حوار مع الكاتب ادوار الخراط
محمود الورداني-أخبار الأدب
الرواية السادسة عشرة لأدوار الخراط 'الغجرية ويوسف المخزنجي' هي جزء من مشروع كبير أنجزه ومازال ينجزه كاتبنا الكبير.. وكما يصفها ادوار نفسه في العنوان الذي اختاره 'فانتازيا روائيه' يلعب فيها خيال الكاتب الشاب ادوار الخراط، دورا اساسيا، حيث يقدم مأساة فانتازية، ربما تعود اصولها للمآسي الفرعونية القديمة، كما وصلتنا عبر الاساطير والحكايات.
نعم.. أكتب رواية واحدة وضد كتَّاب 'الوصفة الرائجة'!
يكاد الخراط أن يكون قد لعب دورا مزدوجا تجاه الأجيال الجديدة فهو أحد الآباء الكبار، وفي نفس الوقت أحد المجايلين للكتاب الجدد. يغامر، ربما، مغامرات أكثر جنونا من مغامراتهم.. ولعل آخر مغامراته هي اقامة معرضه التشكيلي الثاني، بعد معرضه الجماعي الأول، والذي يضم أكثر من أربعين لوحة كولاج يعرضها الشهر القادم في مركز الهناجر، وسيجدها القاريء مصاحبة للفصول التي يستضيفها البستان من آخر مغامرات الخراط الروائية: العذراء ويوسف المخزنجي. من جانب آخر، سيكتشف القاريء المتابع لكاتبنا الكبير، ان ثمة وشائج تربط بين مغامرته الجديدة وسائر المغامرات السابقة، فكل أعمال الخراط هي جملة موسيقية تعزفها كل الآلات منفردة ومجتمعة في مشروع ابداعي وفكري ونقدي واحد تناوله في كل أشكال الفنون التي عالجها من قصة ورواية وقصيدة ولوحة. وشأن أعمال أخري للخراط، ان لم تكن كل أعماله، يعود للاسكندرية المبدأ والمنتهي، وتختلط اسكندرية الاربعينيات في القرن الماضي باسكندرية أوائل هذا القرن، فالخراط واحد من أكثر الذين شغلوا بتحطيم الزمن وتهشيم المكان والجرأة في التعامل مع اللغة بوصفه أحد العارفين بأسرارها. لا أسعي في هذا التقديم لتناول 'العذراء ويوسف الغجري' فكل أعماله عصية علي التلخيص، وكل أعماله أيضا هي نفس العمل، وفي ذات الوقت عمل آخر تماما!! ربما كانت مغامرته الأخيرة أكثر وضوحا في تعبيرها عن انتماء أدوار لمصر القديمة ومصر القبطية ومصر الاسلامية بكل رموزها وثوابتها الضاربة في القدم.. سألته: تتراوح مستويات اللغة لديك منذ رامة والتنين وحتي العذراء ويوسف الغجري بين اللغة البلاغية المثقلة واللغة السريالية المجنونة.. والآن تنتهي الي لغة 'شعبية' ولا أقول عامية.. لماذا؟ منذ بداياتي المبكرة، ربما منذ مجموعتي الأولي 'حيطان عالية' وللغة الشعبية مكانها الضروري الذي تحتمه ضرورات العمل الفني نفسه. بطبيعة الحال ليست اللغة شيئا منفصلا عن شحنتها أو خبرتها، فهما عندي لاينفصلان، وبالتالي فان المقولة التقليدية المأثورة مازالت مشروعة وصحيح: لكل مقام مقال. لكن الغجرية ويوسف الغجري خطوة متقدمة في هذا المجال.. ألا توافقني؟ أي أن هناك ما يشبه القصدية؟ لدي مزيج من العفوية والقصدية وأحيانا تتغلب احداهما علي الأخري. والحقيقة انه لم يكن لدي قصد معين او نية مسبقة مع العمد والاصرار علي ارتكاب الجريمة!، بل 'هي جت كده'!، طبعا اتصور ان السياق فرض هذه اللغة، واظن ايضا ان اللغة الشعبية مغوية بثرائها الخاص، ومذاقها ونكهتها التي لايحل محلها شيء آخر. يري البعض أنك تكتب كتابا واحدا.. ففي الرواية الأخيرة اصداء من أعمالك السابقة ومجمل أعمالك تربط بينها وشائج واضحة.. ما رأيك؟ نعم.. أكتب كتابا واحدا، لكن اظن انه كتاب لاينتهي بطبيعته لأنه ممتزج بالحياة نفسها. واذا كانت خبرة الحياة واحدة في جوهرها، فهي ايضا متنوعة تنوعا لا نهائيا في تجلياتها المختلفة. أتصور اذن ان كتابتي واحدة، ولكنها متنوعة جدا، او هكذا ارجو. تكاد الخبرات والمشاهد وحتي الشخصيات في أحدث رواياتي ان تكون متطابقة مع مثيلاتها في أعمال قصصية سابقة (وربما لاحقة) لكن اظن ان طريقة الصياغة والتناول تختلف، وارجو ان تكون الكتابة في كل مرة طازجة وبكرا. بحيث تكتسب جدة ونضارة لم تكونا موجودتين في التناول السابق، او في عدة مرات للتناول السابق، لنفس الحدث او الخبرة. ومن هنا فان القول المأثور: ان الشكل هو نفسه المضمون يكتسب مصداقية مرة اخري، او هكذا ارجو. كنت أبا لعدة أجيال.. الآن.. وبعد ان انتهيت من العذراء ويوسف الغجري.. كيف تري المشهد الروائي الحالي؟ هذا الموضوع يحتاج الي دراسات كما تعرف والانطباع السريع ان هناك علي الأقل جناحين. الأول يحظي باقبال جماهيري علي نحو ما، وبتقدير يدهشني شخصيا من كتاب ونقاد مازلت احترمهم، وهو جناح الوصفة الرائجة' الذي تجمع بين توابل سياسية وجنسية وشطارة في تنسيق وتوضيب المسائل. والجناح الآخر هو الجناح الحقيقي الذي لايحظي بتقدير أو اقبال نقدي او جماهيري. وهذا امر منطقي تماما اذا ادركنا مدي التردي الذي يعتري حياتنا الثقافية وغيرها من النواحي الان. هذا الجناح الذي يعني بماهو من هموم ومباهج الفن الحقيقي والذي تسري فيه شرايين من الفكر والتأمل والصدق، دون اعتبار لما تتطلبه ذائقة افسدتها المسلسلات التليفزيونية التافهة من ناحية، وتقييمات كتاب يؤثرون السهولة والتسطيح ودغدغة الحواس، علي ما يثيره الفن الحقيقي من قلق ومتعة تتجاوز الدغدغة والبهارات. لنتحدث علي الأقل عن الجناح الذي تمثله انت وامتداداته الحالية؟ أحيلك الي كتابين صدرا لي، وطبعا لم يلقيا اي اهتمام نقدي حقيقي كما هو معتاد، اي ان المعتاد ان العمل الجدي علي الأقل لايلقي اهتماما، وهما كتابا 'المشهد القصصي' و'القصة والحداثة'، وفي كل منهما مقدمة ضافية لعلها تجيب الي حد ما علي السؤال. باختصار، يمكن القول ان جناح الفن الحقيقي في الرواية المصرية والعربية المعاصرة هو جناح السردية التي تجمع بين الجمال في الشكل والعمق في الفكر القصصي او الروائي ان صح التعبير، وتنم كتابات هذا الجناح عن اهتمام حقيقي بما يسمي القضايا الكبيرة'، وهي بالقطع ليست الشعارات السياسية التي تمخضت عن خواء وهزائم مازلنا نعاني وسنعاني الي حد غير منظور من عقابيلها الوبيلة، ولكنها القضايا التي تمس بشكل او بآخر مسائل فلسفية في ظاهرها وفنية وانسانية في صميمها. وهل كل جناح منهما له ملامح مشتركة؟ يمكن طبعا استخلاص مثل هذه الملامح، وان كان هناك تميز لكل كاتب وربما لاينتمون لتيار واحد. والسمات المشتركة مثلا في جناح الوصفة الدائمة هي ما اسميته التوابل الجنسية والسياسية التي تطغي علي طعم العمل كله طغيان 'الكاتشب' علي مذاق الأكل البلدي اللذيذ. والجناح الثاني هو الذي نحس فيه اهتماما صادقا بما اسميه لواعج واهوال الحياة ومباهجها في الوقت نفسه، واعني بالطبع الحياة والموت والحب والظلم والكرامة والامتهان.. وهكذا مما نعانيه ونكابده في حياتنا وحلمنا علي السواء. وما الأعمال الروائية التي لفتت نظرك في الفترة الأخيرة؟ المسرغون لحسني حسن واستعراض البابلية لعاطف سليمان وهاجس موت لعادل عصمت ورباعية 'في زماننا' لتوفيق عبدالرحمن، ومسالك الأحبة لخيري عبدالجواد وان تري الان لمنتصر القفاش. كنت قد تعرضت نقديا من قبل للروايات التي تكتبها النساء.. هل يشكلن تيارا الآن، وما نماذج هذا التيار؟ تعرضت لهذه الروايات من بين أعمال روائية اخري، لكني لا اعتقد انها تمثل تيارا خاصا. اتصور انها تندرج مع مجمل التيارات القصصية والروائية دون ان تكون لها الا الخصائص المتفردة بذاتها لكل كاتب أو كاتبة دون ان تكون تيارا له حق الوجود المنفصل عن التيارات الاخري. الانطباع الذي يتكون عندي الان هو ان اصطلاح الأدب النسائي ليس له رصيد فعلي في الواقع السردي أو الكتابي. لو رفعت اسم الكاتبة ووضعت اسم كاتب لما نال روايته ضير ما، لانه في النهاية بعض الكتابات التي يكتبها كتاب رجال تتميزبما يمكن ان نسميه ادراك للحاسة النسوية. الكاتب أو الكاتبة الحق قادر علي ان ينطق ما ليس له صوت فما بالك بان يدرك وينقل حساسيات متنوعة. لماذا تتصدر الرواية كجنس ادبي المشهد الكتابي عموما حتي ان هناك رواية تصدر كل اسبوع ولكتاب يجربون حظهم للمرة الأولي؟ وحتي الشعراء يلجأون للرواية، لان الرواية كما يتضح يوما بعد يوم جنس ادبي شديد المرونة والطواعية لتمثل واستيعاب منجزات واكتشافات الأجناس الأدبية الاخري. وحتي الفنون غير القولية كالموسيقي والسينما، علي نحو أكبر بكثير من الشعر أو حتي المسرحية او الرواية السينمائية. من ناحية هناك هذه الغواية التي تكمن في صميم خصائص الرواية كجنس ادبي بما يتصوره البعض من امكانية للاسهاب والهرولة والثرثرة.. ولعلنا اذا نظرنا الي التاريخ الأدبي القريب نجد مثل هذه الظاهرة قد تكررت بالنسبة للقصة القصيرة في زمن ما وقصيدة النثر الان... وغير ذلك. لكني أتساءل لماذا الان علي وجه التحديد؟ لا اريد ان اربط الربط الميكانيكي السهل وهو صحيح الي حد كبير بين العمل الفني والظاهرة الاجتماعية من المؤكد ان الظاهرة الاجتماعية المعقدة لها اثرما في ان الكتاب الجدد او القدامي الناثرين منهم او الشعراء يلجأون للرواية. ولكن أتصور ان المسألة ربما كانت اكبر من هذا، وعموما خصائص هذا الجنس الأدبي بالذات هي التي تغوي بعض الكتاب واحيانا تقودهم الي حتفهم الفني! أية خصائص؟ خصائص المرونة والقابلية وتمثل الأجناس الاخري وامكانية الثرثرة وتعدد الشخصيات والغوص الي دواخل النفوس.