-1-
استيقظ على النداء .. جاهد ليخلص نفسه من آثار النوم ، وعندما تنبه عقله تماما ووعى للأشياء المحيطة به التقطت أذناه النداء متضمنا اسمه الرباعى يتردد عاليا من خلال مكبر الصوت .. فى البداية استغرب الأمر وأنكره ولكنه لم يكن يملك أن يكذبه .. فالنداء واضح وصريح ، تحمله نبرات صوت ملئ بالشجن والأسى ويناشده بالعودة رحمة بكل محبيه .. مهيبا بكل من يجده أو يعثر عليه فى أى مكان كان أن يسانده ويقف بجانبه ولا يتخلى عنه .. وبعدها يحاول أن يقنعه بالعودة ومع أنه كان قد استعاد السيطرة على كل حواسه إلا أنه رجح أنه واقع تحت تأثير حلم سئ .. كذبه وصول النداء على اسمه من جديد مضافا إليه وصف كامل عنه .. سنه .. طوله .. شعره الأكرت .. أصابعه النحيلة .. لون بشرته .. مميزات وجهه .. بوادر صلعه الخفيف .. وحمة سمانة ساقه اليمنى ، لم يترك النداء عضوا فيه مهما دق إلا وأشار إليه .. استقام بجعه مستندا على ظهر السرير وقد اعتراه الهول لدقة الوصف وبراعته .. بعد حين أيقن أن النداء لم يعد هزلا أو مجرد لعبة .. انتقل النداء من ذكر اسمه ومواصفات جسمه الظاهرى إلى الإشارة لملابسه التى كانت عليه قبل أن يغيب ويتوه .. حدد النداء القميص الأبيض السادة ذا النصف كم والسروال الرمادى ذا الجيب الواحد .. والحذاء القماشى الخفيف .. حتى ثقب النعل غير الملحوظ المستقر فى الجزء الأيمن الخلفى من "الفردة" اليسرى نوه النداء عنه.
( تساءلت .. أتكون أحداث الصباح وراء هذا النداء؟ .. أم هو مجرد كابوس؟).
-2-
نهض من فراشه وسعى إلى الدولاب ذى الضلفة والظلام يعشش على أرجاء الحجرة .. بحث عن حافظة نقوده ، ثم أخرج منها بطاقة إثبات شخصيته تأملها على ضوء عود ثقاب أشعله .. كان الاسم … والحالة الاجتماعية … هو الاسم .. مطابقة تماما .. والعمل ... هو نفس العمل ، لم يغفل النداء صغيرة فيه أو عنه إلا وذكرها .. حتى خطوط بصمته ودرجة زوايا الانفراج والحدة فيها حددها .. على الفور ملأ طفح أحمر موجع سطح جلده .. ولم تستطع أظافره أن تسعفه فى حك مواقع الطفح استجابة له لوقف نزيف الألم .. عاد إلى السرير فجلس على حافته يتدبر أمره .. أصاخ السمع .. كان النداء يسرى فى صمت الليل ونبرات الأسى والشجن على حالها لا يخدشها إلا نباح متقطع لكلاب .. ومناوشة محمومة بين مجموعة من ذكور قطط حول أنثى تموء .. فكر أن يناوش بدوره عسى أن تنسيه المناوشة آلام الطفح وتلهيه عن النداء .. أو حتى لعله ينهد فينام إن كان مستيقظا حقا .. ولكنه استخف الفكرة فعاد يتدبر أمره .. استقر رأيه على أن يتوجه إلى أقرب مركز شرطة مهما كلفه هذا .. ليقدم بلاغا يطلب فيه التحقيق العاجل وإثبات الحالة .. كان على ثقة أن تنفيذ القرار ستكتنفه الصعاب وتحوطه المشاكل فمنذ وعى وهو يعرف أن دخول مثل هذه الأماكن غير مأمون العواقب أبدا .. وأن الخروج منها بعد دخولها بعد دخولها احتمال واه جدا .. ولكن أن تصبح سيرته هكذا متداولة عبر مكبرات الصوت ، ويُنادى عليه فى كل مكان كطفل تاه فهو أمر لا يمكن السكوت عليه أبدا .. فماذا سيقول الرفاق عنه وبأى وجه يقابل الزملاء ومن يحميه من سخرية اللسن .. اقترب النداء حتى بدا كأنه أسفل النافذة .. جمد فى مكانه وحبس أنفاسه قدر استطاعته والصوت على حاله من الشجن وإن زاد عليه بكاء ملحوظ وهو يصف ما تحت السروال والقميص .. خجل من علانية الوصف وسحب الغطاء يستتر به عن الأعين والآذان.
("مستبيعا" قلت له وكان الصباح مبكرا: اسمعنى جيدا ، أنت لا تهمنى ، ولا من هو وراءك .. أفهمت هذا؟)
-3-
تسلل مكبر الصوت إلى الحجرة ، بالرغم من ظلامها المخيم فقد انكشف له وبان .. كان واضحا لعينيه كل الوضوح .. بدا البوق كدوامة عاتية تسعى لاحتوائه فى جوفها واعتصاره بالرغم من البسمة الرقيقة .. ولأن الحامل النحيل كان أسود سوادا لا مزيد عليه فقد ظهر فى سواد الحجرة بلا عناء .. تقدم الحامل نحوه كما لو كان يدعوه للمبارزة ، استجاب للتحدى وسحب حزام سرواله ورفعه فى مواجهته كسوط .. انثنى الحامل يتحاشى الضربة .. لحظتها خرج النداء من خلال المكبر وقد اكتسى الشجن المألوف برنة عتاب ملحوظ .. ثم تمدد بجواره على الفراش راجيا منه أن يعود إلى محبيه فهم فى انتظاره .. تضخم طفح جلده وتحول بثورا فى حجم ثمار البرتقال فازدادت الحكة والألم .. انتابه العجب فكيف لم يوقظ هدير النداء المتلاحق النائمين معه فى الحجرة .. تساءل بهمس هل هناك احتمال ما أن يكون المكبر قد دس لهم مخدرا فى شاى ما قبل النوم .. صرخ يستنجد بهم ويوقظهم ، لكن صراخه تبدد وضاع ، جاهد كى يبعد المكبر عنه وقد أحس بأنفاسه تجثم فوق صدره ، وتتسلل إلى جسده ، وعندما استطاع أن يتخلص منه اندفع تجاه الباب ليخرج .. لكن الحامل كان هناك فى انتظاره .. تعثر ووقع .. تحامل على نفسه ونهض وقد انتوى أن يعلو بصوته قدر استطاعته ليؤكد أنه لم ينته بعد وأنه متأكد من وجوده ومصداقا لكلامه فهذا البيت هو بيته .. وكل النائمين بالحجرة هم أفراد أسرته .. لهذا فهو يجزم أن النداء وراءه وشاية واش وتدبير مقصود .. وأنه سيحاول أن يثبت صحة اعتقاده هذا .. وسيظل حتى آخر لحظة لا يوافق على ما يقوله النداء.
(رفضت أن أذهب معه وقلت له عد من حيث جئت وقل لمن كلفوك باستدعائى أننى رفضت).
-4-
أضاء المكبر مصباح الحجرة فظهرت محتوياتها .. سرير معدنى متواضع .. مقعد خيزران .. دولاب يتيم الضلفة .. مائدة محملة بالكتب والأوراق وبعض الأقلام .. أغشى النور عينيه فحجبهما بكفيه لفترة .. ثم رفعهما وتأمل ظلال المكبر على الحائط وهو يرتكز على الحامل الأسود كخنزير .. استدار ليراه مباشرة وعلى الطبيعة ، فاستدار المكبر بدوره متواريا وراءه يطول ويقصر حسب موقعه من ضوء المصباح .. كف المكبر عن النداء عليه وهو مختبئ خلفه ثم التصق بظهره وسأله: ألم يحن الوقت بعد لتعود؟
جارى استهباله وسأله:
ـ وإلى أين تريد منى أن أعود؟
ـ إلى حيث ما كنت.
ـ لكنى كنت هنا أبدا وأنت تعرف هذا ، وبوسعك أن تسأل هذا المقعد وتلك الكتب وهذه الأوراق وتلك الأقلام.
ـ لكنى أسألك أنت ..
ـ اسمع ..
ـ تكلم ..
ـ أكيد لك قصد ما .. قل لى بصراحة ما هو؟ .. وماذا تريد منى؟
ـ أن تعود ..
تضخم طفح جلده حتى أصبحت كل حبة منه فى حجم البطيخة الكبيرة ناء جسده بحمله فتهالك فوق الفراش لا يقدر على صلب عوده ..
(وأنا واقف أمامه مكمم الفم ، محجب العينين موثوق اليدين والقدمين .. صنعت من أنفاسى صوتا ردد ما أردت قوله).
-5-
استقر المقام بالمكبر فى الحجرة واستطابت له الإقامة فيها ، ومع ذلك ظل حريصا على النداء عليه بهمة لا تعرف الكلل ولا الفتور .. على غير توقع من جانبه أحس بنبرة الشجن تختفى من النداء لتحل محلها نبرة حماسة مقصودة .. تضايق .. وازداد غضبا وهو يرى الحجرة تنزرع كلها .. حوائطها .. سقفها .. أرضيتها بعدد لا يحصى من المكبرات مختلفة الأحجام والأشكال والألوان .. وكلها تردد خلف المكبر الأول النداء .. التصق المكبر بأذنه وهمس .. من البداية كان من الواجب أن تعود وتترك عنادك جانبا ولا تركب رأسك ، ووعد لك منى مؤكد أنك ستلقى كل الترحاب والاهتمام لو رجعت .. وأن الكل سيحيطون بك ولن يتخلوا عنك .. اخترق الهمس عظام جمجمته كسكين حاد .. خشى على رقائق مخه من التمزق والتفتت .. فتحامل على نفسه ، وجز أسنانه ولم يعبأ حتى بثمار البطيخ النابت فوق جلده وهو يراها بعينيه تتحول إلى كتل صخرية تكبل حركته .. ازداد إصرارا أن لا يترك مخه يتحول إلى سائل يتساقط قطرات أمام ناظريه .. ترعرعت حوامل المكبرات بجنون متصاعد متزايد وصنعت حوله غابة متشابكة من الأفرع والسيقان وأحاطت به فى سياج محكم لا مهرب له منه .. جاءته فكرة أن يخنق الحوامل النابتة فى محاولة من جانبه للوصول إلى المكبر الأول ولكن إحساسا داخليا لم يبارك فكرته .. استحسن أن تتم المواجهة مع المكبر الأول وجها لوجه .. احتاط المكبر للأمر فحصن نفسه بالعديد من الحوامل والمكبرات الصغيرة والمتوسطة حتى أصبح الوصول إليه مستحيلا .. ثم كثف مع توابعه النداء عليه قبل أن يعلن له فى صراحة ووضوح أنه إن لم يعد بخاطره ورغبته فسيعودون به رغما عنه وبكل السبل أيا كانت .. أكد النداء أن لا مجال للاختيار أبدا .. وأنه من لحظة الإعلان عنه بأنه تاه والأمر جد لا هزل كما تصور .. وأن مجرد فكرة خروجه هكذا برغبته وبدون إذن فكرة فوق أنها سخيفة أصلا فهى أيضا ستسبب له الكثير من المشاكل .. قابل الصراحة مثلها وأعلن بدوره فى وضوح وهو مستمر فى نزع الكتل الصخرية عن جلده .. أنه إن لم يكن قد خرج فى الماضى حقيقة أو حلما .. فسيخرج فى الحاضر وأيضا المستقبل .. وأنه قد انتوى فعلا أن يتوه برغبته وإرادته ..
(فى الحجرة المظلمة كنت وحيدا إلا من حشرات ضارية ملتصقة بجلدى تمتص دمى بصوت مسموع .. عز على أن تأتى النهاية على هذه الصورة .. تساندت على الباب الحديدى الأصم كمصلوب ثم صنعت من شعاع عينى معبرا يصلنى بالخارج)
15/9/1985
من مجموعة الصعود إلى القصر
ديسمبر 1987.
النــــداء
بقلم: مصطفى الأسمر - في: السبت 18 نوفمبر 2017 - التصنيف: قصص
فعاليات
مناقشة رواية النباتية لهان كانج الحاصلة على جائزة نوبل للأدب
نوفمبر 08, 2024
تمت منااقشة رواية النباتية يوم الجمعة 8 نوفمبر 202...
Art Auction: Support Palestinian Families in Gaza
أكتوبر 18 - 20, 2024
Join us on October 18th for Art for Aid, an online...
مناقشة نصف شمس صفراء لشيماماندا نجوزي أديتشي
سبتمبر 28, 2024
تمت مناقشة رواية نصف شمس صفراء للكاتبة النيجيرية ش...
إدوارد سعيد: الثقافة والإمبريالية
يوليو 27, 2024
تمت مناقشة كتاب الثقافة والإمبريالية لادوارد سعيد...