى مقاومة كل الظروف البيئية والطبيعية. ففى مشهد غاية فى العمق يفتح الجد البئرللفراشات ((وكلما زاد جدى الفتحة الصغيرة التى صنعها بإزاحته للحجر، خرجتْ الفراشات من البئر.. يا إلهى.. سرب يخرج من البئر.. فراشات جميلة الألوان.. لحظة تفصلك عن لحظة ماضية.. وهذه هى الحياة.. موت وحياة.. إلهى ساعدنى.. فكم من الأسئلة تحوط بى.. كيف للفراشات أنْ تعيش داخل البئر)) وكان الجد قد احتفظ باحدى الفراشات نظرًا لمرضها.. وبعد أنْ عالجها أطلقها لتنضم إلى سرب الفراشات.. فناجى الراوى نفسه قائلا ((جدى يكاد أنْ يرمى بى فى الجنون)) (ص 32) هكذا بلغة الفن ربط الكاتب بين قدرة الفراشات المحبوسة داحل البئرعلى الطيران ، وبين قدرة الشعب الفلسطينى على مقاومة الاحتلال واسترداد أراضيه ، أى استرداد حريته. وأسامه حبشى هنا ذكرنى بقصيدة للشاعرالفرنسى بول إلوار(1895- 1952) كتبها بعد الغزوالألمانى لفرنسا ، وحفظها الشعب الفرنسى وكتبها على جدران البيوت حيث قالت كلماتها ((حمامة جريجة.. الحمامة تنزف.. جاءتْ حمامة ونزعت من جناحيها ريشة.. وحمامة ثانية.. وثالثة.. الحمامة نهضت.. هكذا ستنهضين يا فرنسا)) وأسامه حبشى يجعل الراوى يسأل جده ((أين هى بلدتنا من هنا يا جدى؟)) فكانتْ إجابة الجد ((إتبع الفراشات.. فبلدتنا هناك حيث أول الريح.. وحيث تستقرالفراشات حول البئر)) (ص13) وإذا كان الإنسان يأتنس بالكائنات الرقيقة مثل الحمام والعصافيروالقطط والكلاب ، فإنّ الجد يرى عكس ذلك ، فعندما يسأله حفيده عن سراحتفاظه باحدى الفراشات ، تكون اجابته ((أونس الفراشة يا ولدى)) (ص9) وهنا يأخذ الرمزأكثرمن معنى : الأول (أنسنة) الفراشة ، وهوالمعنى الذى يأخذنا إلى المعنى الثانى : أنّ الشعب الفلسطينى فى حاجة إلى من يجلس معه يؤانسه.. يتضامن مع قضيته. يرتبط بهذا ما قاله الراوى ((أمى تعتقد إنى خلال وقت قصيرسأتحول إلى فراشة أوسأصيرمجنونًا)) (ص36) . اللغة الفنية كبديل عن المباشرة : أشارالكاتب إلى الانتفاضة الفلسطينية التى أخذتْ اسم (انتفاضة الحجارة) ولكن دون ذكرلهذه الانتفاضة بشكل مباشر، وإنما نثربعض الاشارات والايحاءات كناية عن هذه الانتفاضة العظيمة. قال الراوى ((نحن نضع الخبزبجانب الموت.. نضحك ونبكى.. ونفهم الحجر.. هكذا تقول أمى.. بالحجرنبنى.. وبالحجرنحلم.. وفى الحجرنشم رائحة الخبزوأولادنا)) (ص12) وفى موضع آخر قال ((كانت البلاد تفقد أحشاءها أكثرفأكثر.. وحدث أنه ذات يوم – بسبب قتل بعض العمال منا فى بلدة أخرى – انفجرالغضب . معجزة تخرج من بئرمصاحبة لشجرة تين وزيتون.. وفى لحظة تلوّنتْ الحوائط والنوافذ.. صارللفراشات لسان وحلم.. الغضب كان فى المسافة بين يدى والجندى هناك ببندقيته.. يُغنى انتقامًا لبئروشجرة)) (ص 96، 97) وعندما دخل الراوى المستشفى بعد محاولة اغتياله على يد أحد العملاء للعدوقال ((لمحتُ حجرًا بالأرض يبدوأنه سقط من يد طفل مصاب ، بينما هم يُدخلونه المستشفى)) (ص102). البعد الإنسانى فى شخصية الراوى : ترك الراوى العمل بالصحافة. ورفض الاستمرارفى العمل الحزبى ، رأى أنْ يتخصص فى تربية الورد وعشق الورد وبيع الورد. وإذا كانت زراعة الورد تحتاج إلى الماء ، لذلك قال الراوى ((النخلة بالصحراء رأسها فى الحريق وجذورها فى الماء.. فإذا بحثت عن الماء فى الصحراء يجب عليك البحث عن النخلة. وإنْ وجدتها ولم تجد أسفلها الماء فولده من حجارة وجريد)) (ص42) وفى الفقرة السابقة يشرح طريقة توليد الماء من الحجارة والجريد. والراوى كان له صديق يعشق فن السينما ، وعندما يتذكره يقول ((صديقى مسكون بالسينما.. وأنا مسكون بالورد والفراشات)) (ص54) وقال أيضًا ((أريد أنْ أصيروردة فقط ولكن كالفراشات)) (ص 57) ويتذكر((عشتُ مع أم تفتقد ذراعًا.. ورجل بقدم واحدة يكتب (وطن صغير) ويزرع وردًا فى زمن الحرب.. يا إلهى.. أنا بجانب رجل يصنع الجمال من دون ساق)) (ص60) وفى فصل ممتع بعنوان (بريق المحذوف) يناجى الراوى نفسه مسترجعًا تجربة البشرمع المحذوف فى حياتهم فيقول ((نتمنى المحذوف / الجنة. وهناك مئات المحذوفات مثل الجنة. وبتأملى لذاتى ولمن حولى ، وجدتُ أننى أيضًا أحن وأنتمى لمحذوف ما بداخلى : حلم / أمل / رغبة / هدف.. حاضر غائب.. وهناك بريق للمحذوف.. مثل رغبتنا فى العودة لمنازل نعرفها وتعرفنا.. ولكنها محذوفة الآن.. نود أنْ ترجع القرى وتزدهرالأشجارثانية.. كرغبة جميع أحفاد آدم فى عودة الجنة المحذوفة.. ووضع حد لهذا الخصام والغياب اللانهائى.. كنتُ على يقين من أنه سيتوالد من عودة المحذوف محذوف جديد)) (من ص71- 73) وصديقه العاشق لفن السينما قال له ((أنا تزوّجتُ الكاميرا)) فقال الراوى ((كنتُ لا أملك التعليق.. لأنى مثله تزوّجتُ الورد)) (ص82) والصراع العقلى داخل الراوى (بين مقاومة العدو والنزعة الإنسانية) جعله يقول ((فأنا رغبتُ صغيرًا أنْ أكون حاملا للورد.. والآن أشعربأنى أستجمع كل ما فقدته من قبل : أبى / أمى / جدى / حرفىْ اللام والراء.. أنا بدراجتى أشعربحرية كاملة. أمرُبدراجتى هنا وهناك.. ولكن دراجتى قد تحوى قنبلة يومًا ما.. أوقد تصيرمجرد دراجة لاتحمل إلاّ الورد.. ليكن ففى الحياة مسموح بكل شىء)) (ص86) وفى فصل (ضجيج الوردة) يقول ((ولكننى على المستوى الشخصى لا أعرف السلاح. عشتُ بجانب الفراشات والورد والترحال.. فكيف لى باستخدام سلاح.. هناك شاعرنا يحارب بقصيدة.. وصديقى يحارب بكاميرته.. وأنا أحارب بوردة.. أنا أدرك أنّ مدينة الله الجديدة لاتحب البندقية وأنها خرساء. أعبربدراجتى مثل الريح فى أزقة وشوارع.. علنى أموت طائرًا بصحبة وردة.. أنا لستُ كوالد سارة (الذى يقتل الفلسطينيين) أستطيع أنْ أقتل.. ولكنى يجب أنْ أدافع عن بلدى.. ولابد أنْ أقتل.. التفكيريقتلنى.. كم من مرة تحدثتُ مع صديقى المخرج.. لكنه مثلى لا يستطيع أنْ يقتل)) (ص87) ووالد سارة (المتعامل مع العدو) يأمرتابعيه بوضع قنبلة فى دراجة الراوى ((انفجرتْ القنبلة فى الورد وفىّ)) وفى غرفة المستشفى يرى ((مئات الفراشات.. تدور وتدوروهى تصرخ.. موت مؤكد بلا وردة أوفراشة سعيدة لايُعد موتًا طبيعيًا.. الغريب أنّ جميع الأطباء لم يجدوا حلا لهذه الفراشات.. ولا للأطفال أسفل الفراشات.. ولاهناك من حل لنزع حجارة من يد طفل يرقد جانبى.. كيف لهم بنزع حجريؤنسه.. إنى مريض لأنى لا أرى الورد)) (ص101، 102) ويكون ختام الرواية (المفاجأة) فى شخصية الست أم رضا المعتقل ابنها فى سجن العدو، فهى تحرص على شراء وردة كل يوم ، يتجمع الورد فى بيتها ، ترعاه حتى يخرج ابنها من المعتقل. وعندما يعلم الراوى بقصتها يهديها كل يوم وردة بلا مقابل. أما هى فتهديه الخبزوبعض القهوة. وأصبحا صديقين وتجلس بجانبه وهى تُحدث نفسها. وأحيانًا تُغنى غناءً جميلا.. وعندما سألها عن سرشرائها للورد قالت ((وردة تُعيد رائحة الولد يا بنى.. وتؤنس البيت إلى أنْ يعود ولدى)) فكان تعليق الراوى ((كانت هذه المرأة تمتلك قدرة الشعراء فى التعبير. ليتها تكتب الشعرحقًا)) (ص105، 106) ويختتم الكاتب معزوفة الوطن على لسان الراوى قائلا ((أرى صوت الطلقات تستقرفىّ وفى الدليل وأم رضا.. هل سبق لأحد أنْ رأى الصوت ؟ هل من أحد قد سمع الفراشات ؟ أورأى ابتسامات الورد ؟ أبحث عن الدليل والمرأة التى كانت تشترى وردة وحيدة فى مدينة الله الجديدة. فأجدهما يُشكلان منزلا مرسومًا على الأرض.. منزلا نوافذه من دم.. لم يكن هناك مفتاح بالأرض.. فالمفتاح فى رقبة أم رضا.. هكذا تموت الأحلام بسهولة وسرعة فى مدينة الله الجديدة / القدس.. رغرغتْ عيناى بالدموع الأخيرة لى . ولمحتُ فى سكرة الموت روحًا تخرج من طفل. طفل لاينطق اللام والراء.. ومع ذلك أحبّ وردة.. صورة.. فراشة.. حجرًا.. فى بلاد الحرب ، ثم مات فى مدينة الله الجديدة)) (من ص 107- 109). هذا المشهد الختامى يطرح السؤال التالى : إذا كان بطل الرواية يرفض منهج القتل ، ويتسم بنزعة إنسانية ، فلماذا كان اغتياله ؟ وهل كل من يسموبمشاعره نحوتحقيق النبل الإنسانى مصيره الاغتيال ؟ الرواية (بشكل غيرمباشر) تطرح قضية (المحذوف) فى الثقافة السائدة ، إذْ أنّ أنصارالسلام فى إسرائيل وفلسطين ومصرمهمشون وغيرمعترف بهم ، بل توجّه إليهم تهم العمالة لإسرائيل إلخ. وإذا كان الكاتب أهدى روايته إلى الشاعرالفلسطينى الكبيرمحمود درويش ((وردة بحجم وطن)) فإنّ درويش بعد أنْ تخلص من الأسلوب الخطابى الإنشائى كتب ((باطل.. باطل الأباطيل باطل.. كل شىء على البسيطة زائل.. للولادة وقت.. وللصمت وقت وللنطق وقت. وللحرب وقت.. ولاشىء يبقى على حاله (مقطع من قصيدة جدارية) وكتب أيضًا ((أحمد العربى يصعد كى يرى حيفا.. ويقفز.. أحمد الآن رهينة.. تركتْ شوارعها المدينة.. وأتتْ إليه لتقتله.. ومن الخليج إلى المحيط.. من المحيط إلى الخليج.. كانوا يعدون الجنازة.. وانتخاب المقصلة.. موت أمام الحلم.. أم حلم يموت على الشعار)) (مقاطع من قصيدة أحمد الزعتر) وكتب بحس إنسانى رفيع ((كنتُ أحسب أنّ المكان يُعرف بالأمهات ورائحة المريمية.. لا أحد.. قال لى إنّ هذا المكان يُمسى بلادًا.. وأنّ وراء البلاد حدودًا ، وأنّ وراء الحدود مكانًا يُسمى شتاتًا ومنفى.. لنا.. لم أكن بعد فى حاجة للهوية.. والهوية قلتُ.. فقال دفاع عن الذات.. إنّ الهوية بنت الولادة ، لكنها فى النهاية إبداع صاحبها.. لاوراثة ماضٍ.. أنا المتعدد.. فى داخلى خارجى المتجدد.. يُحبُ بلادًا ويرحل عنها.. يحبُ الرحيل إلى أى شىء.. ففى السفرالحربين الثقافات.. قد يجد الباحثون عن الجوهرالبشرى.. مقاعد كافة للجميع)) (من ديوان كزهراللوزأوأبعد- رياض الريس2005) صدق محمود درويش فى قوله الحكيم ((ففى السفرالحربين الثقافات.. قد يجد الباحثون عن الجوهرالبشرى.. مقاعد كافة للجميع)) وهوما يتفق مع رواية (موسم الفراشات الحزين) لكاتب مصرى تناول القضية الفلسطينية من منظورالبعد الإنسانى لإنهاء بشاعة الحروب بين البشر.